بول أوستر: "غاية الفن هي أن يظل أقرب ما يكون للحقيقة"

حاورته: كلير شازال Claire Chazal

ترجمة: عزيز الصاميدي



يقدم لنا بول أوستر Paul Auster كاتباً أميركياً شاباً، غير معروف في فرنسا، هو ستيفن كرين Stephen Crane الذي ولد في عام 1871، وتوفي عن عمر يناهز 28 عاماً، والذي يشبه أوستر في جوانب عديدة. فقد نشأ كلاهما في مدينة نيوآرك بولاية نيوجرسي، وأحب رياضة البيسبول، كما لاقى كلاهما مصاعب جمة في بداية حياته ككاتب. وربما كان كل منهما شاباً متوهجاً، وحيداً وعنيداً. وتروي لنا سيرة "الفتى المتوهج أو المحترق Burning Boy "، قصة الحياة القصيرة لستيفن كرين في أدق تفاصيلها، وتحلل لنا أعماله بريشة كاتب عاشق للكلمات.


 



✧ "Burning Boy" هو عنوان لكتاب ضخم، استخدمتَ فيه زخماً هائلاً من التفاصيل والتحليلات والإحالات؛ لكي تسرد حياة الكاتب الأمريكي ستيفن كرين، الذي لا نعرف عنه نحن الأوروبيين إلا النزر اليسير. لماذا انخرطت في هذا المشروع؟

بول أوستر: من الصعب جداً أن أحدد لكم لماذا، ولكن بمقدوري أن أوضح كيف. بعد الانتهاء من رواية "1234"، وهي أيضاً رواية ضخمة تطلبت مني ما يقرب من أربع سنوات من العمل المكثف، كنت منهكاً. وللمرة الأولى منذ وقت طويل جداً، اتخذت قراراً بعدم كتابة أي شيء، وأخذ قسط من الراحة أستغله للغوص في الكتب التي حال ضيق الوقت دون قراءتي لها في السابق. ومن ضمن هذه الكتب مجموعة من النصوص المختارة لستيفن كرين، وهو مؤلف كنت قد اكتشفته في المدرسة الثانوية، وأحب أعماله كثيراً. قلت لنفسي بأن الوقت قد حان لإعادة اكتشافه. وهكذا بدأت بروايته القصيرة "الوحش"، والتي لم أكن قد سمعت بها أبداً من قبل. قرأت بإعجاب كبير هذه الصفحات الستين، التي تحكي بكثير من الحدة والسداد ما عاشته أمريكا، والصراعات التي نخرتها خلال القرن العشرين. شعرت بالحاجة إلى قراءة ومعرفة المزيد عن هذا المؤلف الذي توفي في سن مبكرة جداً، حيث لم يتجاوز عامه الثامن والعشرين. لقد طغى عليّ أسلوبه الساطع والمتفرد، وما كان ينقله عبر اللغة بموهبة لا يمكن إنكارها في استخدام الاستعارة، وفهم كبير لعلم النفس وللشرطية الإنسانية عموماً. قرأت الأعمال الكاملة لستيفن كرين، وكان إعجابي به يكبر مع تقدمي في القراءة.
 

✦ هل يمثل ردك الاعتبار لهذا المؤلف محاولة لرفع الحيف عنه، كما أشرت إلى ذلك في بداية الكتاب؟

في البداية، قرأت نصوصه بهدف المتعة الخالصة، ثم بدأت بالتوازي مع ذلك أجمع معلومات عن حياته المهنية. كانت فكرتي في البداية لا تتجاوز تكريس كتاب قصير لتسليط الضوء على حياته، لا يزيد عن مائتي صفحة، لكنني اكتشفت مدى غنى هذه الحياة ومدى استثنائيتها. واستغربت كثيراً لقلة الاهتمام به وندرة ما كتب عنه. فأردت أن أبين مدى أهمية هذا الكاتب وما يمثله.
 

✧ أنت ولدت في نيوآرك، بولاية نيو جيرسي، مثل ستيفن كرين. ومثله أيضاً واجهتك صعوبات في البداية. إلى أي مدى تشعر بأنك قريب منه؟

إنها مصادفة طريفة أن كليْنا قد ولد في نفس المدينة، لكن هذا الأمر لا يفسر اهتمامي به [يضحك]! وهو أيضاً كان مثلي لاعب بيسبول جيد جداً! وأنا أدرك الصعوبات التي واجهها في بداية حياته المهنية؛ كي يتمكن من نشر أعماله، خاصة وأن طريق الكتابة في تلك الفترة كان شائكاً بالنسبة للكتاب الشباب. إذ لم تكن تقدم لهم أية مساعدة، ولم تكن تفتح في وجوههم فرص الولوج إلى الوظائف التعليمية. وكان لزاماً على العديد من الكتاب الأميركيين في القرن التاسع عشر أن يكافحوا من أجل الحصول على لقمة العيش.
 

✦ كان يعمل صحفياً وقد غطى صراعات عديدة. هل تجربته كمراسل صحفي، والتي قربته كثيراً من الواقع الاجتماعي، أضافت شيئاً إلى كتاباته؟

نعم؛ الغاية من الفن هي أن يكون أقرب ما يمكن إلى الحقيقة. إنه مسعى يتطلب اهتماماً غير منقطع، إذ يجب أن نواصل البحث مراراً وتكراراص وبكامل التفاني. كان كرين يمتاز بالقدرة على عدم الالتزام بمقاربة صحفية خالصة. ونحن نجد أيضاً بعداً فكاهياً في نصوصه، أشكالاً سردية قريبة من السكيتشات. كان يتناول مقالاته مثلما يتناول أعماله الروائية. وكان الغموض يكتنف كتاباته في بعض الأحيان، خاصة عندما كتب عن نيويورك - فمن المستحيل معرفة ما إذا كان ما يصفه واقعاً أم أنه كان يتخيل فقط. وعلى الرغم من ذلك فالقارئ يجد في كتاباته قدراً كبيراص من الصدقية. لقد كانت روايته لبعض الأحداث من الواقعية بحيث يعتقد المرء أنه كان متواجداً في مسرح الأحداث وقت وقوعها، مع أن الأمر لم يكن كذلك. وبهذه الطريقة كتب روايته "شارة الشجاعة الحمراء". فعندما صدر هذا الكتاب، اعتقد الكثيرون أن المؤلف قد خاض هذه الحرب بالفعل، مع أنها في حقيقة الأمر قد انتهت قبل ولادته بوقت طويل. فقدَمَا كرين لم تطآ ساحة المعركة، ولكن كانت لديه قدرة كبيرة على الخيال، وعلى الاستماع إلى الآخرين. إنه ليس فقط أفضل كتاب عن الحرب الأهلية، بل هو الكتاب الوحيد الذي يستحق الذكر! الروايات الأخرى حول هذا الموضوع ليست على نفس المستوى.
 

✧ قلت في معرض حديثك عن هذا الكتاب أن ستيفن كرين كان مهتماً بوعي البطل الشاب، ومخاوفه، والدراما الداخلية لديه أكثر من اهتمامه بالوقائع التاريخية وبالحرب نفسها...؟

هذا بالضبط هو ما يجعل من "الشارة الحمراء للشجاعة" رواية حديثة جداً وقوية جداً. فالعديد من الروائيين العظماء من قبيل زولا Zola وتولستوي Tolstoï، كتبوا عن الحرب. ولكن ليس بهذه الطريقة، وليس بمثل هذا النفاذ إلى دواخل الشخصية. هذه الرواية تكاد تكون دراسة نفسية لشاب (هو هنري فليمنغ Henri Fleming)، لا يُعرَف كم عمره حقاً، حتى إن البعضَ يفترضون بأنه لم يتجاوز 16 أو 17 عاماً، وأنه لم يبلغ سن الرشد بعد.

إلى جانب "الشارة الحمراء للشجاعة"، تشكل روايات "ماغي، فتاة الشوارع"، و"القارب المفتوح"، و"الفندق الأزرق"، و"الوحش" أعظم أعماله، وهذه الروايات هي التي يجب أن يبدأ بقراءتها كل من ينوي اكتشاف أعمال ستيفن كرين. أما رواية "العروس جاءت إلى يالوو سكاي" فهي تميط اللثام عن الحس الفكاهي الكبير للمؤلف، إنه نص هزلي للغاية يوضح ما مدى التغيير الذي طرأ على غرب الولايات المتحدة، وكيف أفسح العالم القديم المجال لبزوغ العالم الجديد. القصة قصيرة جداً، عشر صفحات فقط، ولكنها غنية جداً.
 

✦ بمن من الكُتّاب يمكننا تشبيهه؟

يمكننا مقارنته بجيمس جويس في مرحلة شبابه. ليس لأنهما متشابهان، ولكن أعتقد أن كرين كان من أوائل الكتاب الذين أدركوا بأننا في مجال الكتابة الروائية، يمكن أن نركز على العالم الداخلي للشخصيات، دون أن يعوق ذلك الحديث عن الواقع من حولهم. في كتابي، أشير إلى مقال يصف فيه زيارته إلى سجن سنغ سنغ Sing Sing، بدءاً من غرفة الإعدام إلى المقبرة التي يدفن فيها السجناء. هذا النص يمثل تعريفاً جيداً بالطريقة التي ينهجها كرين في عمله، والتي تقع على خط رفيع يفصل بين ما هو غامض وما هو ملموس. وهو المجال الذي لم يتوقف قط عن استكشافه في كل أعماله.
 

✧ في كتابك، أنت تقيم مقارنة تشبه من خلالها حياة ستيفن كرين بأسطورة سيزيف، مما يجعلنا نفكر حتماً في ألبير كامو Albert Camus. ما الذي يجمع في رأيك بين هذين الكاتبين؟

أعتقد أن هناك ترابطاً حقيقياً بين ستيفن كرين وألبير كامو. فقد كان مفهومهما للحياة مفهوماً واحداً. نشأ كرين في عائلة متدينة جداص، وكان والده قساً. رفض هو هذا النموذج وسرعان ما أدرك أنه يعيش في عالم بدون إله يطغى عليه العبث والاعتباطية. فتساءل كيف للمرء أن يجد المعنى في عالم عبثي؟ وكانت خلاصاته قريبة جداص من تلك التي توصل إليها ألبير كامو: لا بُدّ من المضي قدماً في الحياة على الرغم من عبثيتها. علمته تجربته أن البشر يرتبطون ببعضهم من خلال القيم الأخلاقية، وأن غياب التضامن أدى بالإنسانية إلى الاندحار. وكان يعتقد أنه من الضروري الحفاظ تحت أي ظرف كان على شكل من أشكال الارتباط لجعل كل هذا محتملاً. هنا تبدو المقارنة بسيزيف واضحة تماماً: فقد استمر كرين في الكتابة خلال العام الأخير من حياته، وحتى عندما كان في أسوأ حالاته، لم يتوقف عن المضي قدماً. ومن قبيل المصادفة الغريبة أن كليهما كان مصاباً بالسل.
 

✦ كلاهما كان صحفياً أيضاً؟

... ورياضياً! كامو كان لاعب كرة قدم جيد جداً. وكانت المواقع التي يلعب فيها كل منهما في كرة القدم والبيسبول، بغض النظر عن اختلاف اللعبتين، هي نفس المواقع.
 

✧ في نهاية الكتاب نقرأ ما يلي: "كان من الضروري أن نتذكر هذا الشاب الذي كان متوهجاً خلال هذه الفترة المظلمة من تاريخ أميركا. ما أوجه الشبه بين تلك الفترة من التاريخ الأميركي والفترة التي نعيشها اليوم؟

من بين الأشياء التي أثارتني خلال عملي البحثي، كان هذا الجزء غير المعروف من الحرب الإسبانية الأمريكية عام 1898. إن النضال الطبقي والعنصرية وقوانين جيم كرو Jim Crow في نهاية الحرب الأهلية الأمريكية، تذكرنا كثيراص بما شهدناه مؤخراً في الولايات المتحدة، حيث يوجد في بلدنا إلى اليوم نفس التفاوت بين الأغنياء والفقراء الذي كان قائماً في ذلك الوقت. وقد ازداد الأمر سوءاً. إنه التاريخ يعيد نفسه وهو أمر مأساوي. لقد ألفت هذا الكتاب بينما كان دونالد ترامب ما يزال رئيساً، وعلى الرغم من أنه لم يعد في السلطة، إلا أننا لم نقطع بعد مع ذلك العهد. لا أعرف الشكل الذي سيكون عليه المستقبل، ولكنها كانت لحظة مظلمة جداً من تاريخنا.
 

✦ بالحديث عن المستقبل، هل لديك أية مشاريع تأليفية جديدة؟

انتهيت من كتابة "Burning Boy" في شهر فبراير 2020، قبيل تفشي الوباء. خلال هذه الفترة، قضيت الكثير من الوقت في مرحلة ما بعد إنتاج الكتاب. وكان من الضروري وضع الهوامش والإحالات وجمع الصور الأرشيفية. وكان لزاماً عليّ أيضاً أن أكتب ثبتاً للمصطلحات، وهو ما لم يسبق لي أن فعلته من قبل. ثم انشغلت بتصحيح الكتاب والنشر... لذلك بقيت منشغلاً جداً في العمل على هذا المؤلَّف فترة طويلة بعد الفراغ من كتابته. ولقد انتهيت للتو من كتابين آخرين تعاونت في إنجازهما مع المصور سبنسر أوستراندر Spencer Ostrander. والآن وبعد أن انتهى كل ذلك، عدت إلى السرد المتخيل من خلال كتابة مجموعة قصصية، وهو تحد جديد بالنسبة لي.



المصدر

Paul Auster: Le but de l'art est de rester au plus près de la vérité
Chazal, Claire.Lire; Paris Iss. 500/501,  (Oct 2021): 42-46

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها