تَعايشُ الفُصحى والعاميّة في ظِلّ تقوية الُّلغات الأجنبيّة

عبد العالي احمامو

تُعدُّ اللغة الإنسانية ظاهرة اجتماعية ناشئة عن طبيعة عيش الناس، وما تقتضيه حياتهم الجماعية من حاجات وتعاون وتبادل أفكار ومنافع. ولولا حاجة الناس إلى التعبير عما يختلج بصدورهم من معان، ما وُجد شكل من أشكال التعبير الإرادي. توظف اللغة لتبادل المصالح بين الأفراد والشعوب، وهي وسيلة لترويج الأفكار بين جميع فئات المجتمع، خاصتهم وعامتهم، من خلال التفاعل اليومي، والتأليف والنشر، والنقاش الحر عبر الإعلام والوسائط الرقمية الحديثة، لقرع الحجة بالحجة على مسمع من القاصي والداني. وكلما تطورت اللغة وزاد امتزاجها بواقع الناس وحياتهم، كبر احتمال التعبير بها عن أفكار وأحاسيس مغمورة.
 

فاللغة وسيلة للتواصل يتميز بها الإنسان عن سائر الكائنات الحية، وبها صاغ آدابه وفنونه. وهي حية بحياة أهلها، وميتة بتدهور أحوالهم الثقافية والاجتماعية وما يترتب عن ذلك من أخطار تهدد باستيلاب هويتهم. واللغة كائن حي ينمو ويتطور بتقدم الزمن وتغير البيئات، لاستعمال الإنسان لها في مقامات تخاطبية متعددة ومتنوعة يحفل بها وسطه ومعيشه اليومي. وفهم أسلوب تفكير هذا الإنسان لا يتم إلا بمعرفة عاداته وتقاليده وطقوس تدينه، والذي لا يتأتى إلا بعد الإلمام بلغته تنقيباً ودراسةً.

ويشهد الجميع على أن متكلمي العربية في العالم في تزايد، والإقبال على اكتساب الفصحى مطلوب في مختلف البقاع، في الجامعات والمعاهد والمراكز، وإن اختلفت الأهداف والغايات فاللسان العربي الفصيح ما زال حياً عند أهله، وعند العديد من المستعربين والمستشرقين الذين أسرهم حب العربية وآدابها وعلومها.

 

1. العامية أو اللهجة: إشكالية المصطلح

كما هو معلوم اللهجة في الاصطلاح العلمي الحديث: مجموعة من الصفات اللغوية التي تنتمي إلى بيئة خاصة، ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة، وأما اللغة فهي البيئة التي تتألف من عدة لهجات. ولا بد أن تشترك لهجات اللغة الواحدة في الكثرة الغالبة من الكلمات ومعانيها، وفي معظم الأسس التي تخضع لها بنية الكلمة وتركيب الجمل، أما إذا اختلفت معاني معظم كلماتها، واتخذت بنية كلماتها أسساً خاصة في تركيب جملها؛ فآنذاك نحن أمام لغة أخرى مستقلة، ولسنا أمام لهجة.

وفي الفرق بين اللغة والعامية يعتبر مازن مبارك اللغة هي تلك التي يتفاهم بها الناس عامة، والعامية يتفاهم بها الناس أيضاً لذلك يعتبرها مازن لغة مستقلة، أما اللهجة عنده فهي صفة صوتية فقط؛ حيث يركز في هذا الصدد على الفوارق والخصائص الصوتية التي نحصل عليها عند قراءة نفس النص من طرف قراء متعددين.
فتسميةُ العاميةِ لهجة خطأ عند مازن مبارك؛ لأن فيها العديد من ألفاظ اللغات الأخرى، بينما اللهجات حقيقة خلقية لا تُفسد الفصحى. كما يؤكد الباحث على أن الفصيحة هي كل لغة صيغت بحروف عربية على وفق الأسلوب العربي والقواعد العربية، ولا يُشترط في ذلك العودة إلى امرئ القيس لقبول اللغة، وهي مفهومة عند جميع العرب، بينما العامية ضيقة لا تفهمها جميع الأقطار العربية.

وقد ارتبطت الفصحى باسم العربية الأدبية، كما نجد لها أسماء أخرى تُعرف بها من قبيل: (اللغة المُتعَلمة)، و(اللغة الكلاسيكية)، و(اللغة المكتوبة)، وبالموازاة مع ذلك تنتشر اللغة الشفهية في البلدان العربية المختلفة، إلا أنها لا تستعمل للكتابة خاصة من قبل المتعلمين على اعتبار أنها فساد Corruption. غير أن من الخطأ أن نستنتج، مما سبقت الإشارة إليه، أن العربية الأدبية والعامية نوعان لغويان متميزان عن بعضهما البعض1. وعليه نكون أما مستويين لغويين لنفس اللغة.

فبالرغم من عدم التحدث بالعربية بنفس الطريقة في جميع البلدان العربية، إلا أن لها نفس القواعد الثابتة في جميع الدول المستعملة فيها، وإن تخلت العرب عن بعض قواعد العربية، بشكل أكبر أو أقل في المحادثة والاستخدامات المألوفة، وفقاً لمستوى ودرجة التعلم والحضارة لكل بلد على حدة2.

ويعتبر الكثير من المستعربين، ومن بينهم لورشندي، أن العربية الأدبية هي نفسها العربية العامية التي تم تجريدها من الصعوبات النحوية الأساسية، وخُفضت إلى أشكال أكثر بساطة. فإذا كان مقدار تخلي البلدان التي تستعمل العربية، في المحادثات العامة، للقواعد النحوية موحداً، وإذا كان للحروف الهجائية المستعملة في هذه البلدان نفس الوضوح بشكل منتظم وموحد، وإذا كانت نفس الكلمات مستعملة، في سوريا ومصر والمغرب، للتعبير عن نفس الأفكار والأشياء، فالأكيد، حسب لورشندي، أن العامية العربية ستكون واحدة، وستخضع لنفس المطابقة في الاختلافات، وسيتم استخدامها بشكل موحد في جميع الأنحاء. وفي هذه الحالة سنكون أمام لغة ثانية، خاصة إذا توحدت العاميات لذلك فالوضعية اللغوية في العالم العربي يمكن وصفها بوحدة اللغة وتعدد العاميات.

أما فرانسيسكو سيرفيرا فقد تحدث عن دور الفتوحات الإسلامية في انتشار العربية في كل من مصر وسوريا، مع تمديد هذه الفتوحات إلى جميع شمال إفريقيا من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي عبر قناة جبل طارق، وقد امتد هذا الانتشار إلى إسبانيا وفرنسا خاصة فيما يتعلق بالقواعد الدينية واللغة الغنية المتناغمة، فكما هو معروف اللسان العربي تحكمه تعاليم وقواعد صارمة، إضافة إلى قوانين جامدة rigid laws. وقد تزامنت هذه الفتوحات باختلاط العربية بالعديد من الكلمات المأخوذة من اليونانية والفارسية واللاتينية، أو من بعض اللغات المستعملة الأخرى3.

وبالعودة إلى المسار التاريخي للفصحى يمكن لنا أن نستعين بما جاء به شوقي ضيف "بأننا لا نستطيع أن نحدد تماماً الزمن الذي اتخذت فيه لغتنا العربية شكلها النهائي الذي تمثله الفصحى، هذا الشكل الكامل النضج، سواء من حيث الإعراب والتصريف والاشتقاق، أو من حيث التنوع الواسع في المصادر والجموع، وحروف الجر والعطف وأدوات الاستثناء، والتعريف والتنكير والممنوع من الصرف وغير ذلك. إن هذا النظام الصوتي المتكامل الذي اقتضى أن تحتفظ العربية بأصوات فقدتها أخواتها الساميات من مثل الثاء والخاء والذال والظاء والضاد والغين، والنظام الصرفي الذي يحتفظ بجموع تكسير، والنظام النحوي الذي يقوم بمجمله على الإعراب، لا نجد له مثيلاً في معظم شقيقات العربية. إنه لمن المؤكد أن العربية الفصحى لم تصل إلى هذه الصورة التامة إلا بعد أن مرّت بمراحل طويلة من النمو والتطور، وإن كانت الوثائق والآثار الكتابية المحدودة التي وصلت إلينا في مرحلة متأخرة لا تساعدنا على معرفة البدء الحقيقي للعربية الفصحى، التي لا نجدها إلا متألقة متداولة في أشعار ما يعرف بالعصر الجاهلي في أواخر القرن الخامس الميلادي وأوائل السادس منه"4.
 

2. الازدواجية اللغوية: العربية المعيارية والعربيات اللهجية

عرف العرب الازدواجية اللغوية منذ القدم؛ بحيث لم يعتمدوا الفصحى في محادثاتهم اليومية والمشتركة كما صورت لنا ذلك المسلسلات التاريخية، ولم يحققوا الإعراب كما أكد على ذلك سيبويه في الكتاب [الجزء4/ ص: 202-203 في باب الإشباع في الرفع والجر]؛ حيث نقرأ: "فأما الذين يشبعون فيمططون، وهذا تحكمه لك المشافهة... وأما الذين لا يشبعون فيختلسون اختلاساً ويسرعون اللفظ... ولا يكون هذا في النصب؛ لأن الفتح أخفُ عليهم، وقد يجوز أن يسكنوا الحرف المرفوع والمجرور". ونجد الأمر أكثر وضوحاً عندما نقرأ البصائر والدخائر 147: قال أبو العيناء: "ما رأيت مثل الأصمعي قط، أنشد بيتاً من الشعر فاختلس الإعراب؛ وقال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: كلام العرب الدرج؛ قال: وحدثني عبد الله بن سوار أن أباه قال: إن العرب تجتاز بالإعراب اجتيازاً؛ قال الأصمعي: وحدثني عيسى بن عمر أن ابن أبي إسحاق قال: العرب ترفرف على الإعراب ولا تتفيق فيه، قال: وسمعت يونس يقول: العرب تشام الإعراب ولا تحققه؛ قال: وسمعت الحساس بن حباب يقول: العرب تقع بالإعراب وكأنها لم ترد؛ قال: سمعت أبا الخطاب يقول: إعراب العرب الخطف والحذف؛ قال فتعجب الناس منه".

إن تسمية "الازدواجية اللغوية"، مصطلح حديث جاءت به اللسانيات الاجتماعية لمفهوم قديم عرفته الحضارة العربية منذ نزول القرآن. فكان الأئمة وحفظة القرآن ملزمين بتجنب الظواهر الصوتية التي كانت تزخر بها لهجاتهم العربية خلال تلاوة القرآن أو إقرائه للناس.
وتستمر هذه الازدواجية اللغوية حتى وقتنا الراهن، باستعمال العربية المعيارية في المواقف الرسمية، والعربية اللهجية في غيرها، وفق ضابط لكل مقام مقال. وقد عرض الجاحظ لهذا، وبعده ابن خلدون، واعتبرا ذلك أمراً طبيعياً.

ولألفاظ اللغة العربية العامية تاريخ كالأفكار والأشياء، يمكن للدارس البحث عن أصولها وتتبع تطورها الذي لا يقف عند عصر ولا يقتصر على جيل. فمن الألفاظ العربية العامية ما لا يختلف كثيراً عن مقابله في العربية الفصحى، وقد يكون نفسه في عربية عامية أخرى إن لم يكن قريباً من مقابله فيها. ومن بين أدوارِ اللُّغويِّ تتبعُ أصول وتطورات ألفاظ العاميات العربية، بالرجوع إلى آيات القرآن الكريم أو بالرجوع إلى منظوم ومنثور الأدب العربي، للبحث عن أصول هذه الألفاظ في العربية الفصحى، أو باعتماد الشعر اللهجي المدون، لتبين ما قد يطرأ على بعضها من تغيرات أو إهمال في الاستعمال.

 

3. معايير الفرق بين اللغة والعامية

إذا أردنا الوقوف على أهم ما يميز اللغة عن العامية، فيمكن الحديث عن ذلك من خلال ما يلي:
- اللغة أكبر من العامية؛ فأكثر المتكلمين يتكلمون لغة وليس عامية، أي كلما ازداد عدد متكلمي هذا المستوى أصبح لغة وليس عامية.
- اللغة هي النموذج المعياري القياسي للعامية، بينما العامية لا معيارية.
- اللغة تمثل الشكل الرسمي/ الشكل الصحيح، بينما العامية لا تصل إلى صحة اللغة الصليقة.
- العامية تملك وضوحاً مشتركاً عكس اللغات؛ حيث يميل المتكلم إلى استعمال العامية التي سيتفاهم بها مع المخاطب، إلا إذا تعذر الأمر فسيميل المتكلم إلى استعمال اللغة التي تجمعه بالمخاطب.

ومن هنا يمكن لنا أن نتوقف عند بعض الأخطاء الشائعة حول اللهجات:
1 - اللهجة هي الطريقة أو اللغة التي يتحدث بها شخص آخر، ولكن الصواب: كل شخص يتحدث لغة فإنه يتحدث أو يستعمل لهجة هذه اللغة.
2 - تُستعمل اللهجات من طرف جماعات غير مستحبة/ غير مقبولة اجتماعياً، والحقيقة: أن هناك لهجاتٍ مقبولةً ومُستعملةً وأخرى دون ذلك.
3 - تعكس اللهجات فشل المتكلم في إتقان اللغة (عدم إتقان القواعد واستعمالها)، ولكن اللهجات تنشأ من خلال اعتماد ميزات الكلام والخصائص اللغوية أثناء المحادثات العامة/ المشتركة، وليس من خلال عدم اعتماد ميزات اللغة القياسية أو المعيارية.
4 - اللهجات ليست لها منهجية؛ وإنما هي انحرافات عشوائية للغة المعيار، ولكن على العكس من ذلك فاللهجات مثل جميع أنظمة اللغة البشرية ممنهجة ومنظمة ومنتظمة.
5 - تحمل اللهجات في طياتها دلالات/ حمولات اجتماعية سلبية، غير أن القيمة الاجتماعية للهجات مشتقة/ مشكلة من التطور الاجتماعي للمتكلمين.
6 - اللهجات هي انحراف أو مشتقة من اللغة المعيار التي تمثل الشكل الصحيح للغة. بينما اللغة المعيار بدورها لهجة ثم اختيارها لتصبح لغة رسمية قياسية معيارية بناء على مجموعة من العوامل.

 

4. التخطيط اللغوي في العالم العربي في ظل تهميش العامية وتقوية اللغات الأجنبية

لا شك أن الحديث عن مستقبل إشكالية العلاقة بين الفصحى والعامية يجرنا للتطرق إلى التخطيط اللغوي المرتبط بالسياسة اللغوية في العالم العربي، وإن كانت الرؤية الاستشرافية تنبني بالأساس على المسار الدياكروني للعربية، وما نعيشه اليوم من تقوية اللغات الأجنبية على حساب الفصحى، بخاصة عندما ينحصر الصراع اللغوي عند بعض الباحثين في علاقة الفصحى بالعامية، رابطين تقهقر الفصحى بشيوع العاميات واعتمادها في كل مناحي الحياة اليومية، متجاهلين القيمة التي أصبحت تحظى بها اللغات الأجنبية في المؤسسات الرسمية والمقررات الدراسية والبرامج التلفزية.

والأكيد أن اللغات الأجنبية استطاعت أن تحجب دور الفصحى في العالم العربي، بل أن تظهر عجزها ودونيتها، والبداية بالتعليم، ونخص بالذكر التعليم الابتدائي، بخاصة وانتشار المدارس الخصوصية التي ربطت جودة التعليم بإتقان الفرنسية أو الإنجليزية ولو على حساب الفصحى، حيث تتهافت الأسر على لغة موليير وشكسبير، ويكفي إتقان الطفل لأبجدية الفرنسية أو الإنجليزية في سنواته الأولى من التمدرس لترضى الأسر عن أداء المدرسة. ويقوى هذا التوجه بالتقدم في مراحل التعلم، حيث يميل التلميذ إما رغبة أو دفعاً من الأسر إلى ضبط اللغات الأجنبية والمواد العلمية، لتترسخ صورة اللغة العربية في التخلف والدونية، وبالأساس في البطالة؛ فسوق الشغل يسعى جاهداً إلى الظفر بمن استقوت فرنسيته أو إنجليزيته، بينما ضابط العربية الفصحى لا يجد من الوظائف والمهن إلا الفتات.

ولا شك أن التوظيف والتشغيل يسترعي اهتمام حكومات الدول العربية، ويدخل ضمن السياسات الكبرى للدول؛ غير أن ترجيح كفة اللغات الأجنبية لا يخلق المساواة وتكافؤ الفرص، بل يكرس دونية الفصحى وإهمالها والتقليل من قيمتها، ولإخفاء هذا الفشل نختبئ وراء الصراع المفتعل بين العربية الفصحى واللهجات العربية، فجامعتنا أصبحت مصنعاً لتفريخ خريجي الدراسات العربية، بينما استقوت العلوم الاقتصادية والعلوم التطبيقية والتجريبية ومدارس المهندسين والأطباء، وغيرها من المعاهد التي تعتمد الاستقطاب المحدود، فالتصقت البطالة بالعربية الفصحى، وإن كان بإمكاننا التخلص من ذلك بالحد من الاستقطاب المفتوح لطلبة الدراسات الأدبية والعلوم الإنسانية؛ آنذاك سنحتاج دائماً إلى الخريجين وسنعلي من قيمة اللسان العربي الفصيح.

وإذا كنا نسمع اليوم المنادين بضرورة تدريس العلوم باللغات الأجنبية، وأن الفصحى لا تقوى على التطور التقني والتكنولوجي الذي يعرفه العالم، فدعنا نذكر أنفسنا وهؤلاء أن العربية الفصحى كانت وستظل لغة علم ومعرفة، وأن التراجع والتقهقر إنما أصاب أصحابَها فقط، والدعوة متجددة دائمة للنهوض بها وحمايتها، ولن يكون ذلك إلا باعتمادها وتوظيفها في شتى المجالات، دون إغفال المسؤولية الملقاة على عاتق العلماء والمفكرين والباحثين من خلال النهوض بالعلوم والمعارف، وإتاحة الفرصة للدارسين العرب لمقاربة القضايا والظواهر بلسان عربي فصيح.

وبالعودة إلى الوراء قليلاً لاستحضار مجد العربية الفصحى سنجد أن فلسفة العرب ومعرفتهم بفلسفة أرسطو قد أجبرت الرهبان على تعلم العربية في زمن مبكر حيث اضطروا إلى مناقشة الآراء الفلسفية، كما رغبوا في إحراز ألقاب (المستشرقين) مما يدل على أنه لم يكن يسمى مستشرقاً إلا الذي كان على معرفة تامة باللغة العربية، وقد انتشرت آراء أرسطو في أوروبا بواسطة اختلاط الإفرنج بالعرب في الأندلس وصقلية5.

وما اكتفى علماء الاستشراق في أوروبا بدرس اللغة العربية، وادِّخار كتبها، لكنهم انصرفوا منذ عهد اختراع الطباعة إلى طبع الشيء الكثير من تواريخ بلاد العرب وجغرافيتها وتراجم رجالها وأصول شعوبها. هكذا تيسر للأوروبيين أن ينشروا أهم تلك الكتب في مختلف العلوم العقلية والنقلية6.

وبالعودة إلى الحديث عن المؤسسات نجد أن الأمر لا يقتصر على التدريس بمراحله المختلفة، بل يتعدى ذلك إلى المؤسسات الإعلامية، ويأتي في مقدمتها التلفاز الذي يسكن جميع المنازل ويأسر كل الأفراد؛ والبداية ستكون بأفلام الكرتون التي ألفنا، ونحن صغار، مشاهدتها والاستمتاع بها بالعربية الفصحى المقدمة بها، غير أن ذلك انقلب إلى تغليب اللهجات المحلية عوضاً عن الفصحى، حيث سارعت العديد من القنوات إلى تقديم الرسوم المتحركة مدبلجة باللهجات المحلية، مغيبة الوظيفة التعليمية المتمثلة في الاكتساب اللغوي للأطفال، بخاصة وأن مثل هذه الأفلام تعتمد الألوان والموسيقى والجمل القصيرة والإثارة والتشويق، وكل ما من شأنه أن يساعد الطفل على ضبط اللغة وإعادة استعمالها، وتزداد الخطورة عندما تعتمد نفس القنوات على بث أفلام كرتون بلغة فرنسية أو إنجليزية أدبية نقية، فتغيب الفصحى، وتزداد صعوبتها عند الطفل، بل يجد نفسه أمام لغة أجنبية أخرى لا مجال لاستخدمها ولحياتها سوى كتب التراث القديمة.

لقد استفادت اللغات الأجنبية من هذا الوضع، واستقوت لتكريس الهيمنة اللغوية، والاحتكار اللغوي، بسوء تدبير التعدد اللغوي الذي زاغ عن هدفه المتمثل في خدمة البلدان العربية بطريقة إيجابية7. ومظاهر هذا الحراك اللغوي وتجلياته تفصح عن نفسها في البرامج الدراسية، وفي جميع المؤسسات والقطاعات، وفي ميدان الإعلام والاقتصاد والسياسة، فالتشكيك في اللغة العربية واحتقارها، كانا مدخلاً واسعاً إلى التشكيك في الهوية.

فاللغة العربية "لغة قوية ونسقية يمكنها أن تصبح أكثر وظيفية وعالمية، وهذا رهين بإنصافها، وتثبيت مشروعيتها ورسميتها عبر تمكينها في محيطها وتعميمها، ودعم دورها في التربية والتكوين، من خلال تهيئ العوامل النفسية والبيئية حتى نتمكن من النجاح في اكتسابها لغة رسمية مع تعلم موفق ومتزن للغات الأجنبية، وهذا يتطلب تنسيقاً على مستوى عربي، لإقامة برامج وسياسات لغوية فاعلة، من شأنها ترسيخ استعمال اللغة العربية، والتصدي لكل أشكال التشكيك في قدرتها، أو طمس وظيفتها"8.

في الختام؛ لا يسعنا إلا التجديد على ضرورة إعطاء الفصحى المكانة التي تستحقها في المجتمع، وأن لا نقوي اللغات الأجنبية على حساب الفصحى، وأن لا نختبئ وراء صراع مزعوم بين العامية والفصحى، وإن كان لزاماً علينا التشديد على ضرورة عدم استخدام العامية في مقامات الفصحى، والسعي للرقي باللهجات العربية، والتي من دون شك تعكس لنا تقدم كل مجتمع وحضارته، فهي وعاء للتعبير عن ما يخالج هذه الشعوب من آمال وطموح لغد أفضل يحفظ هويتنا وقوميتنا العربية، دون المساس بالخصائص الثقافية لكل مجتمع على حدة.


الهوامش:
1. ينظر: عبد العالي احمامو، الاستعراب الإسباني في المغرب خوصي ماريا لورشندي نموذجاً، مجلة دراسات استشراقية، العدد: 16، خريف 2018. | 2. نفسه.
3. Joseph LERCHUNDI (1900), Rudiments of the Arabic Vulgar of Morocco, translation de James Maciver Macleod, Tangier, The Spanish catholic Mission press.
4. ينظر: شوقي ضيف، العصر الجاهلي، دار المعارف، الطبعة 13، ص: 117- 121.
5. أحمد سمايلوفيتش، فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر، دار المعارف، القاهرة، 1972، ص: 61.
6. محمد كرد علي، غرائب الغرب، ج 1، ط 2، المطبعة الرحمانية، 1923، ص: 244.
7. أبحاث لسانية، المجلد 4، العدد 1 – 2، منشورات معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالرباط، ص: 24 – 25.
8. أمينة اليملاحي "اللغة العربية بين التعدد والرسمية، في لغة الحق ولغة القانون، منشورات معهد الدراسات والأبحاث للتعريب، الرباط، المغرب، الجزء الأول، 2003، ص: 1930.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها