السيرة الذاتية.. وجدلية "الاختفاء"!

د. ناصر أحمد سنه


لكل أديب وشاعر وكاتب سيرته الذاتية، وهو الأقدر على تسجيل حقائقها، وعرض وقائعها، وسرد مفرداتها. فإلي أي مدى يمكنه -وهو "بطلها الأوحد" المَعني بدقائق حياته، ودوافع حركاته، وخلفيات توجهاته- تقديم "الحقيقة كاملة صريحة" دون إخفاء، أو تموية، أو مواربة، أو "رمزية"، أو انتقاء، أو نسيان مقصود؟


السيرة الذاتية جنس أدبي قائم بذاته. له موضوعه، ولغته، ومواقفه، وأحداثه، و"دينامياته". وفيها يحكي/ يسترجع الكاتب وجوده الخاص، وحياته الفردية، وتاريخ شخصيته ومراحل تطورها، وعلاقاتها المتنوعة والمتشابكة. وهي تنشأ من "رغبته" في استعادة مسار حياته "ليهنأ باله" بما انتهى إليه من نتائج "حياتية متنوعة".. إيجابية أو سلبية. وأشكال كتابتها متعددة مثل المذكّرات، واليوميات، والشهادات، والوقائع، والرسائل، والحوارات الشخصية، و"التخييل الذاتي للحياة الشخصية". وفي هذا النوع الأخير محاولة وجهد كبير كي "لا يظل أيُّ اختلاف بين (الأنا) الذي يكتب، والذات التي تتمظهر في الكتابة". ويعتقد أن حكي السير الذاتية يمنح "لذة" شبيهة بلذة الرواية الكلاسيكية. ففيها يتناوب السرد والوصف، والمشاهد والتحليلات، والبورتريه والتحقيقات". ويبقى أن "معرفة الذات، وإيصال تجربتها" هي أحد الأهداف الرئيسة التي يراهن عليها كاتب السيرة الذاتية.

:: نماذج رائدة ::

يعتبر كثير من النقاد أن كتاب "الأيام" (صدر عام 1929)، لعميد الأدب العربي "طه حسين" (1889- 1973م)، "نص تأسيسي رائد" لجنس السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث. وكانت "نبراساً" يقتدي به من جاء بعده من كتاب السيرة الذاتية. ومع ذلك مع صدوره ظهرت "إشكالية" رسم الحدود بين الرواية الفنية، والترجمة الذاتية. وتعمد الفصل بين شخصية المؤلف، وشخصيات الكتاب، واستعمال (ضمير الغائب). ‏ففي بداية "الأيام" يقول:"لا يذكر لهذا اليوم اسماً". كما أُخذ عليها (وبخاصة من معاصريه) أنه قدم نفسه "كأنه قد علم بتفاصيلها مُسبقاً، فاختار لنفسه خطاً أشبه ما يكون بخط النبلاء".

وتناول "العقاد" (1889-1964) في كتابه "عنّي" حياته الشخصية حيث قال: "عباس الذي أعرفه أنا وحدي لا عباس العقاد الذي يعرفه الناس، والجانب الآخر حياته الأدبية والسياسية والاجتماعية المتصلة بمن حولي من الناس". ‏ أما كتاب "حياتي" لأحمد أمين (1886- 1954)، فيتناول سيرته الذاتية، لكنه جاء أقرب إلى المقال. وفي مقدمة طبعته الأولى يقول: "على ذلك وضعت هذا الكتاب، ولم أذكر فيه كل الحق". وفي "قصة حياة" لإبراهيم عبد القادر المازني (1889-1949) بوح عن سيرته الذاتية.

بيد أن أدب "توفيق الحكيم" (1898- 1987) حافل بجوانب متنوعة ومتفرقة من سيرته الذاتية. ففي "عودة الروح"، تحدّث عن "أسرة ريفيّة" سكنت حي السيدة زينب بالقاهرة. لكنه جعل منها "رمزاً" للشعب المصريّ، حين ربطها بأحداث ثورة 1919. وفي "يوميات نائب في الأرياف" كشف عن فساد القضاء، وسوء الحالة التي كان عليها الريف المصريّ. وعرض في "عصفور من الشرق" جانباً من حياته تعلق بدراسته في فرنسا، وموقفه من حضارتي الشرق والغرب. بينما في "حمار الحكيم" عكس آراءه حول مجموعة من القضايا أهمّها الأدب، والفن، والريف. وضمن "زهرة العمر" وضع عدداً من رسائله إلى صديقه الفرنسي "أندريه". تناول فيها مرحلة من عمره، وهي مرحلة البناء الثقافي، والأدبي. ثم عاد فسرد في "سجن العمر" تاريخ حياته منذ الولادة إلى أن عاد من فرنسا دون تحقيق هدفه.

ويرى دارسو أدب "الحكيم" أن "حياديته" في نقل الأحداث وتوصيفها تبدو واضحة في نصي "زهرة العمر"، و"سجن العمر". بينما حاول "التخفي"، وغيّب "عقد" السيرة الذاتيّة في نصوص "عودة الروح"، و"يوميات نائب في الأرياف"، و"عصفور من الشرق"، و"حمار الحكيم". كما استعمل أسلوب "الرمز" في أسرة "عودة الروح"، التي كانت رمزاً للشعب، و"سنيّة"، التي مثّلت التطوّر والتقدّم.
 

:: السيرة الذاتية.. النسوية ::

في نصوص السيرة الذاتية التي كتبتها النساء.. يرى البعض خفوت نزعة "الاعتراف"، وضعف الرغبة في "الشهادة" على مرحلة من مراحل العصر. ولعلّ الحرية الممنوحة للكاتب الرجل أكثر من تلك المتاحة للمرأة. كما أن التاريخ الإبداعي للمرأة قصير نسبياً مقارنة بالرجل. لذا؛ فلسردهن الذاتي خصوصية أسلوبية وموضوعية. فنجدها قد تلجأ إلى نوع من السرد يعتمد "التشظي"، وعدم تراتبية الأحداث. ويبرز على سبيل المثال كتاب "رحلة جبلية" للشاعرة "فدوى طوقان" (1917- 2003). فهي تكتب حياتها لتبرر المكانة التي وصلت إليها، باعتبارها شاعرة عربية اعترف النقاد والقراء بنبوغها. تقول: "كنت أعيش مع الأفكار المزروعة في الكتب، معزولة عن عالم الناس، بينما أنوثتي تئِن كالحيوان الجريح في قفصه، لا تجد لها متنفساً مهما كان نوعه". فلجأت إلى كتابات تعتمد على وجبة البوح، التي تستقبلها قرون التلصص لدى القارئ. ورغم كل تلك المعوقات إلا أن المرأة العربية حققت طفرة في الإنتاج الأدبي والنقدي السير ـ ذاتي. كما لها "طفرة" نوعية واضحة على مستوى كتابتها للسير الذاتية، وعلى مستوى إنتاجها لخطاب نقدي وتحليلي سيرـ ذاتي موازٍ، سواء اشتغل الخطاب على السير الذاتية العربية التي كتبتها المرأة، أو التي كتبها الرجل.
 

:: "سلاح" الرواية ::

حديثاً.. قدم "حنا مينة" (1924-) ثلاثية (بقايا صور، المستنقع، القطاف) على أنها رواية. وهناك كتابات "غازي القصيبي" (1940-2010) (شقة الحرية - العصفورية) وغيرها. وفي هذا المضمار غالباً ما يتم استبدال ميثاق السير الذاتية بالميثاق الروائي. ‏الذي يتخذ من "التسجيل مادة ابتكار، وتتداخل تسجيلاتها في ابتكاريتها، فلا تعرف: أهي محض حقيقة، أم إبداع خيال"؟ ‏ لكن هل يمكن الحكم على تلك "المقاربة الروائية" بأنها سيرة ذاتية محضة؟ ففي حال استعمال "سلاح" الرواية، وتغيير من أسماء شخوصها وأماكنها، يبدو السرد أنه لا يمس/ يخص كاتبه من قريب ولا من بعيد. وبذا؛ يخلص نفسه مما لا يجوز الاقتراب من خطوطه الحمراء.

وعلى جانب آخر.. هناك من يرى أن رواية مثل "سقف الكفاية" لمحمد علوان، هي سيرة ذاتية أكثر وضوحاً من أكثر السير الذاتية المحلية من حيث المصداقية. ويعزون ذلك أن كاتبها ربما لم يضع في اعتباره مسألة النشر، فلم يحذف منها أو يغير كثيراً من معالمها. وإذا كانت كتابة الرواية عملاً شاقاً ومضنياً، ويحتاج إلى كثير من الصبر لإنجازه؛ فإن كتابة السيرة أكثر مشقة. فإلى جانب رصد الأحداث ومتابعتها، ومحاولة الإمساك بخيوطها جيداً حتى لا يضيع أحدها وينهار العمل. تأتي مسألة "الصدق" الذي لا بد منه، حين يكتب أحدهم سيرة ذاتية.

ويوجد نموذج آخر يقع بين السيرة الذاتية، والسرد السيرذاتي وهو "خلوة الغلبان" لإبراهيم أصلان. فهي ليست سيرة ذاتية خالصة يوثق فيها الكاتب لحياته وفق الشروط المعروفة، كما أنها ليست رواية بالمعنى المتعارف عليه. ذلك لأن "أصلان" حاضر بشخصه كراوٍ للعمل، ومشارك في الأحداث التي يتم انتخابها. بل "يغالي" فيذكر أسماء شخصيات حقيقية، لكنه يضعها في آفاق سردية صانعها هو. وهو الحكم والفيصل في صدقها من عدمه. فيذكر نجيب محفوظ، ويحيى حقي، ويوسف إدريس، والغيطاني، وغيرهم من الكاتب والأعلام الحقيقيين. لكن المنطلق السردي يصنعه هو وفق مخيلته التي تستعيد أحداثاً بعينها. ويقوم بانتخابها بعناية، ويتورط فيها كبطل وسارد في آن. بطل لزمن مستعاد، وسارد لزمن حاضر.

:: الإشكالية الرقابية ::

كانت، وستظل، "الحرية" ومدى توافرها، وتحمل المسؤولية الأخلاقية أمام القارئ، وإشكالية "الرقيب" -الذاتي أو المجتمعي- ومدى تخوف الكاتب منه، من أهم الأسباب التي تؤثر على "مصداقية وصفاء ونقاء" السير الذاتية.

فالسيرة هنا لا تخص الكاتب وحده؛ لأنه لا يوجد إنسان يعيش في غرفة مغلقة بمعزل عن مجتمعه، ليكتب نفسه فقط. لا بُدّ من أهلٍ وأقاربَ ومحيطين بالكاتب، وتجارِب متنوعة خاضها، وسلطات تراقبه، وأشخاص ارتقى أو انحدر معهم. ولا بُدّ من بيوت اطلع على خفاياها، وشوارع سار فيها بخير وبشر. وأخيراً لا بُدّ من أبواب مغلقة، وممنوع طرقها حتى برفق، سيضطر إلى فتحها جميعاً، لقراء لا يعرف عددهم، ولا مستوى فهمهم.

كل هذا وغيره يؤدي إلى أن يشعر كاتب السيرة أنه "شاهد" على الكتابة أكثر من كونه صاحبها. بل قد يتبرأ منها في حوارات صحفية، قبل "أن يـُطاح برأسه" في نهاية الأمر. لذا كثيراً ما انطوت الكتابة الذاتية على عراقيل عديدة. مما قلل من انتشارها في الأدب العربي، أو جعلها جنساً أدبياً هامشياً (كتابة، وقراءة) مقارنة بغيره من الآداب الأخرى. ونجد قلة من الكتاب العرب من ذكر سيرته الذاتية بكل جلاء ووضوح.

بينما يلقي البعض الكرة في ملعب القارئ كي يتمكن من أن "يتماهى" أكثر مع "الأنا" الساردة. ويحاول إنجاز فعل "المشابهة/ التطابق"، بينه وبين السارد أو الكائن السيري. كما يحاول أن يملأ فراغات النص، أو اللامقول والمسكوت عنه. بفعل إعادة ترتيب الأبحاث وفق متنها لا مبناها الذي ظهرت عليه في السيرة. ويرون ذلك جزءاً من "مكافأة" القراءة، ومتعتها. في حين أنه لا يستطيع ذلك في النص السيري الصريح؛ لأنه يضع في خلفية القراءة أن الأحداث واقعية، قد حدثت للكاتب المتعين وراء النص، ولا يمكن التماهي معها أو ملأ فراغاتها؛ لأنها تبتعد قليلاً عن فكرة التخييل والإيهام، وتقترب أكثر من فكرة الصدق والمواجهة مع الذات، واعتلاء كرسي الاعتراف أمام قارئ افتراضيٍّ، يمكن أن يمنح "الصفح" عن الأحداث الحقيقة التي حدثت لكاتبه.

خلاصة القول؛ السيرة الذاتية -وتكتب مرة واحدة- من أكثر الأنواع الأدبية إثارة للجدل. وما تزال مصحوبة بجملة من المحاذير. وبخاصة، "كشف المستور" الذي لا يعرفه إلا الكاتب نفسه، مما يتطلب جرأة، ومسؤولية اجتماعيةً. لذا قد يلجأ الكاتب إلى التخفي كي لا يصبح مسؤولاً أمام قرائه عن أفعاله بشكل واضح. وفي "الحيل السردية" داخل الفضاء الحكائي مندوحة عن كشف هذا المستور. وتبقى فكرة "المكاشفة التامة" بعيدة بعد "عالم المثال". وبقدر اقترابها من هذا "المثال" تكون قيمتها الموضوعية، وسردها الحقيقة مجردة، كاملة غير منقوصة. وفي هذه وتلك، إن حدثت، "نبراساً" للغير في مصداقية ما يكتبون.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها