العِمارة الراديكالية.. رؤية العالم بعيون حالمة

علاء حليفي


شهدت العمارة على مر العصور، تيارات وتوجهات فكرية متعددة، اختلفت حسب السياق التاريخي، والظروف الاقتصادية والسياسية والثقافية، وكذا متطلبات كل مجتمع. وقد كان القرن العشرين أحد أكثر العصور غِنىً وتنوعاً من حيث الحركات الفكرية التي أثرت على توجهات العمارة الحديثة. من بين هذه التيارات، تعدُّ "الراديكالية" (Radicalism) أحد أهم الحركات المعمارية في القرن العشرين، بل وأكثرها تجديداً وتجريباً من حيث المبادئ والأشكال التصميمية، حتى إن تأثيراتها استمرت حتى يومنا الحالي.


ظهر مصطلح "العمارة الراديكالية" على يد المؤرخ الإيطالي جيرمانو سيلانت (Germano Celant)، في مقال نقدي له يصف فيه المشهد المعماري الجديد، الذي انطلق من إيطاليا في ستينيات القرن الماضي، حين اجتمع مجموعة من المعماريين والمصممين لتشكيل حركة رائدة آنذاك، مقترحين مشاريع تتحرر من التوجهات العالمية الحديثة التي ميزت العمارة الشائعة في تلك الفترة. وقد تمّ ذلك في ظل أوضاع سياسية مضطربة تميزت بالعنف السياسي والتطرف، وانتفاضات الطلاب والاضطرابات الاجتماعية، من رحم هذه الأزمات نشأت الحركات الفكرية التي تعارض هياكل السلطة السياسية والثقافية المهيمنة، فصارت الراديكالية في طليعة هذه الحركات.
انطلقت الراديكالية من نقدها للتيار الفكري والمعماري الذي انتشر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، باعتباره صارماً، قاسياً، وخالياً من أي حس جمالي، كما انتقدت الإنتاج المعماري الفائق الذي يهدف إلى إسكان أكبر عدد من الناس في أقل مساحة ممكنة، دون التفكير في آثاره المدمرة للبيئة والمجتمع. فشدّدت الحركة على ضرورة تحرير الإنسان من النموذج الاستهلاكي المزدهر في تلك الفترة، والذي يحصر دور المواطن في بضعة وظائف محددة: العيش، العمل، التنقل، ثم استهلاك المنتجات (والأفكار)، وهو ما شكّل أزمة حقيقة آنذاك، فقد كان نمط العيش هذا غير إنساني، بحيث يجعل من المجتمع آلة فقط!



في شيء من عدم الرضا عن قيم المهنة السائدة آنذاك، اقترحت الحركة الاشتغال على العمارة كسلوك اجتماعي لا كبناء مادي، وهو ما أخرج ميدان الهندسة المعمارية من حيزه وطابعه التجاري، صوب فضاء جديد من المعرفة، أكثر رحابة وانفتاحاً، عكس التيارات السائدة التي كانت تقترح حلولاً نهائيةً غير قابلة للتفاوض، وبنايات غير متاحة للتغيير أو مرافقة متطلبات السكان، فاشتهرت الحركة بمشاريعها "الاستفزازية" التي تميل إلى النقد والتجريب وخلق الحوار المجتمعي، حول ماهية العمارة في القرن العشرين.

يقول أندريا برانزي (Andrea Branzi)، أحد رواد الحركة: إن العمارة الراديكالية تقع ضمن حركة أوسع لتحرير الإنسان من ميول الثقافة المعاصرة، وأنها تدعوا إلى التحرر الفردي رفضاً لجميع المعايير الشكلية والأخلاقية التي عرفها العالم بعد نهاية الحرب، هذه المعايير التي تعمل كبنية مثبطة، تجعل من الصعب تحقيق الذات الفردية بشكل كامل، لذا فإن مصطلح "الراديكالية" يشير إلى أكثر من حركة مستقلة أو متخصصة في العمارة، بل هو عبارة عن تيار فكري وثقافي شامل.
كما انتقد التيار الصورة النمطية للمعماري البطل المطلق، الذي يسعى لحل جميع مشاكل المجتمع عن طريق التصميم، وقد كان بطل ما بعد الحرب في أوروبا آنذاك هو المعماري الفرنسي من أصل سويسري "لو كوربيزييه" (Le Corbusier)، الذي اقترح مبان خرسانية عملاقة لحل أزمة السكن التي طالت أوروبا في تلك الفترة، فانتقد رواد التيار أعماله وتصاميمه، التي كانت بالنسبة إليهم قاسية وذات وظيفة جامدة، كما أنها لا تمنح حرية الاستعمال، وتملي على المستخدمين طريقة السكن، وتحثهم على العيش داخل تصاميم نموذجية وموحدة، لا تناسب الذوق الفردي أو العادات العامة لكل مجتمع، كما لو صار سكان ما بعد الحرب مجرد "سلع" يجب إسكانها.
انطلق التيار من إيطاليا قبل أن ينتشر فيما بعد بين عدد من المعماريين والمصممين والباحثين في شتى أقطار العالم، مشكلين جيلاً متكاملاً يتشاطر نفس الأفكار والتوجهات. من رواد الحركة نذكر أرشيزوم (Archozoom)، وسوبرستوديو (Superstudio)، وأرشيغرام (Archigram)، جميعها مكاتب معمارية تبنّت الراديكالية وطورت منها في شتى المقاييس التصميمية، فازدهرت أفكارها على نطاق واسع لتشمل مجالات متعددة، من تصميم المدن حتى ديكور البيوت، مروراً بالبنايات السكنية والمجمعات التجارية، وحتى المعارض الفنية، والكتب النقدية والمقالات.
هذه التجارب المعمارية رغم اختلافها، لم تتطور في معزل عن بعضها البعض، من إيطاليا إلى الولايات المتحدة، اليابان وأستراليا، اتحد الجميع لتصميم مشاريع كبرى، تم تجميعها على شكل إنتاج تراكمي، واستعراضها في معارض مشتركة ساهمت في نشر الفكر الراديكالي بشكل كبير. وقد كان المعرض الذي حمل عنوان "إيطاليا: المشهد المحلي الجديد"، الذي عُرض لأول مرة في متحف الفن الحديث في نيويورك (MoMA) عام 1972، أحد أهم المعارض في تاريخ الحركة.



مشاريع تفتح بوابة نحو المستقبل

أنتجت الحركة مئات المشاريع، من مخططات المدن حتى قطع الأثاث، وهي تصاميم تم استلهامها من صور الخيال العلمي، والرسوم المصورة وحتى الكاريكاتور، مما جعل من مشاريع الحركة موضوعاً للنقاشات والانتقادات، فقد كانت ذات طابع تجريبي محض، حتى إنها بدت للبعض عجائبية وغريبة الأطوار.
تعتبر مجموعة أرشيغرام البريطانية، أحد أهم رواد الراديكالية، فقد كانت دوماً حاضرة في المعارض والمؤلفات بمشاريعها التي تميزت بكونها تنبئ عن العمل بالشكل أو المواد، حيث ترتكز على المعطيات المجتمعية والحقائق والأحداث. لطالما أثارت هذه المشاريع نقاشات مختلفة جمعت بين الهندسة المعمارية والتكنولوجيا والمجتمع. يؤكد النقاد أن مشاريع المجموعة قد شكّلت أداة للنقد السياسي والاجتماعي والثقافي، من خلال استعمال الفن التصويري والموسيقى، وفن الأداء والأثاث، والتصميم الجرافيكي والأحداث والمعارض.
يقول المعماري ذي الأصول الهندية "اكشات بهات" (Akshat Bhatt)، الذي أتيحت له فرصة العمل مع المكتب في مرحلته الجامعية: ''عندما بدأت العمل رفقة أرشيغرام، شعرت أنني كنت أقرأ رواية 1984 لجورج أورويل، فقد كان عملهم الراديكالي يضرب في تيارات متعددة، بما في ذلك السياسة، الفن، المسرح، وحتى الصحافة. نحن لم نناقش يوماً العمارة كما يفعل الجميع، أي كبناء مادي، أظن أن هذا ما ساعد مشاريع المجموعة على الانفتاح والتميز عن باقي ما أنتجه رواد تلك الحقبة''.
عارض عمل أرشيغرام الروح الوظيفية لتلك الفترة، حيث صممت المجموعة بدائل معمارية لأساليب المعيشة التقليدية، فنشرت بين عامي 1960 و1974، تسعة أعداد من مجلة خاصة تحمل نفس اسم المكتب، وأكثر من تسعمائة رسم يوضح مشاريع معمارية خيالية، مستلهمة من التطورات التكنولوجية، السفر إلى الفضاء وحتى الخيال العلمي.
تعد "مدينة بلج-إن" (plug in city)، أحد أهم مشاريع أرشيغرام، بل وأشهر مشاريع الراديكالية على الإطلاق، وهو مشروع تم العمل عليه بين سنتي 1963 و1966، يقترح هذا المشروع الاستفزازي مدينة خيالية افتراضية، تحتوي على وحدات سكنية معيارية "تتصل" بآلة عملاقة ذات بنية تحتية مركزية. المشروع في الواقع ليس مدينة، بل هيكلاً عملاقاً دائم التطور، يشتمل على مساكن ووسائل نقل وخدمات أساسية أخرى، كلها منقولة بواسطة رافعات عملاقة. يهدف التصميم إلى منح الناس مزيداً من المرونة والاختيار في تصميم منازلهم، مما يسمح لهم بتخصيص الكبسولات حسب متطلباتهم اليومية واستبدالها بسهولة عند الحاجة.



لاقى المشروع شهرة واسعة آنذاك، فقد قدّم نهجاً جديداً للتعمير، وعكَس المفاهيم التقليدية لكيفية تصميم مدينة القرن العشرين، وأيضاً كونه يجمع بين الاهتمام بالتقنيات الناشئة وثقافة المستهلك في الستينيات، مع استلهام لغة وجماليات الكتب المصورة والخيال العلمي.
 

أفول الراديكالية، ماذا بعد؟

دامت الراديكالية لحوالي عشرين سنة، لاقت خلالها إقبالاً جماهيرياً واسعاً، لكن أشد ما تم وما يتم انتقاده حتى اليوم، هو حقيقة أن أغلب مشاريع التيار لم يتم تشييدها على أرض الواقع أبداً، كونها غير وظيفية أو مستحيلة التنفيذ، فاعتبر الجميع الحركة كتيار فكري "يوتوبي" يبتعد عن المشاكل الحقيقية للعمارة.
يحيل البعض أفول الراديكالية إلى الجانب "غير الوظيفي" منها، بينما البعض الآخر يؤكد أنه كان تياراً نقدياً بالأساس، وليس تطبيقياً. قد تتضارب الآراء حول ذلك، لكن الحقيقة أن أشياء كثيرة عجّلت بنهاية التيار الراديكالي، أولها أن المعمار وتخطيط المدن صارا جزءاً لا يتجزأ من النموذج الليبرالي الجديد للرأسمالية الذي ظهر خلال الثمانينيات، حيث صارت ناطحات السحاب والمشاريع الضخمة رمزاً لقوة وغنى الدول، فباتت جميع الاحتمالات الأخرى للتصميم "الغير استهلاكي" غير قابلة للتطبيق اقتصادياً. كما أنه مع سقوط جدار برلين عام 1989 ونهاية الحرب الباردة، انهارت أيضاً إمكانية وجود أية طرق أخرى أو نماذج بديلة للمجتمع. لقد انتصرت الرأسمالية التي يقودها السوق، وانحسرت أية احتمالات أو بدائل أخرى، أي شيء لا يصلح تم رفضه باعتباره خيالياً وغير واقعي.
قد يختلف المرء حول الأسباب الرئيسة لنهاية التيار، لكن مما لا شك فيه، أن أفكار الحركة كان لها تأثير كبير على ما سوف يأتي فيما بعد، على الرغم من أن معظم مشاريع الراديكالية لم تفارق الورق؛ فإن مساهمتها المفاهيمية في تطوير العمارة مهمة للغاية، فقد نجحت رؤى التيار في إلهام جيل جديد من المهندسين المعماريين والعمارة بشكل عام. ويُعتبر مركز جورج بومبيدو (Centre Pompidou) في باريس، أحد أشهر المعالم التي تم استلهامها من مشاريع الفترة الراديكالية، حيث إن فكرة أرشيغرام لعكس التسلسل الهرمي للمباني التقليدية، قد ألهمت في سبعينيات القرن الماضي، مصممي المعلمة الباريسية الشهيرة "ريتشارد روجرز" و"رينزو بيانو"، في شيء من الجنون والتمرد، لتصميم بناء راديكالي معاصر، ما يزال عرضة للنقاش والنقد حتى يومنا هذا.



صارت الراديكالية، مجرد نوستالجيا جميلة من الماضي، بعدما كانت حلماً مشتركاً يطمح لتغيير ملامح العالم. أيمكننا في المستقبل أن نرى مشاريعها تتحقق على أرض الواقع؟ من الصعب الإجابة على هذا السؤال؛ لأنه في الأصل، لم تكن الراديكالية إجابة، بل كانت مجموعة كاملة من الأسئلة والاستفزازات والتكهنات. كما يجب ألا ننسى أننا نعيش في عالم مختلف تماماً عن فترة ما بعد الحرب، في عصرنا الحالي، تواجه المجتمعات حروباً أخرى، كما تواجه العمارة تحديات مغايرة لتلك التي عرفتها بعد الحرب. اليوم، صرنا نتحدث عن مخاطر الاحتباس الحراري، والتغير والمناخي، المباني الخضراء، والنجاعة الطاقية، وهي أشياء لم تكن موضوعاً ذا أهمية كبرى في أعمال الراديكاليين، أو حتى في أي من تيارات ما بعد الحرب، لكن يمكننا إعادة الاتصال بروح الراديكالية المتمردة، بهدف رؤية تحدياتنا الحالية بنظرة مختلفة عما نراه اليوم، وتطوير طرق جديدة مناسبة لعالمنا الحالي، ومن ثم البدء في الحلم مرة أخرى.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها