التاريخ ومسارات السرد في رواية ''سلطنة هرمز''

سعيد بوعيطة

تجنح رواية "سلطنة هرمز" للروائية الإماراتية ريم الكمالي، إلى إنتاج حكاياتها ضمن إطار سردي مركب، يراهن على استراتيجية سردية مزدوجة، تمتد على مستويين. يستمد المستوى الأول مقوماته (مادته الحكائية) من المادة التاريخية على امتداد مرحلة تاريخية معينة. أما الثاني، فيراهن على تقنيات سردية حديثة، تعيد بناء هذه المادة التاريخية وفق رؤية سردية حداثية، وبين المادة التاريخية (باعتبارها نصاً غائباً)، والتحقق النصي (باعتباره نصاً سردياً منجزاً)، تنهض رواية سلطنة هرمز، باعتبارها طرساً على حد تعبير جيرار جينيت. بهذا؛ يكون هذا النص الروائي قد كشف عن انحيازه إلى سؤال التاريخ على طول مساره السردي الطويل، ليشكل أُفقاً للحفر والبحث التجريبيين.


إن البحث في مرحلة تاريخية بعينها، هو ما يشدك إلى هذا النص السردي، لكن ليس ما هو مكتوب في التاريخ الرسمي، أو في تاريخ الأمم والدول. بل في تلك الهوامش التي تتجلى في حكايات الشخصيات المدسوسة عند هذا السارد/ الحكواتي أو ذاك. لهذا؛ فإن الروائية ريم الكمالي، لا تبتغي سرد الوقائع التي مضت، ولا حتى إيجاد إيقاع لها في الحاضر، بقدر ما تجعل تلك الوقائع التاريخية والشخصيات المرتبطة بها، محمولة في لغة تحتجب إشاراتها أكثر مما تظهر. يجعل متلقي هذه الرواية، أمام العديد من الأسئلة: من أية بوابة سيلج العوالم السردية للروائية ريم الكمالي هذا الاسم الإبداعي الموجود بقوة في المشهد الثقافي الإماراتي خاصة والعربي بشكل عام؟ كيف يستطيع فتح مغاليق هذا النص السردي؟ هل يبدأ من المادة التاريخية، أم من النص السردي الذي أعاد صياغة هذا التاريخ، أم منهما معاً؟


اشتغال التاريخ في رواية ''سلطنة هرمز''

يتشكل هذا النص السردي من ثلاثة فصول. يرتبط الفصل الأول بعائلة أبراق في قرية خصب جنوب المضيق الهرمزي (15071490). أما الفصل الثاني/الأسطول البرتغالي في سلطنة هرمز (1507/ مارس 1508)، أما الفصل الثالث بين الأسطول والساحل (أبريل 1805). تنبني عناوين الرواية على جغرافية التاريخ. يتفرع كل فصل من الفصول الثلاثة، إلى عناوين فرعية. يمنح النص السردي تراتبية سردية خاصة. تؤشر فصول الرواية وعناوينها الفرعية على أن نص ''سلطنة هرمز''، يتخذ مسارين أساسيين. إحداهما عام يرصد العديد من الصراعات الأجنبية على هذه المنطقة لنهب خيراتها والهيمنة على اقتصادها. أما الآخر، فخاص يعمل على رصد حيوات مجموعة من الشخصيات السردية في بعدها المرجعي/ التاريخي حسب فيليب هامون، وعلاقاتها مع باقي شخصيات النص السردي. حيث يتضافر التاريخ والجغرافيا على السواء لإعطاء نكهة خاصة للرواية. شبيهة بقول السارد: (من المسك الأبيض المطحون وعرق الصندل والعنبر والسكر، وماء الورد الفارسي والزعفران، ودهن العود وبعض قطرات من روح الورد) [ص: 13]. يقود السارد القارئ عبر عتمة السرداب، ليطلعه على تلك السرود الملجومة التي تنتظر من يحررها؛ إنها خصب الجنة العذراء وسُكانها ملائكة جبلهم الله من روائح زكية، تؤكدها شهادة شخصية التاجر الهندوسي التي ترى أنك إذا لمست عواطفهم تخرج منها الرائحة، وروائحهم تُخرج العاطفة. يقول السارد: "رائحة برودة الأرض ورائحة ثمار الأشجار ممزوجة برائحة أغصانها الرطبة متخللة رائحة الصخور. نعم حتى الصخور بدت لي ذات رائحة، ورائحة قهوتهم آخر نهارهم تفوح لتمتزج برائحة المعجزة والشافية" [ص: 218]. تعقب السارد/الروائية ذلك الموروث الشفاهي، وصاغته من خلال مجموعة من التقنيات التناصية.
 

التاريخ ومسارات السرد

1. التاريخ.. والمسار العام للرواية

يتغذى نص رواية ''سلطنة هرمز'' من مرجعيات عدة. ترصد هذه الأخيرة لحظات تاريخية/صراعات دامية. تجلت على وجه الخصوص في الغزو البرتغالي لهذه المنطقة. يمكن اعتبار إبراز القوة (السيطرة): هو الحبل الذي تعتصم به كافة شخوص الرواية.إنه القوة الدافعة في فاعليتي الانتباه/الانجذاب.

2. التاريخ.. والمسار الخاص (الشخصيات)

وظفت ريم الكمالي شخصيات أضفت جمالية كبيرة على هذا العمل الروائي؛ لأنها تميزت بالواقعية. فعلى الرغم من كون الأحداث التاريخية الواردة في الرواية ذات طابع صراعي، إلا أن هذا لم يعق حركيتها السردية. لكنها انخرطت في أحداث الرواية التاريخية "التصادمية أحياناً والتواصلية أحايين أخرى". عملت هذه الأحداث على رسم مسار حيوات هذه الشخصيات السردية.

 أ. العلاقة التصادمية/ الصراع

تبرز هذه العلاقة التصادمية بشكل أساسي عند شخصية الجنرال البحري ألفونسو دلبو كيرك، الذي سعى إلى تدمير الاقتصاد البيئي ليوتوبيا خصب "القباطنة اتحدوا بقواربهم، ونزلوا الشاطئ ليشعلوا النار في الميناء ومعظم منشآت خصب المتبقية أمام البحر، بما فيها بعض النخيل" [ص: 110]. يشعل الجنرال النار في بيت الله والمعتصمين بحبله. مما حوله إلى كائن دموي "البحر غدا كالنبيذ والجثث في الماء قد تملحت منتظرة حيوانات البحر تنهي وجودها" [ص: 111]. تأخذ السيطرة على منطقة خصب طابعاً دينياً، حيث يتقدم أحد الغزاة "يضع على جدران المنازل وأبوابها شارة الصليب راسماً الصلبان عليها" [ص: 111]. فيستعمل الجنرال فاعلية التسمية لتمجيد القائد المقتول في المعركة. يقول السارد: "وليعزز ألفونسو دلبوكيرك من مجد دي سوزا الشهيد، قام بتسمية منطقة المعركة باسم سوزا، ليمجد اسمه في مكان ما من أجل راحة ضميره" [ص: 151].

 ب. العلاقة التواصلية

تجلت هذه العلاقة التواصلية بين شخصيات النص السردي التي ربطت بينها المعرفة وسحر الشرق وخباياه. ارتبط هذا الحلم بشخصية أصغر الجنرالات (شخصية أنطونيو)، الذي انشغل في سرداب بدرة السري بتفكيك شفرات اللغات الأخرى في المخطوطات. تعمقت العلاقة التواصلية/المعرفية بين شخصية بدرة المسلمة، وشخصية انطونيو المسيحي البرتغالي، الذي يتكلم اللغة العربية ولغات أخرى. تخاطب بدرة نفسها "تراودني الأحلام بألا أترك أنطونيو أبداً، بل سأرحل معه، فهو الوحيد الذي يحمل معرفة وأعرفه.. والذي رحل دون أن يكمل لنا الطريق، وهو جدير بأن يكمله لي، وإن كان معتدياً وغريباً لم يعد يعنيني سوى الرحيل معه.. من سيعبأ بي، فأنا بأمر من أبي ظللت رهينة الدار، حتى نسي الرجال وجهي، لم أستقبل مع والدتي سيدات خصب في الدار كثيراً. لهم أن يعلموا بأنني مت فالغزو لم ينته ولن يحررنا أحد" [ص: 263]. مثلما غادر والد شخصية بدرة (عبد الرحمن الحجازي) أهله ومسقط رأسه مكة، ستنتقل عدوى المغادرة إلى شخصية بدرة التي ستقرر ترك منطقة خصب. لكن حين تعترض شخصية القبطان أنطونيو دي كامبو "لكنك لا تدركين معنى هذه المخاطرة، والدتك وأهلك سيصابون من بعدك، وأسطولنا خلال الرحلة لا ينتصر دائماً" [ص: 268]، يكون جواب شخصية بدرة "لقد فكرتُ ولا رجعة لي، سأرحل معك للمعرفة، لقد ضاقت عليّ خصب، ولم أعد أحتمل حجمها، لم لا أرحل بعيداً لأكتشف" [ص: 268].

بنيت هذه العلاقة التواصلية على سحر الشرق وجاذبيته "ذهل دي كامبو من السجاد الصغير المعلق على جدار السرداب، ليتلمسه بيديه متأملاً تلك النقوش، ليقول مبتسماً: "إنها نقوش قبطية، سجاد من النسيج القبطي" [ص: 260]. مما يحيل على الفن الشرقي باعتباره فناً للعمارة والتاريخ. يقول السارد/ شخصية بدرة: "كان والدي دائماً يتحدث عن ندرة نقوشهم، مؤكداً أن قريشاً في مكة قديماً كانت دائمة الاستعانة بنجارين أقباط، كذلك الأمويين بدمشق في بناء المساجد" [ص: 260]. استحالت هذه الفنون على تاريخ وأعراف وتقاليد، وحضارة المنطقة التي أسهب السارد في وصفها، بمؤثرات الزمن إلى رموز كما هو حال "الصخرة الجرداء في العلالي يصعد إليها المهتمون، بدت ذات حظ كبير حين نقش عليها الناقشون المجهولون لُيعلِموا من في الطريق من المسافرين جهة الشرق من جهة الشمال" [ص: 261]. حيث ارتبطت معارف وعلوم البحار في خصب بمهارات شخصية سلطان بن بحر الزين "سلطان اسمي، لكن لا سلطان لي إلا على البحر كربان وملاح، أما هنا فيدعونني سلطان بن بحر الزين النغل. النغل، أبي ذلك الواهن الذي لم أعرفه، سفاح الجبل الذي مات حيث أكلته الفاقة، فلم يعش كغيره منهوماً أو مقدساً، بل رقيقاً استخدموا يده كعبد في السوق، فمات من الوهن والوجل، عاش مع أمي حتى عوقب بالبعد، ليموت كمداً، فيحملني اسم النغل بدلاً من اسمه. كم ميزني بهذا اللقب؟ لتصبح إنسانيتي محرمة فلا يجوز لي الولوج إلى الحياة" [ص: 76]. في جوف ذلك السرداب السري، تكون ولادة سلطان بن بحر الزين، ومن المخطوطات يقتبس ضوءاً وبشهادته "النصوص تُضيئني..." [ص: 79]. وكل ذلك بجهود شخصية بدرة بنت عبد الرحمن الحجازي، التي وجدت في سلطان تلميذاً نجيباً وأهلاً للمعرفة، وأخاً في الإنسانية. وبهذه المعرفة، ستفك شخصية سلطان أسرار البحر. يقول السارد "أداة بعد أداة تلمسها يدي وتستخدمها، ليتفكك لغز البحر، ويتحول علماً بلا متاهات ووضوحاً بلا أسرار" [ص: 82]. ولأن البحر هو الحياة بالنسبة لمنطقة خصب، ستكون الولادة الثالثة لشخصية الملاح سلطان بن بحر الزين "تسيطر المعرفة على عقلي فأولد من جديد" [ص: 94]. هكذا تنبني هذه العلاقة التواصلية المعرفية. سواء تعلق الأمر بالعلاقة بين الأنا (الشرق)، والآخر (الغرب) المتجلية في علاقة شخصية بدرة، وشخصية أنطونيو دي كامبو (البرتغالي)، أو العلاقة بين الأنا (الشرق)، والآخر (الشرق كذلك). المتجلية في علاقة شخصية بدرة، وشخصية سلطان بن بحر الزين، وما تحمله من دلالات تاريخية.

لقد سعت الروائية ريم الكمالي من خلال رواية "سلطنة هرمز" إلى تأصيل طرائق توظيف التاريخ في النص السردي، سواء من جانب الشخصيات أو من جانب الأحداث، مما دلَ على وعي الروائية بأهمية حضوره الكبير والفاعل في حياة الناس، كما أكدت استمرار هذا الماضي/التاريخ في الحاضر، وإسقاط ما حدث على ما هو محتمل الحدوث.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها