جبران.. رساماً

د. ناصر أحمد سنه

ارتبطت شهرة "جبران خليل جبران" (1883-1931) بتألقه الشعري، وجزالة سرده القصصي الأدبي، وتأثير أسلوبه "الفلسفي" في الحياة الثقافية المعاصرة.. غرباً (في أمريكا)، وشرقاً (في وطنه العربي). لكنه تألق، أيضاً، في الفن –رساماً- فأبدع فيه بريشته، كما أبدع بكلمته في الشعر والأدب معاً.

في قرية "بشرّي‎" بلبنان كان مولد "جبران بن خليل بن ميخائيل بن سعد"، وتلقى مبادئ تعليمه الأولي، ثم هاجر مع أسرته إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1895، فواصل متابعة دروسه، وبدأت ميوله الإبداعية تظهر نحو الرسم. فصقل موهبته بالتعلم على يد الرسام "هولاند داي". وتقدمت ميزة "الرسام التشكيلي" على صفة "الشاعر الأدبي" في بدايات "جبران". فمن الدكان الصغير الذي اقتناه شقيقه "بطرس"، كان يرسم تمثال "الباخوسيات" بقلمه الفحمي الملوّن ويقرأ بشغف ما يقدمه له "داي" الشغوف بالنماذج والفنون الشرقية، والذي طلب منه رسم أغلفة بعض الدواوين الشعرية.

وقام "جبران" بالاطلاع على كثير من المدارس الفنية التشكيلية، وزار العديد من المعارض التشكيلية، ثم كون لنفسه أسلوبه الفني الخاص، ومن ثم باع كثيراً من رسوماته كأغلفة لكتب منشورة. وفي الثامن من آذار 1898 افتتح معرضاً خاصاً له، مضمناً إياه مجموعة لوحات تشكيلية. وفي سبتمبر من العام ذاته عاد إلى لبنان وهو يتكلم لغة إنكليزية ركيكة، وبها كاد ينسى العربية أيضاً. فالتحق بمدرسة "الحكمة" لدراسة اللغة العربية وتحسين مستواه فيها. وتعرف "جبران" على "يوسف الحويك"، وأصدرا معاً مجلة "المنارة"، وكانا يحررانها سوياً، بينما وضع "جبران" رسومها وحده. وبقيا يعملان بها حتى أنهى (1902) دروسه اللغوية بتفوق في العربية، والفرنسية، والشعر.

انطلاقة فنية هامة

في عام 1904 أقام جبران معرضاً لرسومه ولوحاته التشكيلية في محترف "داي"، والتقى خلاله بالأمريكية "ماري هاسكل"، التي تذكرت الدعوة الموجهة إليها للمعرض قبيل ساعات من انتهائه. وشكل هذا اللقاء بينهما بداية علاقة طويلة. فقد ساعدته على تحقيق الكثير من طموحاته الفنية. فافتتحت معرضاً لرسومه في مدرستها. وخلال ذلك العام -1904- تلقى "جبران" صدمة كبيرة إثر احتراق لوحاته الأربعين، بعدما شارك بها في معرض "هاركو ستويد". صدمة دفعته إلى العطاء والإبداع، بعدما التقى "أمين الغريب" صاحب مجلة "المهاجر"، الذي خصّه بزاوية دائمة في مجلته.

كما تلقى "جبران" مساعدة هامة من "ماري هاسكل" عبر إرساله إلى باريس عام 1908 لدراسة فن الرسم، بمقابل تكفلها نفقات سفره وإقامته، التي بلغت حينها 75 دولاراً شهرياً. وفي حزيران من العام ذاته، التحق جبران بأكاديمية "جوليان". وسمحت له إقامته في باريس بزيارة قصر "فرساي"، فأعجب بلوحة "الموناليزا"، ليبدأ بعدها رحلة جديدة من الرسم: رسم المشاهير، ومطالعة نوابغ الأدباء الإنكليز والفرنسيين والألمان، وطور تقنياته الفنية، وحصل على إجازة الفنون في التصوير.

وفي باريس.. التقى مجدداً بزميله في الدراسة في بيروت "يوسف الحويك". ومكث في باريس ما يقارب عامين، ثم عاد إلى نيويورك (1911)، بعد زيارة قصيرة للندن رفقة الكاتب "أمين الريحاني". ومن ثم استقر بشكل نهائي، حيث بدأت أخصب مرحلة إبداعية ومفصلية في حياته كرسام. إذ شهدت لوحاته رواجاً مميزاً، فأدرت عليه مالاً وفيراً، ما دفعه أواخر إبريل من العام نفسه إلى الانتقال إلى نيويورك، وافتتاح محترف له، اتخذ منه مقراً دائماً لم يفارقه إلا بوفاته. وفي هذا المحترف رسم كثيراً، وخاصة بورتريهات شخصيات شهيرة. كما أقام في العام 1914 في قاعة (مونتروس) النيويوركية معرضاً للوحاته. وحين شعر بدنو ساعته جراء تدهور صحته، انصرف "جبران" إلى الرسم والتأليف بغزارة.

"بورتريهات".. نفسية.. ونفيسة

من أهم أعماله الفنية مجموعة بورتريهات، اعتاد رسمها لشخصيات معروفة من زوايا متعددة تستحضر حالاتهم النفسية. ولجأ أحياناً إلى الرسم المزدوج، حيث "الذات المعروفة" تقابلها "ذات مجهولة" في شخصية واحدة، مثل بورتريه "مي زيادة"، و"أمين الريحاني"، و"كارل يونج"، و"طاغور"، و"غاريبالدي"، و"سارة برنار"، و"راسل لوفليان"، وغيرهم. وقد عبر عن هذا المعنى في كتابه "المجنون" في فصل الوجوه، فقال: "أنا أعرف الوجوه لأني أنظر إليها من خلال ما ينسجه بصري، فأرى الحقيقة التي وراءها ببصيرتي". وهذا ما يجعل هذه الأعمال أقرب إلى إشراقات تجمع بين البصر والبصيرة.

 فللوحاته دلالات عميقة وتساؤلات عن الإنسانية والوجود والكينونة، والأجيال المتعاقبة، والرموز، والأثير، والوجوه المسكونة بلحظة براءة. دلالات وتساؤلات خطها "جبران" الرسام على القماش بالرصاص، والفحم، والطبشور القرميدي، وألون الماء، والزيت.

"رؤى" بدون توقيع

أراد "جبران" أن تكون "كل صورة بداية لصورة جديدة"، فتوالت أعماله الفنية، واعتمدت مرحلته فيما بين 1914- 1920 على الفحم الأسود، كما رسم بالألوان المائية. أما في مرحلته الفنية الختامية (1920-1931) فبلغ فيها درجة عالية من صفاء الرؤية دون الإلتزام بمدرسة فنية معينة، واصفاً نفسه بأنه: "خلاق أشكال"، وليس فناناً تشكيلياً. ولم يكن "جبران" يوقع على معظم لوحاته قائلاً: "إن لوحاتي أنى وجدت ستعرف بأنها لي". في إشارة لعالمه الخاص المتفرد، المُتلمس علاقة الإنسان بالأغيار والقوى الكونية. كما يتضمن رؤى وتأملات فلسفية، و"استبصار روحي" عن الطبيعة، والحياة، والموت. وكان عمق اللون، وخفوت الضوء المفتاح البصري للتماهي مع موضوعات "جبران" ومفرداته الفنية. تلك التي تتخلق من صخور الجبل أو زبد البحر، كما في لوحة "الفينوسات الثلاثة"، التي رسمها في جو ليلي بلا مصدر حقيقي للضوء. ولكن ينعكس ضوء القمر على أجسادهن البيضاء فيحولهن إلى هالة من نور؛ وكأنهن ضوء الفجر يشق عتمة الظلام.

 وعكس "جبران" في لوحاته ومنحوتاته نظرته العميقة للحياة، وبصيرته المنفتحة على الماورائيّات. فكانت أشبه بـ"رؤى" تعبر عن الشّاعر والرّسّام في آن. فأبدع خمسمائة وستة وعشرين عملاً فنياً محورها: "الإنسانيّة" الّتي تصبو نحو الكمال والحرّيّة، فبلغت بعضها وما زالت تسعى للمزيد. وجاءت أغلب لوحات "جبران" أشبه بأيقونات تُقرأ. فكتب بريشته، وشكّل بألوانه نصوصاً بصرية، تتغلل إلى البصيرة، فتبعث على تأمّل أسرار الحياة، وما وراءها. فأثرى لوحاته بأطياف وكائنات نورانية، كما أغرق كثيراً منها بملامح وتفاصيل الجسد "المادية"، لتحمل مفاهيمه "الروحيّة". وتنفتح أبرز لوحاته على الطّبيعة، للتأكيد على ارتباط الإنسان "المصيري" بها.. ابتداءً، وانتهاءً.

 والدارس للوحاته سيلاحظ تأثيراً غير مباشر لفنانين كبار مثل: "رودان" الذي نهل منه عنصر القوة والعظمة، ولهب المتانة والقوة عند "مايكل انجلو"، واختبارات "أوجين كارتيه" في تفاصيل الأمومة والكآبة، زرهافة "دافنشي"، و"بونيس دي شافال"، والفن اليوناني. لكن "جبران" نهض بلوحاته نحو فضاءات صوفية، تعكس نظرته للحياة، ولنفسه التي جهد ليقدمها في إطار من الروحانية، والعمق، والوقار.

ولقد أوصى "جبران" بهذه الأعمال الفنية مع أغراضه الشّخصية، ومكتبته الخاصّة لـ"ماري هاسكل" كرسالة وفاء لما قدّمته له، قائلاً لها: "إذا ما وجدت مناسباً إرسال الأغراض إلى بلدتي بشري، فهذا يعود إليك". فاحتفظت "ماري" بـأربع وثمانين لوحة، لتفتتح بها متحفاً حمل اسم Tel Fair Museum of Art، في مدينة "سافانا" بولاية "جورجيا" الأميركية. وأرسلت أربعمائة واثنين وأربعين لوحة إلى قرية "بشرّي" في لبنان. فعرض بعضها أمام الجمهور اللبناني خريف 2003، في الذكرى العشرين بعد المائة لولادته. فتشكل المعرض الذي أقيم في "الأشرفية" صفحة جديدة مع جبران الرسام.

وتوفي "جبران" في العاشر من إبريل 1931 في إحدى مستشفيات نيويورك، وهو في الثامنة والأربعين من العمر بعد إصابته بالداء العضال (السرطان). ونقلت شقيقته "مريانا"، والسيدة "ماري هاسكل" جثمانه إلى بلدته "بشري". واشترت المرأتان دير "مار سركيس" الذي نقل إليه جثمان "جبران"، وما يزال آلاف الزوار يصعدون جبل مارسركيس في أحضان وادي القديسين بلبنان، حيث يرقد "جبران". وما بين "بشرّي، وباريس، وبوسطن" رحلة حياة "جبران" عبر مئات الأعمال الفنية الباهرة، ومن قبل العديد من المؤلفات الشعرية والأدبية بالإنجليزية والعربية، المتشحة بالرمزية سواء في شقيها الواقعي أو الرومانسي. لقد برع "جبران" في رسم الكلمات في قصائده النثرية، ورسمت ريشته أوجاع الإنسانية وآلام الغربة وأتراحها. ولعل الوقت قد تأخر كثيراً لمقاربة سيرته الفنية الإبداعية، فتجربته الفنية التشكيلية متألقة مشرقة، كما إبداعه الشعري/ الأدبي سواء بسواء.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها