حلُمٌ تحتَ الوِسَادة

عائشة بناني


الفرح والأسى قد يجتمعان معاً حينها قد تصبح على وشك الاختناق ببطء، بغيمة كثيفة تجثم على صدرك، وتدخل أنفك، وتصيبك بالارتباك من الداخل... ذاك الحلم الذي تضعه جانباً تخفيه حتى عن نفسك لتعود إليه كلما أطفأت الأنوار، واستسلم جسمك أخيراً للسرير؛ تحدث نفسك به قليلاً لينعشك قبل النوم، ثم تعيده تحت وسادتك كل ليلة، لا تنتظر قط أن يتحقق، ولا تطمع في أن يخرج للوجود، وحين يطفو للسطح لا تستطيع أن تسعد به خوفاً عليه منك...

الآن لا تدري كيف انزلقت في الهوة السحيقة بين الصحو والنوم، لتعتصر قلبها قبضة من رجاء حذر وتضطرب أنفاسها كما يضطرب الندف الثلجي تحت ريح الشتاء القارس...

حامل وفي الخمسينات.. حلمٌ كانت تراه بعيداً ولا تتوقع أن يتحقق؛ هل عليها أن تستمتع به أم تخافه؟ بعض الأمنيات تتمنى لو أنها ظلت على الرف ترعبك إن هي تحققت، ظلت لوقت طويل أسيرة لألسنة المجتمع، عانس حين تأخرت عن الزواج، عاقر حين تأخرت عن الإنجاب، مجرمة إن تمكنت من الإنجاب بعد سن الخمسين... سترتكب جرماً في حق طفل بريء إن هي أنجبت في هذا السن، هذا ما سمعته خلسة من وراء الباب في حديث لجيرانها، بعدما أصبح حملها وجبة دسمة لثرثراتهن اليومية...

كانت فرحة بحملها حتى في هذا الزمن المعطوب، لم تكن لترغب أن تجعل حديثهن يعكّر عليها فرحتها، أو تحبس رجاءها في جسد منهك بسببهن، لكن ماذا لو كان كلامهن صحيحاً؟ هل ستستطيع أن تفي هذا الصغير حقه من العناية وقد أنهكتها سنوات انتظاره؟ ألا يكفي أنها رغماً عن عقلها تزوجت منه وهو يصغرها سناً بكثير، كان عقله ناضجاً بما يكفي ليقنع -وهو ابن الثانية والثلاثين- عانساً في الخامسة والأربعين للزواج منه، الجميع عارض زواجهما القريب والغريب بما في ذلك قطط الحي أيضاً، حتى إن العالم كلّه لربما غضب عليهما، واجتاحه بعد ذلك وباء قاتل ذهب بالعديد من الأرواح.. ما زالت لا تصدق نفسها أنهما تحت سقف واحد في انتظار طفل سيأتي قريباً لهذا العالم؛ لكأنها تعيش قصة من قصص ألف ليلة وليلة، أو لعلّها حقّاً بطلة لتلك القصص التي تحكيها الجدات لأحفادهن قبل النوم، وتراود مخيلة الصغار وهم نيام، وتحلم الفتيات أن تصبحن سندريلا، هل ستكون قصتها شبيهة لواحدة منهن؟

اجتمعت المشاعر بداخلها كما تجتمع الزهور في آنية واحدة لتموت معاً، لكنها لا تريد لبعضها أن تذبل، ولا تدري أيها ستعتني بها أكثر. الطريق أمامها مفروش بالورود أكثر وهذا ما يخيفها، زوج شاب يعشقها، جنين بداخلها لطالما تمنت أن تجد زوجاً يرعاها ويقدرها أن تصبح أماً، أن تهدهد سرير طفل، أن تأخذه بين ذراعيها وتحضنه، وتدفن وجهها في صدره، وهاهي أحلامها تتحقق تِباعاً، وبالجملة كأنها تتسابق لحضور حفلة.

علمتها الأيام ألا تسعد بما تراه بل بما تحس به، والآن اجتمعت السعادة بين يديها تراها وتحس بها، وهذا ما يرعبها أن تنتظر ماذا بعد؟ أخبرتها الطبيبة أن حملها طبيعي، فقط عليها أن تظل تحت المراقبة طوال فترة الحمل، حتى لا تحدث هناك مضاعفات غير متوقعة، هي تلتزم بكل ما يطلب منها وهو بجانبها في كل خطواتها، بل تكاد الفرحة لا تسعه، لم يكن ينتظر أن يرزق بمولود منها، يعلم أن ظروف حصول حمل لها كان ضعيفاً، لكن الله لم يرد أن يحرمه من أن يكون له طفل من المرأة التي صارع العالم لتكون إلى جواره، رغم استهزاء أصدقائه به وزملائه في العمل وهم ينكتون عليه، لكنه لم يهتم قط، يعلم أنه حين سيعود للمنزل سيجد العزاء في وجودها، والحكمة في حديثها، لطالما راق له عقلها الناضج، وحواراتها التي تغنيه عن تصفح الهاتف، والعيش في عالم افتراضي كباقي زملائه؛ يعلم أنها لم تتزوج ليس لعيب فيها، بل لأنه لا أحد استطاع أن يلج قلبها وعقلها معاً، ولأنها تتمتع بشخصية قوية تجعل أغلب الرجال يترددون في الارتباط بها، أما هو فقد وجد فيها نصفه الآخر، لم يهتم أبداً لفارق السن الكبير بينهما، فهو وإن بدا أصغر سِنّاً فعقله كبير بما فيه الكفاية ليكون نداً لها، وهي بحجمها وشكلها الضئيل لا تجعل الفارق واضحاً للعيان، وهكذا انتهت قصتهما الأسطورية بأن تصبح حقيقة في مجتمع يحارب كل ما لا يستطيع أن يحققه.

حملها وصل لمرحلته الأخيرة، وقد خشيت الطبيبة على حياتها بعدما ارتفع ضغط دمها بطريقة مفاجأة، لم تخف الطبيبة قلقها، وبأنها ستضطر لإجراء عملية قيصرية لها حتى لا تجعلها تبذل مجهوداً أثناء الوضع قد يودي بحياتها وحياة الجنين أيضاً.

الأيام القادمة كانت حرجة للزوجين، بات زوجها لا يفارقها ويخشى عليها أكثر أن يفقدها، أن يفقد حلم حياته، أما هي فلم تتفاجأ كانت تعلم في قرارة نفسها أن السعادة التي اجتمعت لها، كانت إنذاراً لما سيأتي لم تستطع أن تفك رموزه، الموت ليس معدياً لكن مع ذلك سنموت جميعاً، هي لا تخشى الموت لكنها تريد لطفلتها أن تحيا، تعلم أنها فتاة أخبرتها الطبيبة بذلك، ورجتها أن تعمل كل ما في وسعها لتنقذ الطفلة أولاً إذا ما تعقدت الأمور، وأخذت منها وعداً بذلك، ومن زوجها ليعتني بها وسط حقل من الدموع والأحضان، وهي تودعه لتدخل قاعة العمليات.

حين غادرت الطبيبة قاعة العمليات، وهي مستبشرة لتنقل النبأ السعيد، التقت به في البهو يجري به المسعفون على حمالة الإسعاف، والدم ينزف منه بعد تعرضه لحادثة سير مميتة في الشارع أمام المستشفى... تذكرت آخر ما كان يردده وهي تدخل زوجته لغرفة الولادة يا رب اجعلها تعيش وخذني مكانها.. أما كان الأولى له أن يقول: يا رب اجعلنا نعيش؛ لماذا نطلب من الله شيئاً وكأننا نقايضه ببديل آخر، طردت هذه الأفكار من ذهنها، وأكملت طريقها في صمت..

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها