فـي مزالق التّحقيق العلمي

وقفاتٌ مع ديوان عروة بن الورد

حسن الحضري

تحتاج عملية تحقيق المخطوطات والكتب إلى أدواتٍ علمية صحيحة وطرقٍ منهجية دقيقة، يجب أن تتوافر لدى المحقق، وأن يتعامل بها مع المادة التي يحقِّقها تعاملًا صحيحًا، وفي مقدمة هذه الأدوات الإلمام الواسع بمادة التحقيق؛ بحيث يستطيع فهم النَّصِّ الذي يحقِّقه، ويتمكن من استنباط ما يعرِض له من تصحيف أو تحريف أو لبسٍ أو نحو ذلك مما يمكن أن يواجهه في أثناء عملية التحقيق، إضافة إلى المنهج الصحيح في المقارنة بين النسخ، ونقد المتون وغير ذلك من قواعد البحث العلمي.
وحين تختلُّ هذه الأدوات لدى المحقق، أو يفتقر إلى شيء منها؛ فإن ذلك ينعكس بصورة سيئة على مُنْتَجِه في النهاية، ومن أمثلة ذلك ما نراه في دواوين الشعر التي يقوم بتحقيقها أو شرحها من ليس لديهم علم بصناعة الشعر، فإن من قواعد البحث والتحقيق قراءة النص قراءةً صحيحة موافقة لمقوِّمات الفن الذي يندرج تحته النص؛ حتى يستطيع الباحث أو المحقق تكوين صورة صحيحة عن مادته، ومِن ثَمَّ يتعامل معها بالطريقة المُثْلَى التي تُعِينه عليها قدراته العلمية وأدواته المنهجية المتوافرة لديه؛ ومن الملاحَظ أن معظم أخطاء الضبط والتحقيق والشرح في دواوين الشعر، تكون بسبب عدم إلمام المحقق أو الشارح بمقوِّمات الشعر وقواعده، إضافة إلى الأخطاء العلمية والمنهجية الأخرى التي تتفاوت من محقق إلى آخر.

وقد رأيت أن أتناول في مقالي هذا، نموذجاً حيّاً، من خلال عرض بعض الأخطاء التي وقعت فيها محققة وشارحة (ديوان عروة بن الورد أمير الصعاليك)؛ ومنها:

 في تحقيقها لقول عروة بن الورد [ت: 30 ق. هـ]1:
أكلُّكُمُ مختارُ دارٍ يحلُّها .. وتاركُ هَدْمٍ ليس عنها مُذَنِّبُ

قالت المحققة في شرح البيت ما نصُّه: «الهدم بضم الهاء، الواحد هدم -بكسر الهاء- ومعناها الشيخ الكبير، المذنب: الذي عليه ذنب، وربما كانت هدم جمعاً لهَدمٍ -بفتح الهاء- أي: دماء مهدورة لا يَحمل عنها ذنباً»2، وهذا الكلام كله خطأ؛ فهي تذكر لِلمفردات معاني لا محل لها في البيت؛ وكأنها تتعامل مع المفردة مجرَّدةً من موقعها في بناء الجملة، والصحيح أن كل مفردة وإن كان لها أكثر من معنى في ذاتها؛ لا يجب الالتفات إلَّا إلى ما يوافق وظيفتها في السياق الذي وردت فيه، وقد تكرر هذا الخطأ من المحققة في أكثر من موضِع، كما أنها تبني شرحها على معاني محرَّفة لألفاظٍ مصحَّفة لا معنى لها في الأبيات الواردة فيها؛ كتفسيرها لكلمة (مذنب) حيث يدل تفسير المحققة لها على أنها قرأتها قراءة مخالفة للسياق وللوزن أيضاً؛ والصواب في شرح هذا البيت أنَّ «قول عروة (هدْم) معناه البناء المهدوم، وأن (مُذَنِّب) -بالذال المعجمة، وكسر النون المشددة- معناه: ضربه بذنَبه -أي: بذيله»3، والتذنيب هنا استعارة مكنية؛ للدلالة على اليقظة والحميَّة والمبادرة بالهجوم على المعتدي.

وفي تحقيقها لقول عروة:
لا تَلُمْ شَيخِي فما أزرَى به .. غيرُ أنْ شارَكَ نهداً في النَّسَبْ
كان في قيسٍ حَسِيبًا ماجدًا .. فـأتَتْ نهدٌ على ذاك الحَسَبْ

أولًا: أوردت المحققة لفظة مصحَّفة؛ هي (أدرى)4 -بالدال المهملة- والصواب أنها (أزرَى) -بالزاي- كما يقتضيه السياق، ومعنى أزرَى به: «قصَّر به وحقَّره وهوَّنه»5.
ثانيًا: قالت المحققة في شرح البيت الثاني: «أي: كان في بني قيس له المجد واليد الطولى، وهو أعلى هذا الحسب»6، وهذا الشرح لا يُجدي بشيء؛ لأنها لم تذكر بيت القصيد؛ وهو ما يقصده الشاعر بقوله (فـأتَتْ نهدٌ على ذاك الحَسَبْ)؛ فهو يذكر أنه لا شيء يعيب أباه غير صلة النسب التي تجمعه بِبَني نهد، وهي الصلة التي يرى الشاعر أنها قضت على مجده الذي كان يتمتع به في بني قيس.

وفي تحقيقها لقول عروة:
قِدْحانِ قِدْحُ عِيالِ الحيِّ إذْ شبِعوا .. وآخَرٌ لِذَوي الجيرانِ ممنوحُ

أوردت المحققة أول كلمة في البيت بلفظ (قَدْ حانَ)، ثم قالت في شرح البيت: «حان: قرب، أو هلك، القدح: سهم الميسر، لعله أراد أن عيال الحي حينما شبعوا هلك ما أصابهم من الجزور الذي تياسروا عليه، أي: جزأوه واقتسموه سهاماً»7، وهذا الكلام كله خطأ، وليس في البيت (حانَ)؛ وإنما فيه (قِدْحانِ) تثنية (قِدْحٍ) كما هو عند ابن السكيت [ت: 244هـ]8، والبيت من أبيات الفخر بالكرم، ومعناه الإجمالي أن عروة كان يقوم بأمر الفقراء والمحتاجين، وفي السنة المجدبة كان يجعل لهم سهماً -أي: نصيباً- ولذوي الجيران سهماً.

وفي تحقيقها لقول عروة:
فِراشي فِراشُ الضَّيفِ والبيتُ بيتُه .. ولَمْ يُلْهِني عنه غزالٌ مُقَنَّعُ

أوردت المحققة هذا البيت بصورة مصحَّفة، واتخذت من تصحيفها عنوانًا للمقطوعة، وهو (فراش الضعيف)، ثم ذكرت البيت بلفظ (فراشي فراش الضعيف)، ولم تنتبه المحققة إلى الكسر العروضي الناتج عن تصحيفها، ثم شرحت البيت بما يوافق تصحيفها، فقالت في الحاشية ما نصُّه: «أي إن عليه دورًا تجاه الضعفاء والمساكين والمحتاجين، لدرجة أنه من الممكن أن يترك له فراشه إذا لم يجد الضعيف فراشًا يأوي إليه»9، فانظر إلى ما ذهبتْ إليه المحققة في شرحها بسبب عدم انتباهها إلى ما أصاب البيت من تصحيف واضح تعافه الأذن عند سماعها للشعر!

ثم أوردت مقطوعة أخرى يقول فيها عروة:
لكلِّ أناسٍ سيِّدٌ يعرفونه .. وسيِّدُنا حتى المماتِ رَبِيعُ
إذا أمَرَتْني بالعُقوقِ حليلتي .. فلم أعصِها إني إذًا لمُضِيعُ

ثم قالت في الحاشية ما نصُّه: «مضيع: ضائع، هالك»10، وهذا الذي ذكرته في حاشيتها ليس هو اللفظ الذي ذكره عروة، ولا المعنى معناه؛ فإن عروة قال: (إني إذًا لمُضيعُ) -بإشباع الضاد المعجمة المكسورة- أي: مُضِيع للعهد أو نحو هذا المعنى، لكن الذي ذكرته المحققة هو معنى لفظة أخرى هي (مضَيَّع) -بفتح الضاد المعجمة والياء المثناة المشددة- وهذه لفظة لم يذكرها عروة ولم يقصدها ولا يستقيم بها الوزن؛ فالبيتان من الطويل المحذوف؛ أي: ما حُذِف مِن ضربه سبب خفيف، فينتهي ضربه بـ(مفاعي) بدلًا من (مفاعيلن)، وإذا كانت صورة اللفظة في قافية البيت الثاني قد أشكلت على المحققة، فكيف لم تنتبه إلى البيت الأول وبه (رَبِيع) لتعرف أن الذي يستقيم به الوزن في البيت الثاني هو (مُضِيع) -بإشباع الضاد المعجمة المكسورة- وليس كما ظنته المحققة.

وفي تحقيقها لقول عروة:
بُنِيتُ على خَلْقِ الرِّجالِ بأعظُمٍ .. خِفافٍ تثَنَّى تحتهنَّ المَفاصِلُ

أوردت محققة الديوان هذا البيت بلفظ (تحتهم)11 بدلًا من (تحتهنَّ)، وما فعلته المحققة هو خطأ في المعنى كسرتْ به الوزن أيضاً، وفي رأيي أن سبب خطئها في تحقيق البيت؛ أنها رأت في الشطر الأول لفظة (الرجال)، فظنت أن الضمير المتصل بالظرف يعود عليها، ولو أنها نظرت في البيت لعلمت أن الضمير يعود على (أعظُمٍ) وهي مؤنث، كما أن الميم التي استبدلتْها بالنون قد كسرت الوزن.

وفي شرحها لقول عروة:
فإلَّا أنَلْ أوسًا فإنِّيَ حسبُها .. بِمُنْبَطَحِ الأوعالِ مِن ذي الشَّلائلِ
قالت المحققة: «المنبطح: مكان الانبطاح، الانطراح»12، وهذا خطأ؛ والصواب: «يقال: انبطح الوادي: استوسع»13.

والكتاب تحتشد به أخطاء كثيرة ما بين تصحيفٍ وتحريف، وتفسير منقوص أو غامض أو غير صحيح لبعض المفردات، بجانب أخطاء أخرى في الضبط؛ وفي هذه النماذج كفاية للتوضيح.


الهوامش
1. «الأعلام» للزركلي (4/ 227)، طبعة: دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشرة 2002م.  / 2. «ديوان عروة بن الورد أمير الصعاليك»، دراسة وشرح وتحقيق: أسماء أبو بكر محمد (ص: 45)، منشورات محمد علي بيضون- دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان، 1418هـ- 1998م.  / 3. انظر «شرح ديوان عروة بن الورد العبسي» لابن السكيت (الحاشية ص 184- 185)، اعتنى بتصحيحه الشيخ ابن أبي شنب، طبعة: مطبعة جول كربونل- الجزائر 1926م. / 4. «ديوان عروة بن الورد أمير الصعاليك»، دراسة وشرح وتحقيق: أسماء أبو بكر محمد (ص: 46).  / 5. «لسان العرب» لابن منظور (14/ 356)، طبعة: دار صادر- بيروت، الطبعة الثالثة 1414هـ. / 6. «ديوان عروة بن الورد أمير الصعاليك»، دراسة وشرح وتحقيق: أسماء أبو بكر محمد (ص: 46).  / 7. المصدر السابق (ص: 55). / 8. «الأعلام» للزركلي (8/ 195)، وانظر البيت برواية ابن السكيت في شرحه (ص 149)، وعنده في المتن (سَغِبوا) -أي: جاعوا- وفي الحاشية: «ورُوِيَ في الأصل (شبعوا) ولا معنى له».  / 9. «ديوان عروة بن الورد أمير الصعاليك»، دراسة وشرح وتحقيق: أسماء أبو بكر محمد (ص: 83).  / 10. المصدر السابق (ص: 84).  / 11. المصدر السابق (ص: 98).  / 12. المصدر السابق (ص: 99).  / 13. انظر «شرح ديوان عروة بن الورد العبسي» لابن السكيت (ص: 210).
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها