صعودُ المؤلفين الأذكياء

ماهية الكتابة والقراءة الواعية في عالم متغير

ترجمة: محمد زين العابدين

 لوشلان بلوم By: Lochlan Bloom

 


Authors Old & New © Steve Lillie 2017. Please visit www.stevelillie.biz


يَتَساءلُ كَاتبُ المَقَالِ (لوشلان بلوم)، عمَّا سوف يفعله الكُتَّابُ عندما تُصبح الحواسيبُ الذَّكِيَّةُ أكثرَ براعةً في الكتابةِ منهم؟! كما يناقشُ الجوانبَ المختلفة لعملية الإبداع، وماهية القراءة الجيَّدة، وكيفَ تكونُ مشاركة للإبداع.



بين الحقيقة والخيال

عَلى امتدادِ القرنِ العشرينَ، أصبحَ السَّعيُ وراءَ الحَقائقِ هو الهدفُ الرَّئيس للتَّقدُّمِ البَشريِّ، مع هيمنةِ الفِكرةِ القائلةِ بأنَّ الحَقائق العلميَّةَ هي المُهمَّة، بينما الخيال -في أحسن الأحوال- هو شيءٌ من الترف. ومع ذلك، فهناك أدلَّةٌ متزايدةٌ على أنَّنَا كبشرٍ نعيشُ حياتنا في عالم من الأخيلة. ويبدو أننا ملتزمونَ مُسبقاً بقبول القصص، وإدراجها في أعمق نسيج بمجتمعاتنا على سبيل المثال: القصص المتعلقة بالأمة، والمجتمع، والاقتصاد، والدِّين.

ولكن -وكما يؤكد الفيلسوف والمؤرخ "يوفال نوح هراري"- فإننا نتشارك مع الملايين من الغرباء، إذا كنا فقط نصدق نفس القصص الخَياليَّةِ. ففكرة "الإنسان المتفوق" أو"السوبر"، بُنِيَّتْ واقعياً على أساسِ فكرةٍ خَياليَّةٍ، ومنَ الأفكارِ الرَّاسخةِ أنَّ الإنسانَ هو الحيوانُ الوحيد الَّذي يستطيع الإبداع، والَّذي يؤمن بقصص خياليَّةٍ، والقطاع الأكبر من البشر يشتركون في اعتقادهم بأفكار مبنية على الخيال.

صعود الذكاء الاصطناعي

يُمثِّلُ الصُّعودُ القَادِمُ للذَّكاءِ الاصطناعي اختراقاً لأسلوبنا في الحياة؛ ليس فقط لأنَّهُ يشير بشكلٍ كبيرٍ إلى أنَّنَا رُبَّما سنصبح أسوأ من الآلات في تحديد الحقائق، ولكن لأنَّنَا أيضاً سنصبحُ في جميع الاحتمالات أسوأ من الآلات في إبداع الأخيلة. ومع التَّطور التكنولوجي المتسارع، تتزايد التوصيات بالاستفادة من إمكانيات الآلات الذَّكيةِ المحوسبة (الروبوتات المتطورة)، والَّتي تتعلم التَّعاملَ مع الدوال الحسابية واللوغاريتمات، والمرتبطة بالشبكات العنكبوتية العالميَّةِ؛ بما تشمله من أجهزة استشعار، ومصادر معلومات، حيثُ إنَّ هذه الروبوتات الذَّكيَّةِ رُبَّمَا يتزايدُ تفوقها علينا عندما يتعلق الأمر بتقييم ما هو صحيح في الواقع؛ سواء ما له علاقة بحركة سوق الأوراق المالية، أو أفضل أسلوب لإدارة شركة، أو حتى تقييم الحالة العَاطفيَّةِ للشَّخصِ. وفي الوقت الحاضرِ، يستغرقُ الأمرُ من المحترفين سنواتٍ منَ التَّدريب، لِكَي يتعرفوا على الحقائقِ الأسَاسيَّةِ بِالنَّسبةِ لمهنتهم، ولفهم الموضوع الحقيقيِّ الجدير بالاهتمام، وما ليسَ كذلك. لذلك فإنَّه في المستقبل، لابُدَّ مِنَ التَّدريب وتطويرِ الذَّات حتَّى يستطيعَ الإنسانُ مُسايرةَ الآلات؛ لأنَّها أصبحت تستطيع تحليل المعلومات بشكلٍ أفضلَ من أيِّ إنسان، وبناءً على ذلك لا يستطيعُ الإنسانُ أن يناقشَ بشكلٍ منطقيٍّ مقبولٍ ما هو حقيقي، وما ليسَ كذلكَ؟!

وَهَذَا الأمرُ لَهُ عَلاقَةٌ بمقولاتِ الفَيلَسُوف "نوح هراري" عن صُعودِ طبقةٍ عَديمةِ الفائدة، غيرَ قادرةٍ على أداءِ أي شيء بشكلٍ أفضلَ مِمَّا يمكنُ أنْ تُؤديه الآلات؛ وبالرَّغمِ مِنْ أنَّهُ لا يُوجد يقين عن مَاهية الدَّور الَّذي ستلعبه التِّكنولوجيا، فإنَّهُ يبدو غيرَ خَفِيٍّ على الجَميعِ، أنَّهُ في المستقبلِ لَنْ تكونَ هُناكَ حَاجَةٌ إلى الغالبيَّةِ العُظمى من أصحابِ المِهَنِ المُختلفة، في أداء نوعيَّةِ الوظائفِ المُعتمدة على التَّعامل مع الحَقائق الَّتي نُمارسها حَالياً؛ من فَنِّيي الأشعَّةِ، إلى رِجالِ الاقتصاد.

التَّحوُّلُ الثَّوري لفن الرِّوايةِ مع تدخلِ الذَّكَاء الاصطناعي

يَبدُو أنَّ هذا التَّحوُّلَ سَيكونُ ثَورياً عندما يَصِلُ الأمرُ إلى أكثرِ أشكال الخيال شائعة القبول؛ الرِّواية. إنَّنَا نَقترب ُبالفعلِ من حالة يكون فيها فهمُ الآلةِ لمَا نقرؤه مُتجاوزاً لقدرةِ المُؤلِّفِ في عِدَّةِ مَناطقَ إبداعيةٍ. تستطيع شركةُ (أمازون) فِعليّاً جمعَ البيانات من ملايين الإصدارات الحصرية، وتحليلها من حيثُ كيفية تفاعل قارئ معين مع نص معين؛ فيما يتصل مثلاً بأي جُزءٍ منَ النَّصِ نقرؤهُ بسرعةٍ، أو الأجزاء الَّتي نقرؤها ببطء، أو الأجزاء الَّتي نتوقف عنها، ثم استقراء هذه البيانات، لتقديم توصياتها المعتمدة على ميولنا القرائية.

وهذه التحليلاتُ للتَّفاعلِ بينَ القارئ والنَّصِّ، سوفَ تصبحُ أكثرَ دهاءً، فقط كُلَّمَا تمت إضافة قُرَّاٍء أكثرَ، وقدرات حاسوبيةٍ أكبرَ بداخل النِّظام. وكما كتب "نوح" في مقاله بجريدة (الفاينانشيال تايمز): "قريباً سوف تَقرؤُكَ الكُتبُ أثناءَ قراءتكَ لهَا". وفي حين أنك تنسى بسرعة معظم ما قرأته؛ فإنَّ برامجَ الحاسوب لا تحتاجُ أبداً لأن تنسى. قريباً سوفَ تعرفُ لوغاريتمات الآلات الذَّكية بالضَّبطِ عند أي من أجزاء النَّص ضغطت أزرار الحاسوب، سوف تعرف ما الَّذي تستمتع بقراءته بشكلٍ أفضلَ مما تفعله أنت؛ سواء إذا كنت تُريد حكايات مثيرة عن البطولات، أو السحر والشعوذة، أو رواية فلسفية تنويرية، وسوف تفهم الروبوتات المتطورة على وجه التحديد، أي نوع من القِصص سوفَ تتفاعلُ معها، وسوف تتمكنُ من تكييف توصياتها بالنِّسبةِ للنُّصوصِ حَسب مُيولك.

تغيُّرُ مفاهيم التَّأليف

إنَّ الخطوةَ التَّاليَّةَ بالنِّسبةِ لمجالِ التَّأليفِ -إذا مضينا وراء هذا الفكرِ إلى مدى أبعد-نستطيع أن نرى أنه لن يكونَ مستبعداً أنه يوماً ما، أن تلك الآلات الَّتي تتعلم التَّعاملَ مع أدوات الكتابةِ، سيكونُ مُتاحاً أن نقوم عندئذٍ بما يمكن أن نسميه "إعادة هندستها وبرمجتها" بحيث تحلُّ الآلات محلَّ الكتاب!

رُبَّما لن تفهمَ لوغاريتمات هذه الروبوتات ما تكتبه، ولكنَّها ستكون قادرةً على أن تحسب بالضَّبطِ ما الَّذي تكتبه ليوافق اهتمامنا، ووفقاً لذلك سوف تبني روايات شخصية حسب هوى كُلٍ مِنَّا.

في نوفمبر 2016، أعْلَنتْ شركة (غوغل) عن ترقية خدمةِ التَّرجمةِ بمحرك بحثها العالمي، بحيثُ تجعلها أكثرَ قُرباً من أيِّ وقتٍ مضَى من الأسلوب الَّذي يستخدم به البشر اللُّغةَ، وبحيثُ يَتِمُّ تحليلُ النَّص على مستوى العِبارةِ، بَدَلاً منَ التَّعامُلِ معه حرفياً كلمةً كلمةً. وكما كتب في مدونته "باراك توروفسكي" مدير التَّرجمةِ بشركة "غوغل": (الترجمة "العصبية" أفضل كثيراً من تقنيتنا السَّابقة للتَّرجمة؛ لأنَّنَا نترجم جُمَلاً بأكملها في نفس الوقت، بَدلاً من ترجمة قطع من جملة، وهذا من شأنه أن يجعل الترجمة عادة أكثر دقة، وتبدو أقربَ إلى الأسلوبِ الَّذي يتحدثُ به البشرُ الُّلغةَ). وحالما يتم صقل وتحسين هذا الأسلوب، فبالقطع لن يكون قابلاً للتصديق أنَّ الآلات الذَّكية سوف تكونُ قادرةً على إنجاز كتابٍ كاملٍ، وماذا بعد؟! إنَّ آلةً ذكيةً رُبَّمَا ستتمكن تقريباً بشكل فعلي من إنتاج كتاب بشكل فوري. ربما ستتمكن من كتابة مئات، أو ملايين الكُتب. كتاب خاص بكل "زبون" حسب طلبه. سلسلة لا نهائية من النهايات للروايات؛ يتم تفصيلها فقط حسب مزاجك. روايات صنعت لتناسب ميولك الشَّخصية الفردية، ونوعية القراءة المثالية بالنِّسبةِ لمزاجك في التو واللحظةِ، وفي مثل تلكَ الظُّروف سيكون مِنَ المُستحيل على أي كاتب بشري الدخول في تنافس تجاري مع الآلات الذَّكية. ما الَّذي يمكنُ للمؤلف أنْ يفعلهُ من أجلِ كَسبِ قوته؟

كيف سيتمكن مؤلفٌ بَشريٌّ من إنتاج كتاب يحقق أعلى المبيعات، عندما تستطيع الآلات الذكية إنتاج مليون رواية مبنية بصياغات بارعة تناسب الميولَ الشَّخصيَّةَ لكلِّ قارئ في وقتٍ وجيزٍ؟ ستعرف هذه الروبوتات الذَّكيةُ ما الَّذي تقرأه بالفعل، ما الَّذي تتوق إليه، ما الَّذي سيبدو جديداً وطازجاً بالنَّسبةِ لَكَ، وما الَّذي سيبدو مستهلكاً. ماذا عساه سيكون الغرضُ من كتابةِ الخيالِ إذن في عالمٍ تستطيعُ فيه الآلاتُ الذَّكيةُ أنْ تفعلَ ذلك بشكلٍ أفضلَ بكثير؟ هل سيحملُ هذا المصير النِّهاية لرغبةِ الإنسانِ في الإبداع من وحي خياله من خلالِ فعلِ الكَتابةِ؟!

وَإذا أردنا أنْ نُغمد فأساً في بحر الجليد هذا، فسيكونُ من خِلالِ مَقولَةِ "خورخي لويس بورخيس" عن الشِّعرِ في كتابهِ (الشِّعر)، الصَّادِرِ سنةَ 1977: (الحقيقة أنَّ الشَّعرَ لا يمثلُ الكتب الموضوعة بالمكتبة.. الشِّعرُ هو اللِّقاءُ بين القارئ والكتاب، اكتشاف الكتاب). أحد الاحتمالات أنَّنَا سوف نستفيد من الأدوات الَّتي توفرها الروبوتات الذَّكية في صياغة شكلٍ جديدٍ من الكِتابةِ.

ماهيةُ الكتابةِ والقراءة الواعيَّة

على أيِّ حال، فإنَّ عمليةَ الكتابة ليست هي أن تصبح أفضلَ في سرعة الكتابة، أو تحرير النَّسخ، أو حتى تعلم سلسلة من قواعد لعبة الكتابة، أو مفاهيم تطور الشَّخصيات بداخل العمل. إنَّ الكتابةَ -أو هكذا يجب أن تكون- تُمثلُ على وجه التَّحديد تلك الأشياء الَّتي تعمل الآلات الآنَ على تحسينها في نظامها من خلال الضغط على"أزرارنا العاطفية" -إذا جاز التعبير- السؤال ليس عما إذا كانتْ الآلاتُ الذَّكيةُ ستصبح أفضلَ من البشرِ في استنباط استجابةٍ لأمرٍ معطى لَهَا، والَّذي نفترض أنَّها سوف تفعله. بل إنَّ السُّؤالَ هو عن أي نوع من الاستجابات سوف نختار أن نطلب من الآلات استنباطه، ولذلك فإنه يعتقد أن وظيفة المؤلف في زمن الروبوتات الذَّكية سوف تتمثل في تحديد أفضلَ مجموعة من الاستجابات اللاَّزمةِ لإبداع العمل الأدبيِّ.

بالنِّسبةِ للبعض، فإنَّ الروايات الَّتي يختارونها سوف تكون هي الروايات المكتوبة من أجلِ كسبِ الرِّزق؛ المحتوية على نوعٍ من الإثارةِ المقبولِ رَسميّاً، أما بالنِّسبة للبعض الآخر، أولئك الَّذين ينشدون وعياً أعمقَ بالعالم، فستكون الأدوات اللاَّزمة لإبداعِ الخيال المكتوب آلياً بالنسبة لهم جزءاً أساسياً من الأدبِ، واستكشافهم للوعي يجب علينا أن نقرأ فقط نوعية الكتب التي تترك أثراً غائراً فينا، إذا لم يوقظنا الكتابُ الَّذي نقرؤُهُ بضربةٍ في رؤوسنا، فمن أجل ماذا نقرأ؟! وهكذا ستجعلنا الكتب سعداء تماماً كمن كتبوها، وهذا النَّوعُ من الكُتبِ الَّتي تجعلنا سعداء، هو النَّوعُ الذي يمكن أن نكتبه لأنفسنا إذا كان علينا أن نفعل ذلك. لكننا نحتاج إلى الكتب التي تؤثر فينا تأثيراً يُشبهُ الفَجيعةَ الَّتي تحزننا بعمقٍ، مثلَ موت شخص أحببناه أكثرَ من أنفسنا، مثل أن نكون منفيين بداخل غابة بعيداً عن الجميع، مثل الانتحار!

ومثلما قال "فرانز كافكا": (الكتابُ يجب أن يكونَ هو المطرقةُ الَّتي تكسر بحر الجليد بداخلنا). سوف تمتلك التكنولوجيا قريباً المقدرةَ الَّتي تمكن القراء الأكثر مغامرة من صياغة مسارهم الخاص خلال نوع من الأدب المتطور بشكل متواصل. بمساعدة أدوات الحاسوب الذَّكي، رُبَّمَا سيتمكن البشرُ حتى من كتابة نصوصهم المقدسة الخاصة بهم، الكتب الخاصة بإيقاظهم من سباتهم. تخيل لو أنَّ كُلَّ كتابٍ تقرؤه أعطاكَ دقيقةً منَ الوَعي، أو أعطاكَ مطرقة لكسر بحر الجليد بداخلك، بدلاً من قضاء ساعات من الحرث في صفحات الكتب الَّتي تعرف متأخراً جداً أنَّها أضاعت وقتكَ. يمكن أن يحدث هذا، إذا أصبحت عاداتنا في القراءة جُزءاً مِنْ فِعلِ الإبداع، من الاستكشاف العضوي اللاَّنهائي لإمكانيات اللُّغةِ.


 
المصدر: (Philosophy Now Magazine - January Issue #123 (2018©
Lochlan Bloom 2017

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها