"فرويد".. الفيلم الوحيد من ستين عاماً

حسام نور الدين


لم تقدم السينما طوال تاريخها سوى فيلم جماهيري وحيد، عن حياة العالم النمساوي المُلَقب برائد مدرسة التحليل النفسي سيجموند شلومو فرويد (1856-1939)، والفيلم من إنتاج عام 1962، للمخرج الأمريكي الشهير جون هيوستون، بعنوان (فرويد.. العاطفة السرية) Freud: The Secret Passion، ودون ذلك الفيلم، لن تجد لشخصية فرويد ظهوراً ملموساً على الشاشة الفضية، إلا في دور ثان في فيلم (منهج خطير عام 2011) للمخرج الكندي دافيد كرونبرج، لكنه يرصد فيه فقط بعض المواقف في علاقة فرويد المتقلبة بتلميذه السويسري، ورائد علم النفس التحليلي فيما بعد كارل يونج. وبعيداً عن السينما، فقد عرضت لنا شبكة (نِت-فليكس) في مارس 2020 مسلسلاً في ثمان حلقات، عن حياة فرويد، تم تناوله بسطحية تجارية.


وقبل تحليل فيلم جون هيوستون الذي بدا منحازاً بوضوح لآراء فرويد، نطل أولاً على بعض ملامح الاتجاه الرافض لأهم نتائج نظريته، فمثلاً سنجد من العرب المعاصرين د./ فتحي بن سلامة -أستاذ علم الأمراض النفسية بجامعة باريس الثامنة- يذكر في حوار له:
"فرويد يرى الدين وهماً، ويسمي الإيمان مختلَقاً ذهنياً. هذا المختلق الذهني هو الجواب على ما يسميه فرويد بيأس الطفل المتروك....".

"كما أن فرويد يقول إن الله ليس شيئا آخر غير صورة لأب مثالي، ينتظر منه المؤمنون حماية وخلاصاً. أما الإسلام فيرفض كل صلة لله بأي نوع من الصور الأبوية، فهو (الصَّمَد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)، وبالتالي يناقض القرآن أطروحات فرويد".

أما في الغرب؛ فمن أهم المعارضين علمياً لاستنتاجات فرويد، عالم النفس الفريد آدلر الذي أسس علم النفس الفردي، وكذلك كارل يونج الذي اختلف مع أستاذه في جعل النوزاع، والغريزة الجنسية، هي البعد الوحيد المتحكم في نفس الإنسان منذ طفولتها، فالبعد الروحي والديني والاجتماعي، والعقل الجمعي لها دور رئيس في تكوين عقل، ونشاط الإنسان.

أما العالم النفسي والفيلسوف الألماني إريك فروم فانتقد فرويد –رغم اعترافه بعظمته- في كونه يجعل من التجربة الفرديَّة للمرضى حالة عامَّة لكل الأصحاء، كما سخر من آراء فرويد الجنسية، واصفاً إياها بالأحكام الذكورية الساذجة. كما رفض الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر إعطاء (اللاوعي) هذه الأهمية الخادعة، والأعذار الكاذبة، التي تبرر للفرد عدم التزامه في مواقفه.

وفي غالب الرأي، وبعد ثورة تقنيات العلاج المعرفي السلوكي، وظهور نظريات مثل نموذج "العقل التنبؤي"، فضلاً عن أحدث الدراسات النفسية -في جمعية الطب النفسي الأمريكية– انتفت بالتالي مصداقية الكثير من أفكار فرويد في العلاج النفسي، فصارت تسكن كتب التاريخ.

وعودة إلى فيلمنا الذي سرد لنا حياة فرويد من عام 1885 ولمدة خمس سنوات، في السيناريو الذي كتبه تشارلز كوفمان، وفولفجانج رينهاردت، بعدما رفض المخرج –على حد قوله- سيناريو كتبه سارتر، في نحو 800 صفحة، مما يحتاج لعشر ساعات لتنفيذه، مع الاحتفاظ بأهم أفكار سارتر في السيناريو، كما تدخلت الشركة المنتجة (يونيفرسال) في البناء الدرامي للفيلم، فحذفت نصف ساعة، حتى صارت مدته الفعلية على الشاشة (134 دقيقة). ومع عناوين البداية.. يخبرنا صوت المعلق أن الفيلم عن "رحلة فرويد لاكتشاف المنطقة المظلمة في النفس (اللاوعي)، وكيف كانت له القيادة في إنارتها".

ومبدئياً نشعر بتوفيق المخرج عندما قرر أن يكون الفيلم بالأبيض والأسود، فأدخلنا في جو الفيلم النفسي الخانق، مع أداوت لغته السينمائية، كما في:
• التكوين المغلق المحاصر لبطله في إطار داخل إطار، وكثرة الكتل الخانقة لمساحة الفراغ التي يتحرك فيها في فضاء الكادر.
• تسيد اللقطات القريبة والقريبة جداً، مع وجود بعض (اللقطات العامة) بعدسات واسعة، وفي تكوين تشكيلي لافت (مثل لقطات جمهرة الأطباء في مدرج المحاضرة، وأول لقطة في الفيلم للأطباء في ممر الصحة بظلالهم البارزة).
• الكاميرا الثابتة غالباً، مع وجود حركة -أحياناً- تتابع حركة البطل، قياماً وقعوداً (مشهد فرويد مع أمه في أول مشهد لهما)، أو تتحرك لعمل أحجام مختلفة، في لقطة واحدة بخبرة حرفية (ذهاب فرويد لقبر أبيه، وتعارف د. بروير بفرويد، بعد انتهاء محاضرته).
• اختيار زوايا تجمع أكثر من عنصر في مقدمة الكادر، والخلفية للضرورة الدرامية، دون اللجوء لقطع المونتاج الميكانيكي، ولخلق إيقاع يناسب ثقل المزاج العام للمشهد (كما في مشهد فرويد وأم سيسلي، ووراءهما لوحة للأب، ومشهد رفض د. بروير لنظرية فرويد في مكتبه).
• الموسيقى التصويرية لجيري جولد سميث، ذات الطابع التعبيري بالنبر الإيقاعي على الأوتار، ورنين الصفارة الحاد الذي يرمز إلى ظلمة منطقة اللاشعور داخل فضاء النفس، مع الجمل الأوركسترالية الزاعقة.
• توظيف الاكسسورات والديكور، بما يلائم سمات العصر في مدينة (فيينا) بنهاية القرن التاسع عشر، والأهم هو الدلالات الإيحائية للأكسسورات التي استخدمها بوعي فني، خاصة في خلفية بعض المشاهد (السجادة العربية في خلفية سرير فرويد).
• التباين الحاد المقصود بين النور والظل في إضاءة الفيلم، مع استغلال درجات اللونين الأبيض والأسود، واختلاف أسلوب الإضاءة، ليلائم اختلاف طبيعة المشاهد.

والفيلم هو تحدٍّ للمخرج صاحب الأسلوب الواقعي الرصين، كما ظهر في أفلامه الناجحة: (الصقر المالطي -1941)، (كنز سييرا مادري- 1948)، (غابة الأسفلت- 1950)، (الملكة الإفريقية- 1951)، وغيرها، لذا يحاول هنا أن يجرب أسلوباً مختلفاً -نوعاً ما- بعيداً عن الواقعية الصارمة، لكن في ظل سيناريو أراد أن يحافظ على الطابع الهوليودي، ويضع خيطاً تشويقياً بوليسياً عن سر عقدة فرويد نفسه ومريضته (سيسلي)، ومستعرضاً عبر عدة أبواب -تُفتح وتُغلق- مسيرة العالم النفسي فرويد، بدءاً من كونه طبيباً شاباً في مصحة في فيينا، لا يعترف فيها أستاذه بالهستيريا المرضية، والعامل النفسي المسببب للمرض العضوي، فيرحل فرويد الباحث عن أسرار الهستيريا النفسية إلى فرنسا، ليفتح باباً جديداً من المعرفة مع د. جون شاركو (أحد رواد التحليل النفسي في القرن التاسع عشر)، فيتعرف بطلنا في مشهد نَقل المخرج ديكوره، وتكوينه، وملابس شخوصه، من لوحة تصف التجربة، كما حدثت فعلياً وقتها، للمصور الفرنسي أندريه برويليه، حيث يعالج د. شاركو أمام طلابه، بعض مرضى الهستيريا بالتنويم المغناطيسي، وبعدها يحمل فرويد ما تعلمه وعاينه، ليطبقه في فيينا، ثم يتفق معه الرائد الكبير د. بروير على المشاركة في الكشف عن نظرية جديدة للتحليل النفسي، بالتنويم المغناطيسي لمرضى عيادته، حتى يتحول فرويد إلى العلاج بطريقة (التداعي الحر)، حيث يكشف عن طريق زلات لسان المريض أفكار اللاشعور داخله، وهو ما طبقه مع مريضته الأساسية (سيسلي) صاحبة عقدة الكترا (عشق الأب، والغيرة من الأم)، ومن باب إلى باب، تتداخل كلمات فرويد تحت أقبية الشارع المعتم، وهو يحدث نفسه بخصوص حالة (سيسلي)، سائلاً بعمق:
"هل توجد ميكانيكة للكبت مثل العُقد الليمفاوية التي تحافظ على الجسد من عدوى المرض؟ أيمكن إذن أن تكون آلية الكبت هي التي تحفظ النفس ضد الذكريات غير المحتملة، فترسل هذه الذكريات في اللاوعي، وتغلق عليها الباب"؟

ثم نرى بمونتاج استعاري (مزج) باباً آخر يُفتح في المشهد التالي، حيث يتذكر فرويد ذكريات طفولته، بعدما شعر بكراهية تجاه أبيه، وغيرته على أمه الحبيبة، وهكذا صار فرويد مريضاً نفسياً بـ(عقدة أوديب)، كما صنفها هو، وتتوه حيرته، وتداهمه أحلامه، حتى ينكشف له مكان اختباء هذا الوحش المفترس داخل النفس، الذي يتراكم منذ الطفولة وحوادثها في اللاشعور، ويتعاطف الفيلم مع نظرية فرويد في الطفولة الجنسية، وتفسيره الجنسي للأحلام، رغم اعتراضات العلماء الذين صورهم الفيلم، كأنهم حشد من DIDACTIQUE  الغوغائيين، ثم يؤكد لنا في الختام بأسلوب توجيهي على عظمة نظرية فرويد للبشرية، قائلاً، بصوت المُعلق:
معرفة أنفسنا صارت الآن في قبضتنا، فهل نستفيد منها؟ هذا ما يجب أن نأمله.

ورغم إيجابيات الفيلم التي أشرنا إليها، هناك السلبيات التي تسببت -من وجهة نظرنا- في عدم بلوغه مكانة فنية أعلى، منها: تجاور الأسلوب الكلاسيكي، مع مشاهد التهيؤات والأحلام الرمزية، والعودة للماضي كثيراً، في تمهيد مكرر، فتعامل المخرج الواقعي يتسم بالجمود، في بعض المشاهد (لا كلها بالطبع)، بما لا يناسب روح المشهد والعمل ككل، وليس العيب في الأسلوب الواقعي الكلاسيكي، فلكل أسلوب جماله ومصداقيته إن كان متوائماً مع مادة الفيلم، لكن التأرجح بين الأسلوبين هو ما عاب الفيلم لحد ما، فمثلاً نسمع سيسلي (سوزانا يورك) تسرد الكثير من هواجسها، مع موسيقى ميلودية صارخة لا تتوافق مع حساسية المشهد، ثم نراها على الشاشة بعدها في أسلوب بصري مختلف، باستعمال لوح زجاجي على عدسة الكاميرا، تعبيراً عما رأته البطلة وما لم تره، في مكنون ذكرياتها -كما شرح مدير التصوير المخضرم دوجلاس سلوكومب- حيث تم تقسيم خطة الإضاءة في الفيلم إلى ثلاثة مستويات متمايزة:
◅إضاءة الأحلام (بحبيبات الأبيض والأسود الكبيرة على الفيلم الخام)، و◅إضاءة مشاهد الذكريات (الفلاش باك)، و◅إضاءة المشاهد الحياتية الواقعية، وهو أمر يحسب للفيلم وصانعه، لكن في نفس الوقت نرى إضاءة الممثلين بفكر الأستوديوهات القديم، فلا نعرف من أين نزل شلال الضوء من السقف فوقهم، ليرسم بقعة لامعة تجميلية من خلال إضاء الخلفية العليا فوق الشعر الأسود للبطل والبطلة، لمجرد التجميل الشكلي الزائف، رغم واقعية المشهد، ودون أن نرى أي مصدر للضوء في أعلى الديكور أمامنا، كذلك مما يؤخذ على العمل أنه افتقد أي لمحة عن خلفية بيئة البطل (العاصمة فيينا)، التي كانت مشتعلة بتأثير الحرب البروسية النمساوية، وانتحار الأرشيدوق/ رودولف جوزيف، بالإضافة أن السيناريو قام بعمل مقابلة بين عقدة فرويد، والوجه المقلوب لنفس العقدة عند مريضته، بمصادفة فيها قدر من التلفيق، واحتاج السرد السينمائي لخطوط درامية أفقية متوازية، تتآلف مع المحور الرئيس التصاعدي الذي اكتفى به السيناريو تقريباً للجذب الجماهيري.

وقد يكون السبب هو المشاهد الكثيرة المحذوفة من الفيلم، التي حرمت الفيلم من مساحة تفاعل أكثر عمقاً، واقناعاً، مثل التي تتعلق بهدية الأب اليهودي –الساعة اليدوية- لابنه فرويد، بما ترمز له من إيحاءات نفسية لم تكتمل بلورتها في الفيلم.

أما بخصوص الممثل رفيع المستوى مونتجمري كليفت Montgomery Clift، الذي قدم في هذا الفيلم دوره قبل الأخير على الشاشة، حيث توفي عام 1966 عن عمر 42 عاماً، فقد اعتمد في منهج تفاعله مع شخصية فرويد على البعد النفسي الغائر في سراديب الشخصية، مركزاً على تقنيات (منهج الممثل)، الذي تخرج منه في استوديو الممثلين مع أقرانه الموهوبين (مارلون براندو، روبرت دي نيرو، هيث ليدجر، كيت وينسلت، داستين هوفمان، جيمس دين...)، فهو ينطلق في التعبير من مساحة الخبرة الشعورية له، بعد أن يحاكي تجربة الشخصية، أو يتخيلها وفق نظرية (استيلا ادلر) التي تعتمد على التخيل الشعوري للممثل، بدلاً من اجترار الذاكرة الانفعالية، لاسيما في حالة تأدية شخصيات، ومواقف لم يمر بها الممثل، ومن المحال أن يحاكيها في حياته، لذلك تميز بطلنا بالتعبير الصادق، مختزلاً انفعالاته في الطابع الشعوري الذي يغمر وجهه، وبريق عينيه الأخاذ، حائراً كان، أو مهموماً، أو مفزوعاً، أو متحدياً، وهكذا، مع توظيف حنايا صوته، بعيداً عن الشائع المستهلك في الأداء، كذلك توظيفه الخارجي لجسده، حيث نرى كتفيه المنكمشتين، لنشعر بوطأة همه النفسي، والفكري، وغالباً تلك النوعية من الممثلين يفاجؤونك برد فعل غير متوقع، لكنه من نبع تركيبة الشخصية، لنصدق بعدها أنه لا يمثل الشخصية ببراعة، شأن أي ممثل جيد آخر، فنحن ننسى أنه يمثل أصلاً، فننساق للاقتناع بأنه هو نفسه الشخصية، بلحمها، وسماتها، وخلجاتها الخفية، لا وفق واقعها الحياتي التاريخي بحذافره، بقدر ما هي في واقعها الفني المرسوم بعين المخرج، وسطور السيناريو.

ففي المشهد القوي عندما يكتشف فيه مفتاح اللغز الذي ظل يؤرقه، لاكتمال نظريته، يضع المخرج (سجادة عربية) برسومات تجريدية على الحائط بالخلفية، حيث كانوا يطلقون على فرويد في طفولته لقب (العربي) للون شعره الأسود، وعندما تقفز جملة تعلمها قديماً في ذهن فرويد، الجالس على سريره، وراءه السجادة، ظل يردد، مفكراً:
- الخطأ ما هو –غالباً- إلا حقيقة معكوسة.

ثم يتحرك أمام زوجته بوجهها الطيع البريء، فيتصاعد أداؤه مع تنامي كشف الحقيقة في عوالم فكره، ومن مصدر إضاءة خافت في الكادر يتحرك بعدها، داخل الغرفة، محافظاً على تتابع شعوره الداخلي، دون التطرق للتعبير الصارخ الاستعراضي، كعادة النجوم التقليديين، ثم نجده يروح ويجيء، كاشفاً عن معادلته النفسية ومعطياتها، وفق خطة المخرج المدروسة (الميزانسين، وحجم اللقطة)، أمام مصدر ضوء مشع (أباجورة كبيرة) تغطي مقدمة ثلث الكادر تقريباً، وصوت مونتجمري كليفت يأتي من كهف الوعي، محملاً بشحنات انفعالية حقيقية، بعدما توصل لتحليل عقدة مريضته، وعقدته هو شخصياً، فيبلغ من الصدق ببساطته المذهلة، وانغماسه الحساس، في زوايا وبؤرة تكوين شخصية فرويد، ما أضاف كثيراً لقيمة الفيلم، رغم ما شابه من نواقص.




John Huston, maker of magic, by Stuart Kaminsky - 1978
‣ https://ar.qantara.de/node/12577

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها