أثرُ ابن عربي في الشعر العربي الحديث

شعرية المعراج "نموذجاً"

محمد محي الدين

سبرت كتابات ابن عربي عمق التجربة الصوفية، واختزنت دلالاتٍ رمزيةً وجمالية ومجازية متنوعة، حيث تنفتح تصوراته للوجود على المعقول واللامعقول، والشعور واللاشعور، والبصر والبصيرة، والخيال، والرؤيا، والحلم، وهذا ما دفعه في كتابه ''فصوص الحكم'' إلى أن يقرر أن ''الوجود كله خيال في خيال''1، ويحدده في فتوحاته المكية بوصفه ''مجازاً واستعارة، وتحولاً لا نهائياً وسفراً مستمراً من حال إلى حال ومن طور إلى طور، فالوجود حُلم ينبغي تأويله، ومجاز ينبغي عبوره''2. ولعل ذلك هو ما يفسر هوس ابن عربي بالسفر بوصفه وسيلة السفر الكوني والعبور نحو الله، حيث يقول:


فَـفـيـهِ فـسافِــرْ لا إلـيـه ولا تَـكُن... جَهولاً بِـحُكم عـقلٍ عليه3

 

تقوم الرؤية الوجودية لله والكون والإنسان عند ابن عربي، وغيره من الصوفية على مبدإ المكاشفـة، القائم على تخـطـي الموانع الحاجبة للعبد عن الحضرة الإلهية، وتعد الرؤى المنامية باباً من أبواب الإلهام الذي تعـرج فيه أرواح الأولياء إلى السماء، واحتذى فيه الصوفية بالمعراج النبوي الذي جاء دعماً من الله للرسول الكريم بعد عام الحزن؛ وكان سفراً بالجسد قطعت فيه الذات النبوية مسافات طويلة بسرعة خارقة عابرة السماوات. وحددت سعاد الحكيم معاني المعراج النبوي بما هو رحلة تشهد بالمقام الرفيع لنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم بين الأنبياء؛ في: التحضير البدني الذي سبق الإسراء والمعراج (شَق الصدر)، وأهمية الإسراء في تقديم الأدلة الحسية للمنكرين، ومشاهد الطريق في الإسراء، وإمامة النبي صلى الله عليه وسلم للأنبياء، وتقديم الأواني وشرب إناء اللبن، والمعراج إلى السماوات السبع، وبلوغ سدرة المنتهى، والقُرب والخطاب الإلهي4.

تعددت المعارج في الفكر الصوفي؛ وإن كانت كلها تستلهم معراج الرسول صلى الله عليه وسلم، وتتفق بوصفها رؤيا في السفر الصعودي الروحي نحو الحق تعالى الذي يشكل غاية كل معراج، وقد أجمل ابن عربي في فتوحاته الكلام في تمييز المعراج عن غيره من الأسفار؛ بقوله ''كل نظرٍ إلى الكون ممن كان فهو: نزول، وكل نظرٍ إلى الحق ممن كان فهو: عروج''5. ومن بين أهم المعارج في الفكر الصوفي التي توفر فيها شرط العروج نحو الحق؛ معراج أبي يزيد البسطامي، وأبي القاسم الجُنيد البغدادي، ومعراج ابن عربي المسمى ''الإسرا إلى المقام الأسرى''6، ويعد هذا الأخير من أشهر المعارج الصوفية، ويحكي قصة عروج صاحبه (ابن عربي) في المنام إلى أقطار السماوات السبع وما فوقها من حضرات وهي الأماكن التي فوق السماوات، حيث يبلغ سدرة المنتهى، ويطـلب الترقي إلى المـلأ الأعلى الذي يحجبه عنه حضرة الكرسي، وفي الكرسي يجتمع بقطب الشريعة الذي يَصحبه مدة يلقِّنُه فيها العديد من الوصايا. وبعدها يطير إلى الملأ الأعلى وحضرة قاب قوسين...

استلهم الشاعر العربي الحديث رحلة الترقي الصوفية فقد ''أمد التصوف الشعـر العـربي المعاصر بشعـر المعاريج. وهي تلك القصائد التي عبر فيها الشاعر العربي عن أسفاره الروحية، وعن الارتقاء''7، وعرض كتاب ''الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر'' لمحمد بنعمارة بالتحليل لتجربة الرحلة الصوفية عند شاعرين معاصرين؛ هما: محمود حسن إسماعيل، ونازك الملائكة في قصيدة "الهجرة إلى الله" من ديوان "للصلاة والثورة"8. وهناك شعراء آخرون ساروا على المنوال نفسه في استلهام متخيل الرحلة الصوفية؛ منهم: محمد الفيتوري في ''قصيدة معراجية وردت في ديوانه (معزوفة لدرويش متجول) موسومة بعنوان (يوميات حاج إلى بيت الله الحرام) لها نفس خصائص العروج والرقي الروحي''9. والشاعر التونسي محمد الخالدي في ''المرائي والمراقي''، وهي محاكاة ثقافية لمعـراج الرسول صلى الله عليه وسلم. ومحمد العـزي في مجموعتيه ''كتاب الماء، كتاب الجمر''10. ويعد الشاعر المغربي أحمد بلحاج آية وارهام واحداً من الشعراء المعاصرين الذين استلهموا الرحلة الصوفية واتخذوها وسيلة للتعبير، في جل دوواينه؛ ومنها: ''العبور من تحت إبط الموت 1994''، و''ولائم المعارج 2003''، وغيرها.

يلامس العابر بين صفحات ديوان ''العبور من تحت إبط الموت''، إرهاصات حضور الرحلة والمعراج الصوفي، بل يستشعر أبعاد الرحلة الروحية الوجودية بدءاً من عنوان الديوان؛ وكثافته الرمزية، التي تشهد بها كلمات: العـبور/ إبط الموت، المنفتحة على السفر (العبور) في عالم الأسرار (الموت). وتُعمق عناوين القصائد والمقاطع التي يضمها الديوان من انشداد الشاعر لتجربة السفر؛ وبشكل خاص في القصيدتين الأوليتين؛ وهما: ''النَّجْمُ الغَـــرَّارُ''، و''أتَمَزَّقُ بالعِنَاقِ وباللَّمْسِ أَرْبِطُ أَجْزَائِي''. وقد جسدت هاتان القصيدتان معاً تجربة السفر الروحي، غير أننا سنكتفي بالقصيدة الأولى (النجم الغرار) لكونها أكثر تمثلاً لهذه التجربة، وانصرافاً عن العالم المادي، وإبحاراً إلى ما وراء الوجود، وبحثاً عن العلوي والمطلق، في حين سيطرت على القصيدة الثانية نبرات التشاؤم من الواقع، والحزن والغربة في المدينة (مراكش)، والاحتراق، وإن كانت هي الأخرى سفراً في العَتَمَات.

تجلى السفر الروحي في قصيدة ''النجم الغرار'' من خلال الترقي في المقامات والأحوال، وفي الطريق الصوفي؛ من بدايتها إلى لحظة بلوغها في آخر مقطع منها: ''مقام الختام''، وهو المقام الذي يجمع الصوفية على أنه مقام الفناء عن النفس والبقاء بالله، ويسمى صاحبُه ''الخاتم: وهو الذي قطعَ المقاماتِ بأسْرِها، وبلغ نهايةَ الكمال، وبهذا المعـنى يتعـدد ويتكثر''11.

تمتد قصيدة ''النجم الغرار'' على مساحة خطابية شكلت ما يقرب من نصف الديوان (33 صفحة)، وقسمت إلى تسعة مقاطع معنونة، كل مقطع يستحق أن يكون قصيدة. لكننا سنعتبرها قصيدة واحدة نظراً لنَسَقيتها، ولتتأتى قراءتها في ترابطها وتسلسلها، وفي غياب هذه القراءة لا يمكن مصاحبتها وفهمها بما هي سفر متشابك، وتنقل في مقامات الطريق وأسفار الرحلة والمعراج الصوفي.

وقادتنا معاني ومباني قصيدة ''النجم الغرار'' في شكلها ومضمونها البديع إلى افتراض وجود نصوص صوفية تحاورها هذه القصيدة، مما دفعنا إلى البحث عن التفاعلات النصية المحتملة، عبر تداخل النص اللاحق بالنص السابق. والتساؤل عن كيفية تحقق هذا التداخل؟ وهل حافظ على هُوية النص السابق؟ أم أن تداخله معه كان من موقع مضاد؟ ولعل السؤال المركزي إذن يتعلق بمحاولة الإمساك بالكيفية التي متح بها ديوان آية وارهام في قصيدة "النجم الغرار" من الموروث الصوفي؟ وهي أسئلة مرتبطة بالأثر التحويلي الذي تمارسه النصوص فيما بينها بوصفها فسيفساء تتحاور وتتفاعل فيما بينها، ولا تهدف إلى البحث عن النصوص الأصول والوقوف عندها، وإلحاق تجربة الشاعر بتجربة متصوف آخر.

ولا ندعي إمكان الإحاطة الشاملة بالنصوص المتداخل معها جميعها وحصرها، لأن باب التأويل والاحتمال يبقى مشرعاً وغير قابل للحصـر، ثم إن المعنى في الشعر المعاصر مُتَمَنِّع التحديد والحصر، ومنفتح على ثقافات وفلسفات متعددة... الشيء الذي يجعل من هذا الشعر لا يتجه نحو الدلالة الواحدة، ويفرض حضور القراءة التأويلية المعتمدة على كفاءة المتلقي.

لعل أبرز ملمح دال على استلهام الديوان للمتخيل الصوفي؛ يتمثل في اعتماده الرحلة والمعراج الصوفي كآلية جمالية في المبنى، ووسيلة مركزية لأداء المعنى، وتجلى ذلك من خلال التداخلات والتفاعلات النصية والأثر التحويلي الذي مارسه آية وارهام على مجموعة من النصوص الصوفية التي من المحتمل أن تكون ذاكرته قد استحضرتها لحظة الانبثاق الشعري. ومن بين أعلام التصوف المفترض أن يكون الديوان ممثلاً بقصيدة "النجم الغرار" قد تداخل مع كتاباته نصياً، نذكر محي الدين ابن عربي.

تكشف قراءة قصيدة ''النجم الغرار''، وكتاب ''الإسرا إلى المقام الأسرى'' عن تحاور وتداخل التجربة التخييلية عند آية وارهام مع تجربة ابن عربي، واتصالهما معاً بتجربة المعراج النبوي الذي هيأ ''للمتصوفة إمكان تجسيد مسعاهم نحو الفناء عن الإنسـي والبقاء بالله''12. ويمكن رصد معالم تداخل تجربتي ابن عـربي وآية وارهـام دلالياً؛ من خلال:

أولاً: العـروج الـروحي

تتفق التجربتان في المعراج الروحي المعنوي الذي يتم بالروح التي تخترق عالم الأسرار، وبهذا التوصيف يستهل ابن عربي مقدمة كتابه ''وهذا معراجُ أرواحِ الوَارثينَ سُنَنَ النبيّينَ والمُرسَلين؛ [وهو] معراجُ أرواح، لا أشبَاح؛ وإسراءُ أسرار، لا أسوار؛ ورؤيةُ جَنان، لاعِيان؛ وسلوكُ معرفةِ ذَوقٍ وتحقيق، لا سلوكُ مسافةٍ وطريق؛ إلى سماوات مَعْـنى، لا مَغْـنَى''13، وبالمقابل يَتَبَدَّى تأكيد الشاعر على خوضه هذه التجربة الروحية من خلال قوله في مستهل الديوان:
''لَهُ الاسْمُ مُنْتَشِيًا/ وَلَهُ ظَبْيَةُ الكَشْفِ/ تَرْعَى هَدِيلَ الفُيُوضَاتِ/ [...] لَبِسَتْهُ رُؤيَا/ [...] عَلَى حَافَةِ الحُلْمِ لَيْلٌ يَسِيلُ''14، وقوله في مقطع ''أرض السمسمة'':
''سَافَرْتُ أَنَا الغَرِيبُ الرُّوحُ إِلَى أَنْ بَلَغْتُ مَجَرَّةَ يُوحْ''15.

إننا أمام رؤيتين؛ أولهما: صوفية قديمة، والأخرى: شعرية معاصرة؛ تتخذان معاً من السفر الروحي وسيلة للكشف والمعرفة وسبر أغوار عالم جديد يبتعد عن الماديات وينفتح على الروحانيات، والرؤية القلبية لا البصرية.
 

ثانياً: الشيخ والمـريد: والتحضُّر للمعـراج

استحضر ابن عربي في معراجه شخصية الهادي للطريق، والمُعَبَّر عنه تارة بالفتى:
''فلقيتُ بالجدولِ المَعـين، وَيَنبوعِ أَرِين، فتًى روحانيَّ الذَّات، رَبَّانِيَّ الصِّفات''16، وتارة أخرى بالرسول أي رسول التوفيق17: ''جاءَني رسولُ التوفيق، ليهديَني سَوَاءَ الطريق''18. وتقابل هذه الشخصية في ديوان آية وارهام؛ شخصية الشيخ ''فَـبَــرَزَ إِلَيَّ رَجُـلٌ قَـدْ نَـزَلَ بِـهِ الـشَّـيْـبُ''19، ويتلخص دور الهادي في المعراج سواء كان شيخـاً أو فـتـىً أو رسـولاً في تعريـف السالك/ المريد بشروط العروج البدنية والروحية، ومن تعاليمها على لسان الشيخ في الديوان: ''وقال: اِعْلَمْ أَنَّ هَذَا عَالَمٌ يَنْبَغِي لِلْوَاصِلِ إِلَيهْ وَالدَّاخِلِ عَلَيْهْ أَنْ يَتَزَيَّا بِزِيِّهِ الفَاخِرْ، وَيَتَطَـيَّبَ بِطِيبِهِ العَاطِرْ''20، وقد أَعْلَمَ السالك/ الشاعر الشيخ قبل الأسطر السابقة برغبته مُفَارَقَةَ العناصر الأربعة؛ وهي النار والماء والهواء والأرض؛ من خلال هذا الحوار الدائر بينهما:
''مَنْ أنتَ أيُّها الطارِقُ العَاشِقُ؟

فَقُلْتُ: عَاشِقٌ مَفَارِقْ، أُخْرِجْتُ مِنْ بِلاَدِكُمْ، وأُبْعِدْتُ عَنْ سَوَائِكُمْ، فَقُيِّدْتُ فِي قَيدِ السُّمكِ والعُمْقِ والطُّولِ والعَرْضْ، وَسُجِنْتُ فِي سِجْنِ النَّارِ وَالمَاءِ وَالهَواءِ وَالأَرْض، وَقَدْ كَسَرْتُ القَيدَ وَأَتَيتُ، أَطْـلُـبُ خَلاَصاً مِنَ السِّجْنِ الَّذِي فِيهِ بَـقِـيـتُ''21.

وسرد ابن عربي (المريد/ السالك) هو الآخر في القسم الأول من كتابه طقوس التحضر البدني التي لَقَّنَهَا له رسول التوفيق (الشيخ)؛ حين مرافقته له في السماوات السبع، والتي تتطلب هي الأخرى مفارقة الأسطـقـسات الأربع ''إذ لا بُدّ من تعليمٍ وتفهيمٍ لقضايا اعتقادية إلى جانب التحضير البدني، الذي يفارق فيه السالك عناصره الأربعة: التراب والنار والهواء والماء''22.

إن التحضير البدني والروحي شرط لازم لخوض المعراج، وقد استلهم المتصوفة ذلك من معراج الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي شُقَّ صدره قبيل المعراج، وطُهِّر قلبه، وأُخرج منه حظ الشيطان، وملئ علماً، وحكمة، وإيماناً، ولعل في هذه المحاكاة الصوفية تبعية تستمطر بعضاً من فيض العطاء الإلهي الذي خُص به النبي صلى الله عليه وسلم.

لا بُدّ في كل معراج صوفي من شيخ قائد ومريد سالك، وقد شكلت ثنائية الشيخ والمريد ملمحاً بارزاً عند ابن عربي في كتابه، وعند آية وارهام في قصيدته، وتحصَّلت للسَّالِكَين (في القصيدة والكتاب) معاني الفرح بالصُّحبة التي لا تفتأ أن تنقطع بعدما يؤدي المصحوب (الشيخ) دوره في كشف حقائق المقامات للسالك (المريد) وكيفية عبورها.
 

ثالثاً: وسـائــل وغــايــات الـمعــراجــيــن

يسـافر بنا النصان في مقامـات وحضـرات تختلف جغرافيتهـا عن الكـون الذي نألفه ونعيش فيه، وينقلان لنا أحوالاً غريبة يعيشها المريدان في معراجيهما اللذين يكادان يتشابهان في الوسائل والغايات، والتي حدد ابن عـربي بعضها في:
''ثم بلغتُ سِدْرَةَ المُنْتَهَى، وقلتُ: هذا هُوَ الانتِها، فَتَلا عَلَيَّ الرسولُ الكريم، (وَمَا مِنّا إلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُوم)؛ ولا بُدَّ لَكَ مِنَ التَّداني والتَّرَقّي والتَّدَلّي والتَّلقِّي، بالمقامِ المحمود، وحضورِ الشاهدِ والمشهود''23، وفي سدرة المُنتهى يبدو لأهل المعراج ''كمالُ الصورةِ [...] هنالِكَ تَنْتَهِي حقائقُ نفوسِهم، ويُكْشَفُ لهم عن موادِ شموسِهم''24، ويتخطى السالك السدرة ليدخل حضرات: قاب قوسين -أو أدنى- اللوح الأعلى - الرياح وصلصة الجرس - أوْحي.

وتحصلت هذه المعاني للشاعر (آية وارهام) من خلال تسلحه في عروجه بالاصطلام، والرغبة في القرب من المحبوب والدنو منه... والتي مكنته في مَقام الخِتام/ المقطع الأخير من التحقق بالعبودية، وبلوغ الهُوية الأحدية.

ولاقى ابن عربي في ''حضـرة الجرس'' بعد اللوح الرياح العواصف، والرعود القواصف ''هَبَّتْ عليَّ عواصفُ رياحِه [...] فلمّا ذَهَبَتْ تلكَ الرياحُ العواصِف، وَسَكَنَتْ صلصلةُ الرُّعودِ القواصِف، وقد تَفَصَّدَ الجبينُ عَرَقاً، وذُبْتُ خَوْفًا وفَرقًا؛ بَسَطَ لي الجناح، وقالَ لي: قد مَرَّتِ الرِّياح''25، وقيل له بعد مجابهته هذه الأهوال ''إني أُوصِلُكَ إلى مُسْتَـقَــرِّ قلبك، وَمَـقَــرِّ لُـبِّــك''26.

وشهد السالك في القصيدة الأحوال نفسها:
''كُنْتُ لِشِدَّةِ مَا لاَقَيْتُ مِثْلَ الخِرْقَةِ البَالِيَةْ فِي الشَّجَرَةِ العَالِيَةْ، تَذْهَبُ بِهَا الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ شَيئًا فَشَيْئًا، لاَ أُبْصِرُ شُهُودًا إِلاَّ بُرُوقاً وَرُعُودَا، وَسَحَاباً يُمْطِرُ بِالأَنْوَارْ، وبِحَاراً تَمُوجُ بِالنَّارْ''27. وجاءه الخطاب هو الآخر مُؤْذِنًا بالفَرَج ''وَنُودِيَ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ قُومِي، وادْخُلِي فِي سُرَادِقِي. دَخَلْتُ، فَانْفَتَحَتْ زُجَاجَةُ القَلْبِ''28.

لا تكاد تختلف أحوال السَّاِلكَين في تعبيرهما عما لاَقَيَاهُ من أهوال السفر في عالميهما الغريب، إذ لا بُد في عبور هذا العالم لأصحاب المقام من أحوال تخترعها جذباتهم، تُنَفِّس حَرَّ قلوبهم المحروقة والمكلومة شوقاً ورغبة في الوصول إلى الذات الأحدية.

إن القصيدة والكتاب تجمعها الوسائل نفسها؛ المتمثلة في المناجاة، وعبور العوالم، وملاقاة الشدائد، والترقي في المقامات والأحوال... وهما معاً ينشدان غاية واحدة، تتجلى في التعبير عن حضرة قاب قوسين، وما بعدها من مقامات الفناء عن الذات، والبقاء بالحق.

بعدما بسطنا لبعض التداخلات النصية بين تجربتي ابن عربي وآية وارهام على مستوى بناء الدلالة، ننتقل لرصد تداخل التجربتين من ناحية الشكل؛ وسنقتصر في تحديد ذلك على ثلاثة عناصر؛ وهي:

أولاً: توظـيـف أسلوب السجع

يعد أسلوب السجع ميسماً مهيمناً يطبع النصين معاً بإيقاع خاص، وتهيمن هذه اللغة على المقاطع المنثورة كلها من كتاب ابن عربي، وهيمن السجع أيضاً على المقاطع المنثورة التي تشملها قصيدة ''النجم الغرار''، ومن أمثلتها قوله: ''لَمَّا خُوطِـبتُ بِالنُّورْ، وَسُمِّيتُ بِالاِسْمِ المَسْـتُـورْ، غَرَبَتِ النُّجُومُ الزَّوَاهِرْ، وَهِيَ فِي أَفْلاَكِهَا مُشْرِقَةٌ دَوَائِرْ''29. وقد ورد السجع في الصفحات التالية: 9-11-12-13-15-18-19-20-21-22-34-35-38-.

ثانيا: المزاوجة بين المنثـور والمنظـوم

يزاوج النصان بين المنثور المسجوع، والمنظوم الموزون، وتجلى ذلك عند ابن عربي في اعتماده المنثور المسجوع الذي يتناوب الحضور مع الشعر العمودي الكلاسيكي، وهذا ما أشار له في مقدمة كتابه حين قوله: ''وَوصَـفـتُ الأمرَ بمنثورٍ ومَنْظـوم، وأَودَعْـتُهُ بينَ مَرموزٍ ومفهوم؛ مُسَجَّع الألفاظ، ليَسْهُلَ على الحُفَّاظ''30. ويبدو تبريره اعتماد السجع واضحاً، وذلك تسهيلاً على مريديه الذين كانوا يرغبون في حفظ كتبه. أما آية وارهام فاختار الشعر الحر المعتمد على التفعيلة وسيلة للتعبير، والذي تتوزعه مقاطع منثورة مسجوعة تنتمي لقصيدة النثر.

ثالثـاً: توظـيـف الحوار (المواقـف والمخاطـبـات)

يستحضر النصان معاً المناجاة ومخاطبة الألوهة، ويخوضان معاً مواقف يَتلقيان فيها السمع لكلام الحضرة الإلهية، عَبَّـر عنها ابن عـربي خصوصاً في القسم الرابع من كتابه الذي خصصه لخمس مناجاة (مناجاة: قاب قوسين، أو أدني، اللوح الأعلى، الرّياح وصَلصَلَة الجَرَس وَريش الجَنَاح، حَضرَة أوْحي). وفي هذا القسم ''يبدأ القرب والتقريب لذلك يسـري في الخطاب دفء (المناجاة) حيث مخاطِبٌ ومُخاطَب لا ثالث بينهما يشـرح ويُعلّم ويوضّح؛ وفي كل حضرة من هذه الحضرات يُكشف للسالك عن حقيقة هويته.. وموقعه الكوني، ورتبته في سلسلة المقامات الروحية''31.

يوظف ابن عربي العبارة المتكررة ''عبدي'' (الصفحات: 162-164-165-169-170-171-172-175-...)، حيث ''الخطاب هو من (الحق الاعتقادي) للوارث المحمدي. وفي الواقع أن المقصود من الخطاب الإلهي هنا هو النبي صلى الله عليه وسلم بالأصالة، ولكن ينعكس ظلال الخطاب على ورثته المحمدين بالتبعية''32. ولعل ابن عربي يعتقد في نفسه بأنه واحد من هؤلاء الورثة المحمديين. إضافة لذلك تحضر أفعال القول على طول النص بداية أغلب الأقسام والمحاور عبر تكرار الجملة: ''قال السالك''، أما في المتن فنجد المخاطِب الآمر بتفويض الإرادة والاستسلام، والوارد كلامه بصيغة ''قال لي'' المتكررة؛ ومن أمثلتها: ''قالَ لي: ذلكَ إرَادَتي فَسَلِّم، وإلى جَرْي مقاديري عليك فَوِّضْ أمرَك واستسلِمْ''33، والتي تأتي جواباً عن صيغة ''قُـلْتُ لَهُ'' المرفوقة بأسئلة المريد السالك.

أما عند الشاعر آية وارهــام؛ فيمكن اعتبار عبارة: ''حَـبِـيـبِــي!'' معادلا لعبارة ''عـبدي'' التي يوظفها ابن عـربـي، وقد تكررت هذه العبارة ثلاث مرات في مقطع ''أنا لكَ لا لي''، وتسع مرات في مقطع: ''أنت سري في الأسرار''، يقول:
''حَبِيبِي!
شُمَّنِي فِي المَشْمُومْ
حَبِيبِي!
كُـلْنِي فِي المَطْعُـومْ
حَبِيبِي!
شَاهِدْنِي فِي المَحْسُوسْ''34.

واقترن حضور هذا الاسم المتكرر بياء المتكلم، وعلامة الانفعال في كل تجلياته، وبدلالته على خطاب الألوهة الصادر أيضاً بضمير المتكلم المفرد الدال على الواحدية:
''أَنَا سِرُّ إِنْسَانِ الوُجُودْ
أَنَا عَيْنُ البَاطِـنِ المَعْـبُـودْ''35.

وأحياناً أخرى تناجي الألوهة المخلوق بضمير المخاطب المفرد المذكر ''أنتَ''، الدال على حضور صاحبه:
''أَنْتَ حَبِيبِي
أَنْتَ مَحْبُوبِي
أَنْتَ المُرَادْ
أَنْتَ وَجْهِي فِي العِبَادْ'''36.

يبدو الشاعر في قصيدة ''النجم الغرار'' حين ربطها بالمتخيل المعراجي عند ابن عربي، وكأنه هو الآخر صوفي عالم بمقامات وأحوال الصوفية ومناجاتهم، ومتخصص في التربية السلوكية ومعارجها، ومسالكها الصعبة، لكن وفق قالب فني شعري معاصر، سعى بواسطته إلى اختراق الحجب عبر السفر الروحي، والمعراج الصوفي، والاطلاع على ما لا يُرى ولا يُدرك بالحواس، ومعرفة الحقيقة.

تأسيساً على ما سبق؛ نخلص إلى أن الكتابة الشعرية عند آية وارهام تضمر تجربة المعراج عند ابن عربي التي يستحضرها الشاعر لحظة ممارسته الشعرية على مستويي البناء والدلالة، حيث الجامع بينهما يتجسد في السفر والانتقال بين الأحوال والمقامات والمنازل والمُخَاطَرَة وركوب الأهوال، بغية لقاء المطلق وتحقيق المحاورة، والمناجاة المباشرة، والفناء عن الذات والنفس وبالبقاء بالله.

ولم تكن قصيدة ''النجم الغـرار'' لآية وارهام محاكاة جوفاء لتجربة ابن عربي، حتى وإن تقاطعـت تجربة السفر الروحي عند الشاعر مع تجربة المعراج، فذلك راجع إلى أن الهدف العام الذي التقيا فيه هو: العـبور نحو معرفة الله، كما تميزت قصيدته ببنائها المغاير المستجيب للشعر الحديث، ومعانيها النابعة من تجربة الشاعر الروحية. وعبر هذا أثبت آية وارهام قدرة التصوف على الإسهام في تحديث القصيدة الشعرية المعاصرة، وقدرة هذه الأخيرة على التفاعل مع النص الصوفي القديم.

ويتجسد الأثر التحويلي الذي لامسناه في شعر آية وارهام، في استبداله المبنى الصوفي القديم المرتبط بالمعراج السماوي، وما فوق السماوي، والسفر، والرحلة؛ بشعرية المقطع/ المقام، وتحديث القصيدة الحديثة عبر استلهام الهامش الإبداعي المتسع معنى ومبنى للنص الصوفي القديم. وتمكن بذلك أحمد بلحاج من أن يتفاعل مع ماضي التجربة الصوفية، محققاً ما دعا إليه محمد بنيس في سياق آخر ''لا يكون الانتقال قطيعة مع الماضي، ولا إقامة شقية فيه، بل هو عودة حيوية لا نهائية لماضي الكتابة وحاضرها من خلال تجربة الذات، واختراقها هي وتاريخها للغة''37.

 

هوامش: (1)- ابن عربي، فصوص الحكم، تعليق أبو العلا عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت-لبنان، الطبعة الثانية، 1980م، ص: 104. | (2)- ابن عربي، الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت-لبنان [دت]، المجلد 3، ص: 285. | (3)- المرجع السابق، المجلد 2، ص: 382. | (4)- ابن عربي، الإسرا إلى مقام الأسرى، ينظر: مقدمة المحققة سعاد الحكيم (دراسة عن المعراج النبوي والمعراج الصوفي)، دندنة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1988، ص ص: 20-27. | (5)- ابن عربي، الفتوحات المكية، الجزء الثالث، ص: 54. نقلا عن: ابن عربي، الإسرا إلى مقام الأسرى، ينظر: مقدمة المحققة سعاد الحكيم (دراسة عن المعراج النبوي والمعراج الصوفي)، م س، ص: 29. | (6)- يُعرف أيضا بكتاب المعراج، ألفه ابن عربي في فاس عام 594. ينظر: ابن عربي، الإسرا إلى المقام الأسرى، ينظر مقدمة المحققة سعاد الحكيم، م س، ص: 34. | (7)- محمد بنعـمارة، الأثـر الصـوفي في الشعـر العـربي المعاصر، شركة النشر والتوزيع ـ المدارس ـ الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2001، ص: 355. | (8)- للتوسع ينظر المرجع السابق، ص ص: 213-302. | (9)- المرجع السابق، ص: 355. | (10)- ينظر: مجلة كتابات معاصرة، العدد 36، السنة 1999م. | (11)- عبد الرازق الكاشاني، معجم اصطـلاحات الصوفية، تحقيق وتقديم وتعليق عبد الخالق محمود، مكتبة الآداب، القاهرة، الطبعة الثالثة، 2007م، ص: 150. | (12)- خالد بلقاسم، أدونيس والخطاب الصوفي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى، 2000م، ص: 170. | (13)- ابن عربي، الإســرا إلى المقـام الأســرى، ينظر: مقدمة المحققة سعاد الحكيم (دراسة عن المعراج النبوي والمعراج الصوفي)، م س، ص: 53. | (14)- أحمد بلحاج آية وارهام، العبور من تحت إبط الموت، مطبعة تينمل، مراكش، الطبعة الأولى، 1994م، ص: 7-8. | (15)- الديوان، ص: 18. | (16)- ابن عربي، الإسـرا إلى المقـام الأسـرى، م س، ص: 57. | (17)- المرجع السابق، هامش ص: 57. | (18)- المرجع السابق، ص: 68. | (19)- الديوان، ص: 18. | (20)- المصدر السابق، الصفحة ذاتها. | (21)- الديوان، الصفحة ذاتها. | (22)- ابن عربي، الإسرا إلى المقام الأسرى، من مقدمة المحققة سعاد الحكيم (دراسة عن المعراج النبوي والمعراج الصوفي)، م س، ص: 35-36. | (23)- ابن عربي، الإسرا إلى المقام الأسرى، م س، ص: 137. | (24)- المرجع السابق، ص: 135. | (25)- المرجع السابق، ص: 148-149. | (26)- المرجع السابق، ص: 151. | (27)- الديوان، ص: 8-9. | (28)- الديوان، ص: 9. | (29)- الديوان، ص: 11. | (30)- ابن عربي، الإسرا إلى المقام الأسرى، ينظر: مقدمة المحققة سعاد الحكيم، م س، ص: 54. | (31)- ابن عربي، الإسرا إلى المقام الأسرى، هامش الصفحة: 131. | (32)- المرجع السابق، هامش الصفحة: 162. | (33)- المرجع السابق، ص: 137. | (34)- الديوان، مقطع: ''أنت سري في الأسرار''، ص: 30. | (35)- المصدر السابق، ص: 21. | (36)- الديوان، ص: 24. | (37)- محمد بنيس، الشعـر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها، ج 4، مساءلة الحداثة، دار توبقال، الدار البيضاء المغرب، الطبعة الأولى، 1991، ص: 170.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها