المشي.. هل يحفّز التفكير؟

من داروين إلـى توني موريسون.. المشي يحرّر العقل ويولّد الأفكار

ترجمة: مروى بن مسعود

By Jeremy DeSilva


كان تشارلز داروين انطوائيّاً.. أمضى ما يقرب من خمس سنوات مسافراً حول العالم على متن السفينة بيجل، ويدوّن ملاحظاته التي أنتجت بعضاً من أهم الأفكار العلمية التي تم التوصّل إليها على الإطلاق. وفي العشرينيات من عمره، كان يعدّ نسخة مميّزة لعالم الطبيعة بعد أن تجوّل في جميع أنحاء أوروبا. لكن بعد عودته إلى ابريطانيا في عام 1836 استقرّ نهائياً، وتفرّغ للبحث والتأمل.



كان يتجنّب حضور المؤتمرات والحفلات والتجمعات الكبيرة.. كان قلقاً وانطوائياً بعد أن تفاقم مرضه في سن الرشد. ولذلك؛ كان يقضي معظم وقته في داون هاوس، منزله الهادئ على بعد عشرين ميلاً جنوب شرق لندن، منكبّاً على كتاباته وتأملاته. كان أحياناً يستضيف زائراً أو اثنين، لكنه يفضّل التواصل عبر المراسلات. وقد ثبّتَ مرآة عاكسة في مكتبه ليلقي من حين لآخر نظرة سريعة علّه يرى ساعي البريد قادماً من بعيد - نسخة القرن التاسع عشر من زرّ التحديث في البريد الإلكتروني.

ومع ذلك؛ لم يتوصّل داروين إلى صياغة أفضل أفكاره في مكتبه. بل كان ذلك خارج المنزل، في مسلك صغير نصف دائري على أطراف مزرعته تحديداً. سمّاه داروين المسلك الرملي، ويُعرف اليوم بمسلك تفكير داروين. كتبت بشأنه جانيت براون، مؤلفة "سيرة داروين" في مجلدين:

كان (داروين Darwin) الذي يشبه رجل أعمال، يكدّس كومة من الحجارة عند منعطف المسلك، ويرمي بحجرة واحدة منها عند كل منعطف ليحسب عدد المرّات التي قطع فيها المسلك، دون أن يضطر إلى تشويش أفكاره. خمس لفّات حول المسار تعادل نصف ميل أو نحو ذلك. في المسلك الرملي كان يفكّر ويولّد أفكاره. ضمن هذا الروتين المريح، أصبح الشعور بالمكان جليّاً في علم داروين، وشكّل هويته كمفكّر.

كان داروين يلفّ بالمسلك الرملي وهو يبني نظريته حول التطوّر عن طريق الانتقاء الطبيعي. كان يمشي ويفكّر في آلية الحركة لدى النباتات المتسلّقة، متخيّلاً الطريقة المذهلة التي تُلقّح بها بساتين الفاكهة بأشكالها الخيالية وألوانها المتنوّعة. ولم يتوقّف عن المشي أثناء تطوير نظريته حول الانتقاء الجنسي، وقام بتجميع الأدلة على أصل الإنسان. وفي جولاته الأخيرة اصطحب معه زوجته إيما، وكان يتأمّل في ديدان الأرض ويفكّر في دورها في إعادة تشكيل التربة تدريجياً.

في شباط (فبراير) 2019، قام جيريمي دي سيلفا، عالم الأنثروبولوجيا في كلية دارتموث البريطانية، بتجربة وصفية مماثلة لداروين بهدف معرفة دور المشي في تحفيز التفكير، من خلال زيارة المكان الذي عاش فيه داروين واكتشاف أهم أعماله. ما يزال مكتبه القديم مليئاً بالكتب والرسائل، وصناديق العينات الصغيرة التي تحتوي على حشرات مثبتة. وعلى كرسي قريب تتدلّى سترته السوداء وقبّعته السوداء المستديرة، وعصاه الخشبية التي تساعده في المشي. كانت حلزونية الشكل وتشبه المحلاق الزاحف.. بدت وكأنها مصقولة حديثاً، لكن جزءها السفلي كان متآكلاً - بفعل المشي لأميال على المسلك الرملي.

وما زالت آثار المسلك الرملي لم تمح. لم يكن هذا الفضاء مكاناً للسّحر أو العبادة. النزهة في الهواء الطلق تحرّر عقولنا وأفكارنا.. وصادف أن تفتّحت أحد أكبر عقول القرن التاسع عشر على هذا المسلك الرملي فغيّرت العالم ونظرة الإنسان للعالم.
 

المشي يحفّز التفكير؟

معظمنا بلا شك عاش هذا الموقف: عندما نسعى لحل مشكلة ما -عمل شاق أو مهمة مدرسية، أو علاقة معقّدة، مشاكل مهنية- قد نرتبك ولا نجد لها حلاًّ، ثم لوهلة نقرّر الخروج والتمشّي. وفي مكان ما على امتداد تلك الرحلة، سوف تأتينا الأفكار.

يقال إن الشاعر الإنجليزي ويليام وردزورث الذي عاش في القرن التاسع عشر قد قطع مسافة 180 ألف ميل في حياته. وقال الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو ذات مرة: "المشي يحفّز أفكاري ويحييها، عندما أجلس في مكان لا تأتيني الأفكار على الإطلاق؛ يجب أن أتحرّك ليتحرّر عقلي وينتج الأفكار".

وألهم تجوال رالف والدو إيمرسون وهنري ديفيد ثورو في غابات نيو إنجلاند كتابة مؤلفاتهما، بما في ذلك أطروحة "المشي" لثورو. وكان جون موير وجوناثان سويفت وإيمانويل كانط وبيتهوفن وفريدريك نيتشه من المشاة المنتظمين. ويقول نيتشه -الذي كان يمشي مصطحباً دفتر ملاحظاته كل يوم بين الساعة 11 صباحًا والواحدة ظهراً-: "كل الأفكار العظيمة حقاً يولّدها المشي". وكان تشارلز ديكنز يفضّل المشي لمسافات طويلة في لندن ليلاً، وكتب: "كان الطريق منعزلاً للغاية في الليل، لدرجة أنني غفوت على صوت خطواتي الرتيب، وأنا أقطع أربعة أميال في الساعة عادة... ميلاً بعد ميلٍ أمشي، دون أدنى شعور بالتعب، أغفو بشدة وأحلم باستمرار". وفي الآونة الأخيرة، أصبح المشي جزءًا مهماً من العملية الإبداعية لمؤسس شركة آبل ستيف جوبز.

من المهم التوقّف وتأمل هؤلاء المشاة المشهورين، ومعظمهم من الشباب. لم يُكتب سوى القليل عن النساء المشهورات اللواتي يمشين بانتظام باستثناء فرجينيا وولف. يبدو أنها كانت تمشي قليلاً. في الآونة الأخيرة، سافرت روبين ديفيدسون مع كلبها وأربعة جمال في جميع أنحاء أستراليا، وكتبت عن تجربتها في كتابها "مسارات". وفي عام 1999 كانت دوريس هادوك -جدة في 89 من عمرها من دبلن- تمشي مسافة 3200 ميل من الساحل إلى الساحل، احتجاجاً على قوانين تمويل الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة.

تاريخياً، كان المشي امتيازاً للرجال البيض. وكان الرجال السود يتعرضون للاعتقال، وحتى التعذيب إذا ما قرروا التنزه والمشي، أما النساء اللواتي كن يخرجن في نزهة فكن يتعرضن للتحرش، بل لما هو أسوأ من ذلك. بالطبع، كان المشي المنفرد رياضة محفوفة بالمخاطر في تاريخنا التطوري.

ربما الصدفة هي التي جعلت الكثير من المفكّرين العظماء يشتركون في حب المشي حد الهوس. يمكن أن يكون هناك العديد من المفكّرين اللامعين الذين لم يمشوا قط. فهل كان ويليام شكسبير أو جين أوستن، أو توني موريسون يمشون كل يوم؟ ماذا عن فريدريك دوغلاس أو ماري كوري أو إسحاق نيوتن؟ من المؤكد أن ستيفن هوكينغ لم يعد قادراً على المشي بعد أن أقعده الشلل، لكنه لم يتوقف عن الكتابة. فالمشي ليس ضرورياً للتفكير، ولكنه يحفّزه بالتأكيد.


المقال الأصلي: https://lithub.com/on-the-link-between-great-thinking-and-obsessive-walking

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها