ميثولوجيا العصر الحجري القديم

محمد ادعيكل

شَكلَ وَمَا زال موضوع الميثولوجيا مدارَ حديثِ الباحثينَ المُتخصصين، وهو موضوعٌ مُتشعبٌ إذْ كُلُّ دراسةٍ تقاربه من زاويتها، إذ هناك من اعتبر الأسطورة ضرباً من الخيالِ، وهناك من عدها تاريخاً حقيقيّاً، ولتقريب القارئ من موضوع الميثولوجيا، سأتوقف عند البريطانية كارين أرمسترونغ Karen Armstrong ومقاربتها الرائعة لقضية الميثولوجيا.


كارين أرمسترونغ Karen Armstrong


لقد بينت أنَّ البشر قد عانوا في العصرِ الحجري القديم، إذ لم يقدروا على العناية بطعامهم، فاعتمدوا بالكامل على الصيد، وكان للميثولوجيا أهمية كبرى في تقرير نجاتهم واستمراريتهم من خلال تطوير سلاحهم لقتل فريستهم وتحقيق درجة معينة ببيئتهم. ورغم أنَّ نساء ورجال العصر البالياليثي لم يتركوا أي سجل مكتوب عن أساطيرهم، إلا أنَّ القِصَصَ الَّتي استمرت في ميثولوجيا الثَّقافات اللاَّحقة، تظهر دور الأساطيرِ الحاسم في فهم البشر لأنفسهم ولأزماتهم الَّتي نجوا منها.

حسبَ كارين أرمسترونغ منَ الطَّبيعي أن يُفكِّر النَّاسُ في الأسطورة والرمز، لكونهم يؤمنون بالبعد الروحي في حياتهم اليومية تقول: "لا يمكنُ لصيادي الفترة البالياليثية أن يستوعبوا الفصلَ الَّذي نُمارسه في زماننا بين الديني والدنيوي؛ لأنه لم يكن أي شيء من الأشياء أرضياً ودنيوياً. فكل شيء رأوه أو اختبروه كان ظلا لمثاله الموازي له في عالم الألوهة. ومهما كان الشيء، أي شيء، دنيئاً أو وضيعاً، فبالإمكان احتواؤه على قداسة". أيْ أنَّ أيَّ شَيءٍ فعلوهُ يكون بالنسبة لهم فعلَ تقديس يضعهم في اتصال بالآلهة، لأن غرض الأسطورة حسب أرمسترونغ هو أن تجعل الناس أكثرَ وعياً بالبعد الرُّوحي الَّذي هو جزء طبيعي من الحياة ويحيط بهم من كُلِّ الجهات.

نأخذُ نموذجَ السَّماء، نجد بعض الأساطير ذات علاقةٍ بالسَّماءِ، حيثُ أوحت للنَّاسِ التَّصورَ الأولَ عن الألوهة. فبدأ الناسُ في شخصنة السماء حسب أرمسترونغ وبدأوا يخبرون قصصاً عن "الله السماء" أو "الله الرفيع"، الذي خلق السَّموات والأرض بيد واحدةٍ من لا شيء.

هذا النَّمطُ من التوحيد البدائي يعود بالتأكيد إلى الفترة البالياليثية، فقبل البدء بعبادة آلهة عدة، اقتصرَ النَّاسُ في أجزاء مختلفة من العالم، على الاعتقاد بإلهٍ واحدٍ قادرٍ، خلقَ العالمَ ويديرُ شؤونَ النَّاسِ عن بعد. تقولُ أرمسترونغ: "احتوت كلُّ المعابد القديمة على "الله السماء"... كان هذا الإله السبب الأول لكل الأشياء وحاكم السَّماء والأرض، ولا يمكن تمثيله، بصور وليس له مقام أو ضريح أو كاهن؛ لأنه منزه عن نظام التقديس البشري. كان الناس في صلاتهم يحنون إلى إلههم العالي، ويؤمنون بأنه يراهم ويعاقبهم على أعمالهم السيئة، ومع ذلك فهو غائب عن حياتهم اليومية. يقولُ رجل القبيلة عنه، بأنه لا يمكن التعبير عنه وليس له شأن بعالم البشر، وقد يلجؤون إليه في الأزمات، وما عدا ذلك فهو غائبٌ، ويُقالُ في أكثرِ الأحيان أنَّه رحلَ بعيداً أو اختفى". نبهت أرمسترونغ إلى قضية آلهة السَّماء في بلاد ما بين النهرين، فاللهُ العالي يبقى عندهم شخصيةً مبهمةً، ورغم أنَّ النَّاس عبدوا عدة آلهة كبعل مثلاً وإندرا، فإنَّ هذه الآلهة لم تلامس حياةَ النَّاِس مطلقاً وأن حيوتها لن تستمر إلا إذا كان اهتمامها متمحوراً حول الإنسانية بتعبير أرمسترونغ.

رغمَ أن مكانة الآلهة لم تعد كما كانت وأصبحت مرتبتها أقلَّ من السَّابق، فالسماءُ بقيت كما هي إذ لم تفقد قدرتها على تذكير الناس بالمقدس، تقولُ أرمسترونغ: "لقد ظل العلو رمز الألوهة الأسطوري، سمة من سمات الروحانية البالياليثية. ففي الميثولوجيا والتصوف، نجدُ الرِّجالَ والنَّساءَ يسعون بانتظام للوصول إلى السماء، ويبتكرون شعائر وتقنيات للوصول إلى حالة تركيز نشوة روحيتين، تمكنهم من تطبيق قصص الصُّعود والارتقاء إلى حالة وعي أعلى". هذا الأمرُ يُفسِّرُ توق الناس إلى التَّعالي الَّذي تمثله السَّماء، هروباً من الوضع الإنساني الضعيف. وهذا ما جعل الجبال مقدسة في الميثولوجيا.

أساطيرُ الصعودِ الأولى حسب المتخصصين تعود إلى الفترة البالياليثية، ولها علاقة بجماعة الشامان Shaman المتدينين الرئيسيين في مجتمعات الصيد، حيثُ كان رجل الشامان يجيد ممارسة الإغشاءات والنشوات الروحية، الَّتي كانت رؤاها وأحلامها تلخص تقاليد الصيد معنى روحياً. فالشامان كان يعتقد أن لديه القدرة على ترك جسده والسفر بروحه إلى العالم السماوي، وعندما يذهب في غيبوبة روحية، فإنه يطير في الهواء ويجتمع بالآلهة لأجل شعبه.

تذكر أرمسترونغ أنه توجد في توابيت الكهوف البالياليثية لجماعة لاسوكس في فرنسا وجماعة ألتاميرا في إسبانيا، رُسوماً تُصور مشهدَ الصَّيدِ، حيثُ يظهر إلى جانب الحيوانات والصيادين، رجالٌ يضعون أقنعة طيور، من المفترض أن يكونوا من الشامان، تقول أرمسترونغ: "يخضعُ رجلُ الشامان لتدريب خاصٍ في تقنيات الانتشاء الروحي، ويُعاني في بعض الأحيان من حالة اضطراب ذهني في فترة المراهقة، تمثل بالنسبة له، تسامياً على وعيه الأرضي القديم، واستعادة للقدرات التي منحت له في بداية وجوده الإنساني المبكر... يقع رجل الشامان في غيبوبة روحية مترافقة مع دقات الطبول والرقص ثم يتصلقُ شجرةً أو عموداً يرمز إلى الشَّجرةِ، جبلا أو سُلَّماً كان ذات مرة صلة الوصل بين السماء والأرض"، ويصف أحد رجال الشامان الحديثين رحلته في أعماق الأرض ليصل الجنة بهذه الطريقة: "عندما يُغني الناس، أنا أرقصُ. أدخلُ أعماقَ الأرضِ. أذهب إلى مكان يُشبه المكان الذي يشرب فيه الناس الماء، أقطع مسافةً طويلةً وبعيدةً جِدّاً... عندما أخرج أكون قد تسلقت الخيوطَ، الخيوط الواقعة هناك في الجنوب... وعندما تصلُ إلى مكان الله، تجعلُ نفسك صغيراً... تفعل هناك ما عليك فعله. ثم تعود إلى حيث يوجد الجميع". تُعلِّقُ أرمسترونغ أنَّ ذلك لا يُعتبر رحلةً بالجسدِ، ولكنها نشوة تشعر فيها أنَّ الروح تركت الجسد.

مما تتميزُ به ميثولوجيا العصر البالياليثي كذلك، التَّقديسُ الكبيرُ للحيوانات الَّتي يشعر الإنسان أنَّه مرغم على قتلها. وقد كانت قدرات البشر على الصيد ضعيفةً وواهنةً؛ لأنهم كانوا أصغر وأضعف من أكثر فرائسهم لذلك كان عليهم التعويض عن ضعفهم بتطوير أسلحة وتقنيات جديدة. لكن هناك مسألةٌ في غايةِ الأهمية وجبَ الوقوفُ عندها، تقولُ أرمسترونغ "غير أنَّ المعضلة الأكبر هي حالة الأحاسيس المتناقضة والمربكة، حيث لاحظ الأنثربولوجيون، أنَّ رجال الطبيعة المعاصرون يشيرون بنحو دائم إلى الحيوانات والطيور كأنها بشرٌ مثلهم، ويروون قصصاً عن بشر أصبحوا حيوانات والعكس. فأن تقتلَ حيواناً يعني أن تقتل صديقاً". لكن من أجل ضمان استمرار الحياة كان من الضروري القيام بالصيد. وكون هذا الأخير نشاطاً مُقدَّساً كان الاختتام باحتفال مهيب محاط بشعائر وتابوات. كما تذكر أرمسترونغ أنه كان الصيادُ قبل الذهاب في رحلة الصيد، "يمتنع عن ممارسة الجنس ويبقي نفسه في حالة نقاء روحي، ثم بعد أن يقتل الفريسة، يفصل اللحم عن العظام، ويمدد بعناية هيكل الفريسة العظمى وجمجمة رأسها وجلدها على الأرض في محاولة منه لبث الحياة في الحيوان من جديد". إذن يمكننا القول إنَّ الصيد في تلك الفترة لم يكن بالأمر البسيط؛ فالصياد يعيشُ حالةً مضطربةً ومؤثرةً جداً؛ فعليه توفير الطعام من جهة من خلال قتل الحيوان، ومن جهة أخرى حالة التقديس لهذا الحيوان، حقّاً إنها مُعضلة.

من النقاط الَّتي أثارتها أرمسترونغ مسألة أولى الانبثاقات الكبرى للميثولوجيا، وهو الزمن الذي تحول فيه الإنسان الصياد إلى الإنسان القاتل، أي حين واجه الإنسان صعوبة في قبول أوضاع وجوده في عالم عنيف، تقول أرمسترونغ "فالميثولوجيا، تزدهر غالباً من توتر أو قلق عميق حول مشاكل عملية وجوهرية، لا يمكن إزاحتها أو تخفيفها بحجج منطقية صرفة. كان البشرُ قادرين دائماً على التعويض عن ضعفهم ومحدوديتهم من خلال تطوير الطاقات العقلية داخلَ دماغهم الكبير الحجم. استطاعوا نتيجة لذلك، تطوير مهاراتهم في الصيد، فاخترعوا الأسلحة، وتعلموا كيف ينظمون مجتمعهم بكفاءة قصوى وعملوا معاً كفريق، حتى في المرحلة المبكرة". أي الإنسان الصياد أصبح يطور ما يسميه اليونان باللوغوس Logos، الذي هو نمط التفكير العلمي والذرائعي الذي يمكنهم من العمل في العالم بنجاح.

بقي أن نشير هنا حسب أرمسترونغ إلى اختلاف اللوغوس عن التفكير الميثولوجي، تقول: "إنَّ اللوغوس يحيلُ بدقةٍ إلى حقائقَ موضوعيةٍ. إنَّهُ النشاط الذهني الذي نستعمله عندما نريد أن نجعل تحقيق الأشياء في العالم الخارجي واقعاً، وعندما ننظم مجتمعنا أو نطور تقنياتنا. هذا بخلاف الأسطورة، التي هي ذرائعية بالأساس. فالأسطورةُ إلى الوراء، إلى العالم الخيالي للنموذج المثالي المقدس أو إلى الجنة الضائعة، في حين يتقدم اللوغوس إلى الأمام محاولا باستمرار اكتشاف شيء جديد، لتنقية الرؤى القديمة، وخلق اختراعات مذهلة. وإنجاز سيطرة أكبرَ على البيئة المحيطة". لكن هذا لا يعني أنه لا دور للأسطورة مقابل اللوغوس، بل لِكُلٍّ مكانته وفعاليته، فالأسطورةُ مثلاً لا تعلمُ الصياد كيف يقتل صيده، لكن تساعده على التعامل مع مشاعره المزدوجة والمربكة أثناء قتله للحيوانات، وبواسطة اللوغوس طور الإنسان الأسلحة واستطاع معرفة دوره في الحياة.

ونحن نختم هذا الموضوع الحيوي نؤكد أنَّ دراسةَ الأسطورةِ من الأمورِ الصَّعبةِ، فاقتحامُ هذا الحقل يتطلب توفر آليات ومعارفَ علمية ومنهجية، إذ لا يكفي العرض، بل الأهم هو التحليل والتأويل للأساطير، وفعلا أحسب أن كارين أرمسترونغ قد قاربت الموضوعَ مُقارنةً مع بعض الكتابات هنا وهناك. والعودةُ إلى كتابات أرمسترونغ حول الأسطورة فأكيد أن يجد القارئ ضالته بخصوص موضوع شيق من جهةٍ، ومهمٌ لفهم تقاليد الحضارات السَّابقة وتفسير بعض منها في ظل الوقت الحالي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها