أعظم مشاريع الوقف الهندسي المائي فـي التاريخ!

"عين زبيدة".. مَعلمٌ حضاريٌّ يستحق البقاء

الطيب أديب

قدمت المرأة العربية منذ أقدم العصور أفكاراً وتضحياتٍ في مجال الأعمال الوقفية الخيرية العظيمة، أثارت إعجاب البشرية؛ ونعرض اليوم لواحد من هذه المشروعات الهندسية الضخمة، والذي سمي بــــ(عين زبيدة)، والذي بدأ كفكرة لسيدة عربية عظيمة، وتبنت تنفيذه حتى اكتمل ليخفف معاناة الحجاج والمسافرين وسكان المنطقة، فمن هي زبيدة؟ وما قصة هذا المشروع؟

يقول عنها الخطيب البغدادي: (أم جعفر أمة العزيز بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، المعروفة بزبيدة زوجة هارون الرشيد وأم ولده الأمين، كانت معروفة بالخير والأفضال على أهل العلم، والبر للفقراء والمساكين، ولها آثار كثيرة في طريق مكة من مصانع حفرتها، وبرك أحدثتها. وكذلك بمكة والمدينة، وليس في بنات هاشم عباسية ولدت خليفة إلا هي. ويقال إنها ولدت في حياة المنصور، فكان المنصور يرقصها وهي صغيرة، فيقول لها أنت زبدة، وأنت زبيدة، فغلب ذلك على اسمها)(1). وكان زوجها الخليفة هارون الرشيد يجلها ويأخذ برأيها في أمور الحكم لرجاحة عقلها، وكانت هي شديدة البر به والعمل على رضاه، وكان لا يردّ لها طلباً.

وعاشت السيدة زبيدة 32 عاماً بعد وفاة هارون الرشيد، وتُوفيت في بغداد سنة 216هجرية.


خرائط عثمانية توضح مسار عين زبيدة وبعض معالم مكة المكرمة (المصدر: جامعة كولومبيا)

 

بداية عين زبيدة:

ومما يروى عن السيدة زبيدة أنها خرجت ذات مرة برفقة زوجها الخليفة هارون الرشيد إلى الحج من بغداد إلى مكة المكرمة، ولفت انتباهها أثناء الطريق أن حجاج بيت الله الحرام يحتاجون إلى الماء ولا يجدونه في رحلتهم الشاقة، ومن هنا فكرت في تصميم مجرىً نهريٍّ، وفيه عيون من الماء تخدم المسافرين والحجاج وسكان مكة المكرمة. وبعد أداء مناسك الحج اتخذت قراراً ببناء عيون الماء، وجمعت المهندسين والعمال والقياديين، وأمرتهم ببناء العيون مهما بلغت تكلفة المشروع.

وقامت الأميرة زبيدة بشراء جميع الأراضي في وادي النعمان الواقع في شرق مكة المكرمة، وأبطلت البساتين التي كانت فيها، وأمرت بحفر قنوات مائية تتصل بمساقط الأمطار. وبعد إتمام الدراسات، قام المهندسون بعمل المجاري حتى يجري الماء من عين إلى أخرى، وكل عين كان لها مجرىً من الماء على اليمين واليسار، وبذلك اتصلت كل العيون بمجري مائي بامتداد الطريق الوعر حتى وصل الماء إلى مكة المكرمة. واقترح المهندسون غلق المجرى وعمل بعض الفتحات حتى يتسنى للحجاج استخدام الماء بارداً في الوضوء والشرب أثناء طريق الحج الطويل، وكذلك لتوفير الماء للسكان المقيمين والمجاورين لها، بالإضافة إلى القوافل والدواب المارة بها، ويتم الاستفادة بما فاض منه في الزراعة. واحتوت العين -على طول امتدادها- على عدد من "الخرزات" التي تسمى في عصرنا بـــ"غرف التفتيش"، ويبلغ عددها 132 خرزة، وتبدأ العين عند الخرزة التي تحمل رقم 1 بوادي نعمان؛ متجهة ناحية مكة المكرمة، لتظهر في عرفات حول جبل الرحمة، ثم تتجه نحو وادي عرنة ومنه إلى منطقة القطانية غرب وادي عرنة، وتمر بالمنطقة الجبلية الواقعة بين عرفات ومزدلفة، ثم تظهر القناة مرة أخرى في حي العزيزية بمكة المكرمة. وبجانب الخرزات والقنوات؛ تحتوي العين على مبانٍ إدارية وخزانات لتجميع المياه وبِرَك.

وتتكون قنوات (عين زبيدة) من جزأين؛ الأول: وهو الجزء الذي تتجمع فيه المياه، ويوجد تحت سطح الأرض، ويبدأ من نقطة الأمية التي تتجمع فيها روافد وادي النعمان العلوية ومن بينها أودية عرعر، والشراء، ومجاريش، ويعرج، وعلق، وتنقل هذه المياه منحدرة طبيعيّاً إلى عرفات والمزدلفة ومنى، ومنها إلى بيت الله الحرام، والجزء الثاني: هو المسؤول عن النقل، معلقاً فوق جسور، أو تحت الأرض أو فوقها، وهو مكسو بما يمنع تسرب المياه، ومسقوف بحجارة ثقيلة تحافظ على المياه من التلوث، وتقلل التبخر،إضافة إلى ما يتضمنه من خزانات يصل عددها لنحو 51 خزاناً بمكة. وبلغ طول هذه العين عشرة أميال تقريباً، أو ما يعادل ستة عشر كيلو متراً، ووصل عمقها نحو أربعين متراً تحت الأرض، وهي مبنية من الحجر المخرم، وشيدت بحيث تصل إلى المشاعر المقدسة على سطح الأرض، واستغرق بناؤها نحو 10 سنوات، وكان يتراوح منسوب المياه فيها ما بين 20 و30 ألف متر مكعب؛ يقل أو يزيد حسب كمية المطر، وسميت "بعين زبيدة" تقديراً لفكرتها العبقرية وجهودها العظيمة، واعتبره المهندسون والمؤرخون أول مشروع هندسي مائيّ في التاريخ.
 

عين زبيدة في كتب المؤرخين والرحالة:

ووصف المؤرخون والرحالة العرب؛ الذين شاهدوا هذا العمل الخيري الهندسي المدهش، وأثنوا عليه في كتبهم، ففي كتابه (وفيات الأعيان) يقول المؤرخ ابن خلكان: وسميت هذه العين بعد ذلك بــــ(عين زبيدة)، وكان جملة ما صرف على هذه العيون -مما ذكر وأحصي- مليوناً وسبعمائة ألف دينار، وقد بلغ طول هذه العين عشرة أميال.. وسقت أهل مكة الماء، بعد أن كانت الراوية عندهم بدينار، وأسالت الماء عشرة أميال بخط الجبل، وتحت الصخر، حتى غلفته من الحل إلى الحرم، وعملت عقبة البستان، فقال لها وكيلها يلزمك نفقة كثيرة، فقالت: اعملها، ولو كانت ضربة فأس بدينار(2).

وفي القرن الثامن الهجري، كتب المؤرخ "اليافعي" يصف "عين زبيدة" فقال: (إن آثارها باقية ومشتملة على عمارة عظيمة عجيبة مما يتنزه برؤيتها على يمين الذاهب إلى منى من مكة، ذات بنيان محكم في الجبال تقصر العبارة عن وصف حسنه، وينزل الماء منه إلى موضع تحت الأرض عميق ذي درج كثيرة جداً لا يوصل إلى قراره إلا بهبوط كالبير يسمونه لظلمته يفزع بعض الناس إذا نزل فيه وحده نهاراً فضلاً عن الليل)(3).

وكتب عنها الأمير شكيب أرسلان في رحلته الحجازية: (ولقد جرّت زبيدة رحمها الله هذا الماء من وادي نعمان الشهير في قناة كانت تنتهي قبل الوصول إلى مكة بمسافة ثلاثة أرباع الساعة، وهذه القناة أكثرها تحت الأرض، وفي بعض الأماكن تظهر على وجه الأرض تابعة لخطتها الهندسية، وأما علّو سقف القناة ففي بعض الأماكن يقدر أن يمرّ فيها الفارس راكباً، وفي غيرها لا يقدر أن يمشي إلا الراجل، وليس خطّها مستقيما على اطراد، بل فيه تعاريج كثيرة، قد تكون اقتضتها طبيعة الأرض، أو يكون مهندسو القناة مرّوا بعيون أرادوا أخذها في طريقهم، فعرّجوا عليها، وحيطان القناة من الجانبين غير مطلية بالجير، ولا مجصّصة، بل مبنية بالحجر البسيط، وذلك حتى يرشح الماء من خلال الحيطان)(4).

تطوير وإصلاح:

ومع مرور الزمن تعرضت قنوات العين لبعض أعمال التخريب وأثر السيول، فتوقف بعضها وتهدم الآخر، ما دفع العديد من الأمراء والملوك بإصلاح وتطوير "عين زبيدة"، ومن هؤلاء الأمراء والملوك: خربت عين عرفات وعين حنين نتيجة أثر السيول (ثم عمرها وعمر عين عرفات السلطان "قايتباي" أجرى الأولى إلى أن دخلت مكة، وأجرى الثانية إلى أن وصلت إلى أرض عرفات، وذلك بمباشرة الأمير يوسف الجمالي وأخيه سنقر الجمالي في سنة ثمانمائة وسبعين، ثم عمر عين حنين آخر ملوك الشراكسة "قانصوه الغوري" إلى أن جرت وملأت برك الحجاج بالمعلاة، ثم جرت إلى بازان، ثم إلى بركة الماجن بأسفل مكة، ثم انقطعت في أوائل الدولة العثمانية وصار أهل مكة يستقون من آبار حول مكة يقال لها: العسيلات علو مكة، ومن آبار بأسفلها بمكان يقال له: الزاهر وسُمي الآن بالجوخي في طريق التنعيم، وكذلك انقطعت عين عرفات وتهدمت قنواتها وكان الحجاج يحملون الماء إلى عرفات من الأماكن البعيدة، وصار الفقراء من الحجاج وغيرهم في يوم عرفة لا يطلبون إلا الماء لغلو الماء وعزته جدا)(5).

و(في النصف الأخير من القرن العاشر الهجري طلبت الأميرة "فاطمة هانم" كريمة السلطان "سليمان القانوني" الإذن في تعمير العيون، وفي القيام بعمل جديد عظيم هو إيصال ماء نَعمان إلى مكة، وكان المال المطلوب لذلك ثلاثين ألف دينار، وأَذِن لها أبوها، وتمَّ هذا العمل العظيم في عشر سنوات، وكان يوم تمامه من أعياد مكة الكبرى، تصدَّق الناس وأجرَوا الخيرات وقاموا من أعمال البرِّ بما أعاد إلى ذاكرتهم ما فعله أسلافهم يوم أتم عبد الله بن الزبير بناء الكعبة)(6).

وفي عهد الملك عبد العزيز بن سعود، أمر بإنشاء إدارة خاصة لعين زبيدة، تتولى الإشراف الكامل على العين والآبار الخاصة بها، وفي العام 1344ھ، أمر بإجراء أعمال عديدة لزيادة كمية مياه عين زبيدة، بعد أن أصبحت القناة غير قادرة على سقيا الحجاج؛ فلما لم تستوعب كمية المياه الزائدة، استلزم ذلك تعلية جانبي هذه القناة؛ لاستيعاب هذه الكميات الكبيرة من المياه، وأنفق جلالته على إصلاح ما تهدم من مجرى "عين زبيدة" من نفقته الخاصة خدمة للمواطنين والحجيج، واستمرت جهود الملك عبد العزيز في ترميم "عين زبيدة"، وإصلاحها إلى أن أنشأ "العين العزيزية" العام 1371ھـ(7).

محطة أخيرة

ويتبين لنا أن مشروع عين زبيدة مشروعٌ وقفيٌّ متميزٌ، ومعلمٌ حضاريٌّ متفردٌ، وتراثٌ إنسانيٌّ يستحق البقاء، وقد ظل لأكثر من 1200 سنة يبث الحياة في هذه المنطقة الصحراوية القاحلة، وأصبح من الضروري حماية آثاره من الزوال، نتيجة عوامل طبيعية أو تعديات بشرية .ويستحق هذا المشروع الهندسي العملاق إعداد الدراسات الجادة لترميم مساراته وإعماره، والإفادة من مياهه، كما أن إحياء المشروع سيسهل عملية وضعه على خارطة تراث الإنسانية وتسويقه سياحيّاً كأثَرٍ مُهمٍّ.



الهوامش: 1. تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، دراسة وتحقيق مصطفى عطا، دار الكتب العلمية بيروت، لبنان،1971م، ج 14، ص: 434. / 2. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان، دار صادر، بيروت، لبنان،1978م، ط2، ج2، ص: 314. / 3. مرآة الجنان، اليافعي،تحقيق خليل منصور،دار الكتب العلمية،1417هـ/ 1997م، ط 1،ج2، ص: 48. / 4. الرحلة الحجازية، الأمير شكيب أرسلان، تحقيق حسن سويدان، دار النوادر،2000م، ط 1، ص: 52. / 5. سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي،عبدالملك العصامي،تحقيق الشيخ عادل عبدالموجود، والشيخ علي معوض، منشورات محمد علي بيضون، بيروت، لبنان، 1998م، ج 4، ص: 98. / 6. في منزل الوحي، محمد حسين هيكل،مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة،2014م، ص: 241. / 7. التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم، محمد طاهر الكردي، دار خضر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1420ھـ/ 2000م،ج6، ص: 91-94.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها