التفكيك.. بين إرهاصات النشأة وسندان النقد

محمد جعفر


في خضم النقاشات الساخنة التي واكبت البنيوية، وبناءً على الانتقادات اللاذعة والمستمرة لهذا المنهج في التفكير، ظهرت التفكيكية. والغريب في الأمر أن التفكيك انبثق في الأساس من رحم البنيوية وبالذات خلال مؤتمر كان من المفترض أن يدعمها. 
 

ظهرت التفكيكية إذن؛ كتيار فكري فلسفي بديل لما بعد الحداثة، مشكلةً أهم حدث في النصف الثاني من القرن العشرين، الحدث الذي زعزع الثوابت الفكرية السائدة، وشكل ثورة مفهومية حقيقية بقيادة الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا. فليس مصادفة أن يبرز التفكيك، لقد دعت الحاجة وبإلحاح شديد لظهوره بعدما يئس الناس مما كان سائداً حينئذ، وبعدما خضعت المعارف السائدة للخلخلة في علاقة الشك باليقين.

ومنذ الوهلة الأولى التي برزت فيها التفكيكية كمذهب جديد، ورغم جذورها الفلسفية إلا أنها أعلنت عن مراميها النقدية، وعبرت عن نيتها في سبر أغوار النصوص، وإخضاعها للتشريح والتقويض.
 

التفكيك لغةً واصطلاحاً

لغة: تفكيك أو تفكيكية: من فك الشيء -فكاً: فصل أجزاءه، ويقال فك الأسير وفك رقبته أي أطلقه وحرره. ويقال فك العقدة والغل والقيد. فكك: مبالغة في فك1.

اصطلاحاً: "تفكيكية" والتي ترجمت إلى العربية عن "Déconstruction"  مصطلح ليس من السهل الإحاطة به، على اعتبار النقاشات الساخنة التي أثارتها التفكيكية في الأوساط الفلسفية والأدبية والسياسية، فـ"مرة يبدو موقفاً فلسفياً، وثانية يكون استراتيجية سياسية أو فكرية، ومرة ثالثة يبدو طريقة في القراءة..."2.

وقد قدم لنا جاك دريدا التفكيكية كعلم جمال ونقد أدبي ضمن منظور جمالي فلسفي، "إن التفكيكية المعاصرة، باعتبارها صيغة لنظرية النص والتحليل، تخرب كل شيء في التقاليد تقريباً"3، فالمصطلح قد يدل في سطحيته على الهدم والتخريب، لكنه في عمقه الدلالي يتعلق بتفكيك الخطابات من أجل الإلمام بها والوصول إلى مبناها4.

وأمام هذا التعدد في التعريفات ومحاولة حصر مصطلح التفكيكية؛ فإنه يمكننا القول: إن دلالة "التفكيك" غير ثابتة تحيل على صعوبة المفهوم. وفي هذا الصدد يعرف علي حرب التفكيكية فيقول: "والتفكيك بهذا المعنى قراءة في محنة المعنى وفضائحه"5، و"بالطبع نحن نفكك من أجل إعادة البناء والتركيب؛ لأننا محكومون بالمعنى"6.
 

نشأة التفكيكية

يؤرخ للتفكيكية بعام 1966، وهي السنة التي شارك فيها جاك دريدا بمقال في مؤتمر عن البنيوية، بجامعة جون هوبكنز بالتيمور في الولايات المتحدة الأمريكية، كان عنوان المقال "البنية والعلامة واللعب في خطاب العلوم الإنسانية"، المؤتمر الذي وضع شعاراً له (لغات النقد وعلوم الإنسان)، وقد كان هذا المؤتمر إيذاناً واضحاً بظهور فترة ما بعد البنيوية، بل هناك من يعد هذا المؤتمر بياناً لولادة التفكيكية. وعليه فيمكننا القول بأن التفكيكية هي من رحم البنيوية.

ومما لا ريب فيه أن التفكيكية ظهرت على أنقاض البنيوية، فالأزمة التي أدت إلى وأد هذه الأخيرة "تتمثل في فشلها في تحقيق المعنى"7، ولعل عوامل كثيرة تضافرت فأدت إلى هذا الفشل الذريع، أهم هذه العوامل أنها لم تستطع تحقيق الهدف المبدئي من وجودها وهو "مقاربة النص الأدبي وإنارته من داخله"8.

غير أنه لا بد من الإشارة إلى أن التفكيكية لم تكن موجهة للنص الأدبي على الأخص، بل كانت ممارسة فلسفية وضع لبنتها الأولى الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا".

قد نرى أن التفكيك -بوصفه استراتيجية ضمن حدود الفلسفة واستراتيجية بحث في الفلسفة –ممارسة تريد القيام بمناقشة دقيقة جداً داخل الفلسفة، كما تريد –في الآن نفسه– إزاحة المقولات الفلسفية أو المساعي الفلسفية المهيمنة"9.

لقد ظهرت التفكيكية إذن في سياق فلسفي فكري عام، أسسَ له النقاش الدائر حول البنيوية.
 

الانتقادات التي واجهت التفكيكية

 لنبدأ بمسلمة مفادها أنه ليست هناك حركة، أو دعوة أو فكرة مستجدة يتلقاها بنو البشر دون أن تتعرض للنقاش والنقد، فما بين مناصر ورافض تبرز هذه الحركة أو الفكرة إلى الوجود، وعلى أساس ذلك النقاش الذي تثيره يُقعد لها، والحال كذلك بالنسبة للتفكيكية، وقد سبقت الإشارة إلى أن التفكيكية انبثقت من البنيوية بعدما لم تستطع هذه الأخيرة الصمود أكثر أمام الانتقادات الموجهة لها "ومن بين أبرز أوجه القصور في البنيوية عدم صلاحية المشروع البنيوي للتطبيق على كل الأنواع الأدبية"10.

كانت هذه الانتقادات بداية إشارات لوأد المشروع البنيوي، وظهور مشروع جديد سيحاول دعاته إصلاح ما أفسدته البنيوية –حسب زعمهم- هذا المشروع هو التفكيكية "والتفكيك هو أولا قراءة في المأزق الوجودي والحضاري..."11.

لقد جاءت التفكيكية ومن أهدافها الأولى نسف القواعد والقوانين، فمنحت للقراءة حرية أكبر، واعتبرت كل قراءة إساءة للقراءة في استقراء النصوص، بل سمحت بإعادة تشكيليها وإنشائها، إنها صياغة أخرى للنص بعدما وضعت المفاتيح بيد القراءة، التي أضحت تمارس سلطتها بأكبر قدر ممكن من الحرية، فهل استطاعت التفكيكية أن تنجو من سهام النقد؟

 فبالرغم من أن بيير زيما يقول: "إن إحدى المزايا الأساسية لتفكيكية دريدا، تتمثل في كونها أدركت إلى أي حد يعبر المقال، بوصفه بنية تتعلق بمستوى التحليل الذي يتناول نصاً مؤلفاً من سلسلة من الجمل، عن إرادة القوة (نيتشه)، أو إرادة الإرادة (هايدغر)"12، رغم ذلك؛ فإن بورديو يرى أن دريدا تقوقع في ميدان الفلسفة المثالية، ولم يفكر في الوظائف التي تضطلع بها التفكيكية في المؤسسات، ثم إنه يبقى (أي دريدا) في الحقل الفكري للترات الفلسفي المثالي متأثراً بكانط.

إن التفكيكية كمنهج نقدي هدفه التشكيك، تنظر إلى النص بمعزل عن كاتبه وتاريخه؛ إنها ترى أن النص يوجد بالقراءة التي تعوض المؤلف، وبالتالي فإن علاقة الكاتب بنصه تنتهي بمجرد إخراجه للوجود، "لا نكون مبالغين إذا قلنا إن أهم الأدوار في استراتيجية التفكيك هو دور القارئ، وليس المؤلف أو العلامة أو النسق، أو اللغة. القارئ فقط هو الذي يحدث عنده المعنى ويحدثه"13.

إن هذه الحرية التي منحت للقراءة تجعل النص عرضة للإساءة قد تتجاوز حدود التأويل المسموح بها، فكل قراءة هي بمثابة تفسير جديد له، لقد أدى هذا الاعتماد على سلطة القراءة إلى عزل النص عن سياقاته التاريخية والفكرية، وإخضاعه لمجموعة من التأويلات والقراءات انطلاقاً من مرجعيات القارئ وتصوراته، فالتفكيكيون يعترضون على كل شيء "ماعدا التركيز على النص وقراءته من الداخل"14، وهذا ما يؤكده دريدا حين اعتبر أن كل شيء موجود بداخل النص وليس خارجه.

يعتبر النص عند أهل التفكيك "مفتوحاً" على عدد هائل من القراءات، عكس النص عند البنيويين الذين جعلوه سجين قراءة مغلقة وعقيمة، فالنص عند التفكيكيين يلغي المؤلف، ويعلي من سلطة القراءة التي أضحت شريكاً لكاتبه، وهذا ما يجعلنا نتحفظ هنا عن هذه السلطة الممنوحة؛ لأن ذلك سيعرض النصوص لنوع من العنف الممارس عليها قد يصل إلى حد تحريف المعنى.

ورغم أن التفكيك أقام أسس فكره على كشف ما "حجبته مشاريع التحديث وتأسست عليه، من الأنظمة الأحادية والمعايير الاعتباطية"15، إلا أنه تعرض لانتقادات لاذعة، فهذا جون إليس –وهو واحد من أبرز مجموعة رفض التفكيكية- يسعى إلى كشف التناقضات المنطقية الشكلية، ونقاط الضعف التجريبية للفلسفة الدريدية، وقد كان كتابه "Against Deconstruction" –ضد التفكيكية- هجوماً عنيفاً لا يخلو من تحامل واضح على التفكيك، بل هناك من يرى أن التفكيكية انعزلت عن الممارسة السياسية والعلوم الاجتماعية، كما أن إليس "يشك في التمييز الدريدي الأساسي بين الكلام والكتابة، ويلح على استحالة البرهان على أولوية الكلمة المكتوبة"16.

ثم إن التفكيكية بالغت في القول بموت المؤلف، وعدم ثبات معاني النص مما جعل البعض ينعتها بفلسفة اللإنسانية، ثم إن الفكرة القائمة على غياب المركز المرجعي للنص كانت من بين أقوى الانتقادات التي وجهت للتفكيكية.
 

خلاصة

إذا كانت المناهج السياقية قد حامت حول النص دون النظر إليه من الداخل، رابطة اكتشافه بسياقاته التاريخية والاجتماعية والنفسية؛ فإن المناهج النسقية قد ركزت أساساً على النص من الداخل رافضةً النظر إليه من خلال السياق الذي أنتج فيه.
ثم إن إحالة النص على مرحلة ما بعد الحداثة، كما يحلو للبعض أن ينعت مرحلة ما بعد البنيوية، أدى إلى ظهور مصطلحات من مثل: التأويل، التفكيك، التاريخ، الإرجاء، الاختلاف، الكتابة، موت المؤلف...، وهي مصطلحات رأى فيها البعض أن التفكيكية موغلة في الغموض والتعقيد.


الهوامش: 1. مجمع اللغة العربية المعجم الوسيط، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة (2008)، ط4، ص: 698. | 2. تحرير وترجمة د حسام نايل، تصدير د محمد بدوي جاك دريدا، بول دو مان، وآخرون-مداخل إلى التفكيك (البلاغة المعاصرة)، الهيئة المصرية العامة للكتاب (2013). ط1، ص: 257. | 3. علي حرب، هكذا أقرأ ما بعد التفكيك، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، (2005)، ط1، ص: 26. | 4. المرجع نفسه، ص: 26. | 5. عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، سلسلة عالم المعرفة، عدد 232 (إبريل 1998)، ص: 287. | 6. المرجع نفسه، ص: 287. | 7. تحرير وترجمة د حسام نايل، تصدير د محمد بدوي، جاك دريدا، بول دو مان، وآخرون-مداخل إلى التفكيك (البلاغة المعاصرة)، الهيئة المصرية العامة للكتاب (2013). ط 1، ص: 257. | 8. عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، سلسلة عالم المعرفة، عدد 232 (إبريل 1998)، ص: 286. | 9. تحرير وترجمة د حسام نايل، تصدير د محمد بدوي، جاك دريدا، بول دو مان، وآخرون-مداخل إلى التفكيك (البلاغة المعاصرة)، الهيئة المصرية العامة للكتاب (2013). ط 1، ص: 257. | 10. عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، سلسلة عالم المعرفة، عدد 232 (إبريل 1998)، ص: 286. | 11. د. علي حرب، هكذا أقرأ ما بعد التفكيك، المؤسسة العربية للدراسات والنشر (2005)، ط1، ص: 289. | 12. بيير زيما، تعريب أسامة الحاج، التفكيكية دراسة نقدية، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع (1996)، ط1، ص: 157. | 13. عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، سلسلة عالم المعرفة، عدد 232(إبريل 1998)، ص: 321. | 14. الدكتور محمد عناني، المصطلحات الأدبية الحديثة دراسة ومعجم انجليزي –عربي، الشركة المصرية العالمية للنشر، (2003)، ط3، ص: 148. | 15. د. علي حرب، هكذا أقرأ ما بعد التفكيك، المؤسسة العربية للدراسات والنشر (2005)، ط1، ص: 289. | 16. بيير زيما، تعريب أسامة الحاج، التفكيكية دراسة نقدية، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع (1996)، ط1، ص: 164.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها