مسرحة الذات في مسرح شكسبير؟!

مقاربة قرائية في كتاب: "العنف والفوضى المنظمة في مسرح شكسبير"

د. رياض موسى سكران



في عملية بحث إنموذجية ومتفردة عن المعنى، ضمن سياقاتها الجمالية المغايرة للمنطق التقليدي السائد في دراسات الفن المسرحي، نتوقف إزاء فرضية (العنف والفوضى المنظمة في مسرح شكسبير)، وهو الكتاب الصادر عن دائرة الثقافة والإعلام لحكومة الشارقة، ضمن توجهاتها في إصدار مؤلفات تعكس ثقافة التنوع وترسخ رؤى التجديد والمغايرة والابتكار في الأطروحات وفي القراءات المنفتحة على مجمل حقول المعرفة وتجليات الجمال وآفاق الفكر وفضاءات الثقافة المعاصرة، حيث يقرأ (الدكتور فاضل سوداني) مسرح شكسبير بعين ثاقبة قراءة عضوية من داخل متن النص، وهي قراءة تنأى عن حدود القراءات التقليدية والدراسات الجاهزة والتنظيرات السابقة، قراءة ديناميكية متوقدة بجمر الهواجس الإبداعية والتجليات الجمالية، تقوم على أساس تفكيك وبناء متن النص الشكسبيري والانفتاح على فرضيات وقراءات وفضاءات ورؤى إبداعية، يحكمها المنطق الجمالي الذي يتماهى مع لمسات الرؤية الإخراجية ولعبة المناقلة من حدود المدونة النصية إلى فضاء العرض، ضمن رؤية تشكلت منها وخلالها، اتجاهات القراءة عند الدكتور (فاضل سوداني).


د. فاضل سوداني


هل يمكن أن يكون للفن والإبداع عموماً دور في الحد من العنف والفوضى ووقف تشيؤ الإنسان في هذا العالم؟ وهل يستطيع الفن والمسرح بالخصوص، أن ينقذنا من هذا العنف وهذه الفوضى التي ينتجها ويقودها العقل الشرير؟ وهل يمكن للفن أن يشخص ويشير إلى تلك الأشياء في حياتنا التي تبدو بوجود هذا الاستثناء أكثر عبثية، وأن تجعل من عالمنا عالماً أكثر إنسانية وأقل عنفاً؟ وهل يمكننا أن نجعل من الفن عموماً والمسرح وجماليات الإبداع خاصة مناهج قادرة على التأثير في ذلك الجزء من العالم، وفي مقدمته الذات الإنسانية القابلة للتغيير؟ وهل حقاً إن عالمنا المحيط والذات الإنسانية ما زالا قابلين للتغيير؟

هذه هي الأسئلة الجوهرية، وأخرى غيرها، شكلت المنطلق الأساس لرؤية الدكتور (فاضل سوداني)، وطرحها في مقدمة الكتاب والتي مثلت معايير وضوابط منهجية لتحديد المسارات التي يتحرك ضمن حدودها على المستوى الموضوعي في عملية البحث والتقصي، لا سيما وأن السوداني كان صامداً إزاء مغريات الكتابة والبحث في موضوع واسع وكبير ومنفتح، يثير الرغبة في الكتابة حول موضوعات عديدة عالجها المسرح، وهذا ما دفع السوداني إلى البحث عن إجابات لتلك الأسئلة عبر تحليل ودراسة وتقصي الموضوعات والجوانب الإنسانية التي عالجها أحد أهم وأبرز المسرحيين في العالم على الإطلاق، وهو (وليم شكسبير)، وذلك لأن مسرحه حمل مستقبله وصوره وأحداثه العنيفة وفوضاه المنظمة ما بين سطوره، والتي اجتازت الأزمنة وتخطت الأمكنة، وفي ذات الوقت فإن مسرح شكسبير بمجمله هو الأكثر قدرة على تشخيص واستقراء وتقصي الكثير من الجوانب العميقة في حياة الإنسان.

ويدعو شكسبير متلقيه عبر مجمل نصوصه المسرحية، إلى الدخول في فضاءات التأويل المفتوحة، ويثير رغبته في استقصاء البنى العميقة لمفردات التشكيل الدرامي، وتقصي المعنى المضمر، والبحث عن المدلولات الباطنية المتوارية عن الأنظار خلف شعرية يتفرد بها شكسبير بين كتاب المسرح العالمي، وتكتنز نصوص شكسبير كماً من القراءات المتعددة، التي تكشف عن مجموعة من المعاني المفتوحة التي تسعى نحو هدف التأويل، في ما يمكن أن يسمى (بلوغ فهم معادل)، إذ ينطوي خطاب النص الشكسبيري ضمناً على مجموعة من الفرضيات التي لا يقدمها بطريقة مباشرة ومكشوفة، ولعل الكثير منها لا يمكن التصريح به أو تقديمه بشكل معلن، فالمسكوت عنه والمضمر في النص الشكسبيري يقدّرُ بضعفي المعلن والمكشوف والمصرح به، لذلك فهو يولّد أعداداً لا نهائية من العوالم البديلة المطابقة والمناقضة والمعارضة والمسايرة لصورة العالم السائدة، وسيجد القارئ نفسه وسط تلك المجموعات التي لا حدّ لها من القراءات والفرضيات والتشابهات والتضادات والتصورات، التي حملت إيحاءات معينة ونقلتها للمتلقي الذي تبدأ مهمته في البحث عن المعنى، حال ملاحقته لتلك الإيحاءات، حيث يرى الدكتور سوداني إن (التفكيك النقدي وتأويل النص المسرحي يعتمد على ما نطلق عليه آليات النقد البصري، وهذا يستدعي النظر لمجموع الصراعات، سواء بين الشخصيات التي تمثل نماذج متصارعة أو أحداثاً تتصادم مع بعضها، ويستدعي الغور في أعماق النص والكشف عن أسس مفهومنا حول البعد الرابع للفضاء الإبداعي الذي يعتبر التحليل البصري للنص أحد أسسه الرئيسة).

وتجري عمليات البحث عن المعنى على وفق أساليب مبتكرة وطرائق غير تقليدية، يتعامل السوداني من خلالها مع وحدات النص البنائية وطريقة تركيبها بمعرفة علمية ودراية عملية، وهو يؤكد على أن (تحليل ودراسة الموضوعات التي عالجها شكسبير برؤية نقدية سيميائية-بصرية؛ لأنه مسرح حمل مستقبله بين سطوره، من هذا المنطق فإننا سنحاول تحليل مسرح شكسبير، إنطلاقاً من الجوانب المهمة في التحليل البصري الذي نفترضه للنص والعرض المسرحي كرؤية بصرية).

ويشير النص الشكسبيري عادةً إلى البعد المنطقي بقوة، لكن بعد أن يحيل هذا البعد إلى فضاء من اللغة الشعرية المكتنزة التي تتوالى في مشاهد العرض وحركة الشخوص، ليتواشج النص بالحبل السري الذي يربطه بالعالم الذي يعيشه المتلقي، في الزمان (الآن) والمكان (هنا)، ضمن فرضية النص المفتوحة على الأزمنة المطلقة والأمكنة المطلقة، بكل تحولاتهما وتبدلاتهما، من بنية النفس الإنسانية، حتى البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في أنماطها المتقلبة وإيقاعاتها الحياتية اليومية المتغيرة والمتبدلة والمتجددة باستمرار، وهي مرتبطة بحركة العالم الكونية، لتعكس في مرآة كل عصر وكل زمن نوعية جديدة للعلاقات الاجتماعية، ترتد فيها صورة ذلك التنوع بين مخلوقات العالم الجديد، التي تحاول تسجيل فرادتها ومحاولاتها المستمرة لتدجين الوحش الرابض في داخلها وهي ترفض الاستسلام لسطوته وهيمنته، ويرى السوداني هنا، على أن (العقل الشكسبيري المركب جعل هذا الكاتب هو الأكثر معاصرة الآن؛ لأنه تخطى عصره ليشخص لنا الخراب المنظم في عصرنا الحالي، وأن يحلل تلك النفس البشرية التي عالجها في مسرحياته وكأنه يتحدث عنا نحن بالذات في زمننا الراهن).

وينهض أمام المتلقي سؤال حول ماهية الروابط الداخلية التي توسلها معمار النص الشكسبيري، بوصفه تجسيداً لبنى الصراع والعنف المتأثر بتلك الأنماط الاجتماعية المتغيرة عمودياً، في ذات اللحظة التي ينبغي أن تكون فيها بنية النص كلاً مكتفياً بذاته في مواجهة تحديات بنية تقليدية إزاء مخيلة شكسبير، تلك المخيلة المتدفقة التي تشكل المنبع الأصلي للنص المسرحي، ويفسر السوداني تلك الحقيقة، بأن شكسبير (نظر إلى المسرح من رؤيا جديدة فيها الكثير من تفكيك الحاضر واستشراف المستقبل، رؤيا لرجل مسرح وليس لشاعر أو مؤلف أدبي، بحيث كان يصور حجم الحدث وإيقاعه ليس على الورق، وإنما في فضاء العرض المسرحي المستقبلي، وتعد هذه الميزة من أهم ما يميز التأليف المسرحي، وهي التي تخلق التمايزات بين التأليف الأدبي والتأليف المسرحي).

وإزاء هذا المعطى فإن المتلقي يشكل وحدات كلية خلال محاولته المشاركة في إنتاج معنى النص المسرحي وتأويله، وهو يقوم بمجموعة من المراجعات التي تعيد للأشياء والمفردات تآلفها وانسجامها خلال سلسلة من القراءات التي يتشكل من خلالها المعنى، فإذا عجز عن ما ينبغي أن يقوم به من دور فذلك يعني إنه عجز عن إقامة الاتصال الحقيقي مع جوهر النص، وبالتالي عجزه عن تأويله، وفي ظل هذه المعادلة، من الطبيعي أن تتفاوت قدرات المتلقين الفكرية والمعرفية، وتتباين قدراتهم القرائية أثناء القيام بعملية البحث عن المعنى، وبحسب مستوى تفاعلهم مع النص وقدرتهم على تأويله والتفاعل مع هذا التأويل، فعملية التفاعل التي ينتج عنها تعديل أفق التلقي تبدأ منذ قراءة المقولة الأولى في استهلال النص ولا تنتهي حتى ما بعد خاتمته؛ لأن المتلقي أثناء قراءته للنص، معرّض في كل لحظة لأن يعيد النظر في المعنى الذي يتوالد وينكسر ويستقيم ويقفز وينعطف مساره ويتواصل في كل مشهد ويستمر من منظور آخر وفي اتجاه آخر جديد، متوقع أو غير متوقع، لينتج عن ذلك فجوات، ينبغي على المتلقي أن يملأها، لكي يربط بين الأجزاء والمشاهد والصور، فالنص الشكسبيري يحمل مجموعة لا نهاية لها من العلامات والإيحاءات، وفي وسط تلك المجموعة التي لا يمكن أن تتوقف فيها عملية توالد الافتراضات والتشابهات والتضادات، تصبح مهمة المتلقي عملاً يخلق الشعور بمتعة القراءة، وكأنه يمارس لعبة تركيب وتفكيك وحدات المعنى الذي حمله النص.

ويضع السوداني عدداً من شخصيات شكسبير المسرحية تحت مجهر القراءة العميقة، مثل هاملت وأوفيليا وحفار القبور والملكة وبولونيوس والملك لير وكورديليا ويوليوس قيصر وريتشارد الثالث وماكبث والليدي، وفي قراءته لشخصية هملت يرى أن شكسبير (جعل من هذه المأساة موضوعاً متفرداً لم يسبقه إليه أحد، فهو لا يهمه انتقام هاملت وإنما جعل تردده في تنفيذ الانتقام وحالته النفسية وسيلة لمعالجة مشكلة الذات بإزاء عالم عنيف وعبثي يفرض على هاملت أن يفقد القدرة على التنفيذ وهو في أشد العزم. ومن خلال هذه المأساة ناقش شكسبير ذلك الغموض الذي يكتنف دواخل الذات في علاقتها بالآخر، فالحياة حديقة اعشوشبت ونتنت رائحتها كما يقول هاملت، لذا أصبح من الضروري معالجة كل هذا العنف والفرح والحب والكره، بلغة قادرة على الكشف عن سرّ غموض الحياة والموت وعلاقة الإنسان بهما، لغة فيها الكثير من الصور والاستعارات الشعرية التي ميزت هذه المسرحية).

من هنا فإن النص الشكسبيري لا يسعى إلى فرض معنى محدد ووحيد على المتلقي، ولكنه يقترح معانٍ مفتوحة تقبل تعددية القراءات، وإن أية محاولة للوصول إلى معنى نهائي ومحدد ستؤدي إلى قطع الطريق أمام المتلقي للدخول في فضاء التأويل وإنتاج المعنى.. فكل شيء يخفي داخله سراً، وكلما تم الكشف عن سرّ ما، فإن هذا السرّ سيحيل إلى سرّ آخر ضمن حركة لولبية تصاعدية موجهة نحو سرّ لا نهائي، فالنص الشكسبيري يقوم على خلق متواصل للمعنى، بحيث إن كل مستوى من مستويات المعنى يكون دائماً دالاً لمستوى معنوي آخر، وهكذا.. فالمعنى يسلم إلى معنى آخر، ليظل يوحي بقراءات متعددة تنطوي على معان متنوعة ومنفتحة، فيكون عندئذ للعنف في مسرح شكسبير معنى آخر غير العنف، فأفعال العنف التي تم تقديمها في مسرح شكسبير تمت مسرحتها بطريقة تدعونا جميعاً للعودة إلى إنسانية الإنسان وإيقاظ ضميره والاحتكام إليه، فمثلاً: "فعندما يموت هاملت، بعد أن يلفظ كلمته الأخيرة (ما تبقى هو الصمت) يحتضن الشبح (والد هاملت) جثة ابنه محاولاً إيقاظه، يحركه بطريقة وكأنه يريد له قيامة جديدة، وعندما ييأس، يبدأ بعويل مكتوم كأم ثكلى، ثم يتحول إلى صراخ هائل يجعلك تنزوي خجلاً من ذاتك، وتصمت أياماً عدة بعد العرض".

فما يميز معمار النص الشكسبيري أنه يقوم في أحد أهم أركانه على نسق العلاقة التي تتأسس على تلك المسافة بين كونه شاعراً أو كاتباً درامياً، وقد أدرك شكسبير جوهر مهمته، وهذا الإدراك جعله قادراً على إقصاء وتحييد نفسه عن أحداث مسرحه وشخصياته وأفعالها، ومسرحة تلك الأحداث والشخصيات وتوظيف ذلك العنف بطريقة فذة تكشف عن قدرته على التحكم بمصائر شخصياته بشكل مقنع بالنسبة للمتلقي، وهو يكشف عن تلك الأبعاد القصية والخفية والمضمرة في الذات الإنسانية،

ليحقق السوداني فرضيته حول قدرة المسرح في وقف العنف والفوضى في هذا العالم، وإن المسرح يستطيع أن ينقذ الإنسان من هذا العنف وهذه الفوضى التي ينتجها ويقودها العقل التدميري والإقصائي والاستحواذي، فهو يمتلك القدرة على أن يشخص ويشير إلى تلك الأشياء في حياتنا ومعالجتها، ليجعل عالمنا عالماً أكثر إنسانية وأقل عنفاً، وأن بأمكاننا جعل المسرح وجماليات الإبداع بمجملها، مناهج قادرة على التأثير في ذلك الجزء من العالم، وفي مقدمته الذات الإنسانية في توقها للتواصل مع الآخر وفي انتصارها لإرادة الحياة، وهذا هو سرّ تفوق شكسبير على معاصريه.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها