من الإيديولوجيا إلى الميديولوجيا

نهاية التاريخ وبداية عصر الميديا

عبد الصمد زهور

تعتبر أطروحة نهاية التاريخ التي صاغها فرانسيس فوكوياما Fukuyama Francis حدثاً فكرياً ضخماً عرفته ناهية القرن العشرين، كتعبير عن حدث سياسي واقتصادي أضخم، تمثل في سقوط البديل الاشتراكي الذي تغنت به الكثير من الشعوب لفترات من الزمن. فقد كانت نهاية التاريخ كما تصورها فوكوياما إعلاناً عن موت الاشتراكية لصالح حياة الليبرالية الرأسمالية. الشيء الذي يُمثل انتقالاً من الإيديولوجيا إلى الميديولوجيا، حيث انصب الاهتمام بشكل كلي على الاستعمال المغرض لوسائل الاتصال كماً وكيفاً، خبراً وصورةً، حتى تكون هي الفاعل الرئيس على جعل الإنسان ببعد واحد، هو البعد الليبرالي (الرأسمالي/ الاستهلاكي).


تمثل الحدث الأكبر في نهاية القرن العشرين بتعبير فوكوياما في انهيار الانقسام الدولي الذي كان يجد سنده في الصراع الإيديولوجي بين القطب الاشتراكي والقطب الرأسمالي، وهو الحدث الذي انعكس وقعه على مجالات مختلفة، بحيث تجاوز المجال السياسي، ليسهم في انتشار ثقافة الاستهلاك والفرجة الغربيتين، وهي الثقافة التي أعطت نفساً جديداً لتقنيات الإعلام والاتصال، بأن حورت مهامها، فجعلت من الإعلام تعبيراً خفياً عن الحذر من قيام جديد محتمل للبديل الإيديولوجي المنهار، وجعلت من الاتصال إعلاناً ودعايةً، بشكل يشي بالأبعاد الفكرية الاقتصادية والسياسية لأطروحة نهاية التاريخ.

حققت الليبرالية الاقتصادية والسياسية انتصاراً ساحقاً بفعل التدليك الذي اعتمدته وسائل الاتصال، ذات المنشأ الغربي الرأسمالي على الفكر والثقافة الإنسانية. هذا الاستعمال المُدَلك أدى إلى ولادتها ولادة جديدة بعد تحقق المراد. فلم يعد هناك ما يحد من هيمنتها المطلقة، خصوصاً أنها بتعبير جيل دولوز Gilles Deleuze تعبر عن ثقافة السوق وتعكس هيمنة كوجيطو السلعة. مما يجعلنا نعتقد مع فوكوياما أن ما نشاهده عبارة عن نهاية للتاريخ؛ أي للتطور الإيديولوجي للبشرية، بحيث ستنحوا منحى الليبرالية الغربية كشكل نهائي للسلطة.

على هذا الأساس ترى البشرية اليوم أن الديمقراطية الليبرالية هي أحسن نظام سياسي بلغته الإنسانية، فهو الأكثر تطوراً وعدلاً مقارنة بغيره، بحكم تمكنه من تجاوز أعطاب الإيديولوجيات السابقة، وعليه تعتبر مبادئ الديمقراطية الليبرالية نهاية فعلية للتاريخ.

إن الحديث عن نهاية التاريخ بشر به كل من فردريك هيغل Friedrich Hegel وكارل ماركس Karl Marx قبل فوكوياما. هذا الأخير لا يجد حرجاً في الإشارة إلى ذلك، فماركس وهيغل حسبه يعتقدان أن تطور المجتمع البشري لا يمكن أن يكون لا نهائياً، فقد وصل المفكران معاً إلى نهاية التاريخ، الذي تجل من خلال الدولة الليبرالية بالنسبة لهيغل، والمجتمع الاشتراكي بالنسبة لماركس.

لقد أكد هيغل في (فينومينولوجيا الروح) أن معركة يينا، التي حملت معها مبادئ الثورة الفرنسية شكلت نهاية التاريخ، فالدولة التي تظهر آخر التاريخ هي ليبرالية بالقدر الذي تعترف فيه وتقوم بحماية حق الإنسان بالحرية بوساطة نظام من القوانين، وهي ديمقراطية بقدر ما يرتبط وجودها برضا المحكومين.

عكس هيغل رأى ماركس أن جدل هذا الأخير الذي أسس عليه نتائجه جدل مقلوب؛ إذ ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، وإنما وجودهم الاجتماعي والاقتصادي (المادي) هو الذي يحدد وعيهم. فقد رد ماركس البنية الفوقية (الدين، الثقافة، الفن وحتى الفلسفة) إلى البنية التحتية، وآمن كما هيغل بأن التاريخ له نهاية، لكنها ليست بليبرالية تتغنى بالحرية الجوفاء، بل نهاية شيوعية تُحَلُ فيها جميع التناقضات التي تنخر جسد الاقتصاد الرأسمالي، وتؤدي إلى أزمات يكون وقعها على البشرية مهولاً. رأى فوكوياما وهو يتحدث عن ماركس أن تصوره شكل دعامة لمؤلف بول كينيدي Paul Kennedy (صعود القوى العظمى وانهيارها The raise and Fall The Great powers )، حيث عرف هذا الكتاب نجاحاً كبيراً، وقد أرجع فيه المؤلف انحطاط القوى العظمى إلى التوسع الاقتصادي المفرط.

ينتصر فوكوياما في استحضاره لكل من ماركس وهيغل لهذا الأخير عبر كوجيف Alexandre Kojève الذي يؤكد بأن نهاية التاريخ تعني أن التطور الإيديولوجي للإنسانية اكتمل مع مثل الثورتين الأمريكية والفرنسية، وحتى لو كانت بعض الأنظمة لم تتوصل بعد إلى تطبيق هذه المثل، فالحقيقة النظرية لهذه المثل أنها مطلقة ولا يمكن تجاوزها، فهي تعبر عن أرقى أنموذج قيمي وسياسي يمكن أن يبلغه العقل السياسي الإنساني.

كأني بفوكوياما يردنا إلى النقاش الفلسفي الكلاسيكي الذي يهم علاقة الفكر بالممارسة، أو علاقة النظر بالعمل، في حديثه عن مبادئ الديمقراطية الليبرالية، وكأنه يماثل بين الديمقراطية الليبرالية، وواقع تقنيات الإعلام والاتصال التي كانت بدايات أغلبها بدايات تحررية، ساعية إلى توسيع نطاق الحرية والتأمين الفعلي للإعلام والاتصال، وما زالت تتغنى بذلك إلى الآن، غير أن واقع الحال يكشف العكس.

إن الدليل على كون الديمقراطية الليبرالية كمبادئ وكنظام سياسي واقتصادي نهائي، هو فشل كل الإيديولوجيات والتحديات التي واجهتها، كان آخرها خلال القرن العشرين تحدي الفاشية وتحدي الشيوعية، حيث انتقدتا واقع الطبقية واللامساواة المرافقة للنظام الديمقراطي الليبرالي، لكن فوكوياما يذهب إلى أن مسألة الطبقية قد حُلت في الغرب، وأن الأسباب العميقة للامساواة الاقتصادية لا علاقة لها بالبنية القانونية والاجتماعية، التي تبقى في أساسها قائمة على مبدأ المساواة والتوزيع العادل للثروة بما يتناسب مع الجهد والإبداعية الفردية.

لو لم تكن هذه الأنظمة كذلك لما حققت هذا النجاح الذي حققته، والذي برهنت عليه من خلال إعلان انهيار الاتحاد السوفياتي من طرف ميخائيل غرباتشوف وتحوله نحو الاقتصاد الرأسمالي، وهو ما كان بمثابة ضربة قاتلة للماركسية اللينينية لم تقم لها بعد ذلك قائمة. بالإضافة إلى إدخال الصين الاشتراكية إلى عناصر رأسمالية متعلقة بالاستهلاك، بدونها لم تكن لتقف على رجليها، هذا دون أن ننسى كذلك مساهمة اليابان للتاريخ العالمي بعد أن سار على خطى الولايات المتحدة الأمريكية في خلق ثقافة استهلاك عالمية بالفعل؛ إذ أصبحت هذه الثقافة رمزاً لها.

إن مربط الفرس بالنسبة إلينا هو البعد الاقتصادي الذي تفتحنا عليه أطروحة نهاية التاريخ لفوكوياما. كأطروحة فكرية وسياسية لها أبعاد اقتصادية واجتماعية. البعد الاقتصادي المذكور يعكس بشكل مباشر طبيعة الحضور التي طُبعت بها وسائل الاتصال خصوصاً في نهاية القرن العشرين. لقد أصبحت هذه التقنيات مطلقة الحضور، خصوصاً في البلدان التي تحولت إلى النظام الاقتصادي الليبرالي والبلدان التي كانت سائرة على نهج التحول، وقد سُخرت هذه التقنيات من طرف الاقتصاديات الليبرالية لنشر ثقافة الاستهلاك، حيث يؤكد فوكوياما أن الرغبة في دخول مجتمع الاستهلاك لعبت دوراً حاسماً في توسيع الليبرالية الاقتصادية في آسيا، وبالتالي ترجيح الليبرالية السياسية. هذه الأخيرة التي روج لها ويروج لها إعلامياً، وكأني بها مثبتة لذلك لأجل ضرب إمكانية قيام أي بديل إيديولوجي جديد، خصوصاً وأن فوكوياما يقول بوجود تناقضات جديدة بعد نهاية التاريخ، الحديث هنا عن تناقض الدين والقومية. فغير بعيد عن فوكوياما نجد مواطنه صامويل هانتنغتون Samuel Huntington يتحدث عن صدام محتمل للحضارات، وقد لقيت هذه الأطروحة نفسها صدى واسعاً.

إن النقلة النوعية التي عرفتها وسائل الاتصال على مستوى التصنيع والتجديد، كما على مستوى الدور والمهام المنوطة بها انعكاس مباشر لبزوغ الديمقراطية الليبرالية اقتصادياً وسياسياً؛ أي أنها انعكاس مباشر لنهاية التاريخ، التي لا يكون فيها حضورٌ لغير ثقافة الاستهلاك، التي لا يمكن أن يؤمنها غير الاتصال بوصفه إعلاناً، ولمبادئ الحرية والمنافسة والاختيار الحر، التي تؤمنها سياسياً الأخبار التي تنطلق من المواثيق والقوانين الدولية ذات المرجعية الليبرالية كسند لها.

لقد تزامن تحول الاتصال إلى إعلان، والإعلام إلى سيطرة مع نهاية التاريخ، فكانت تقنيات الإعلام والاتصال بداية لتاريخ آخر، إذا ما أخد التاريخ كصيرورة وسيرورة لا تترك صغيرة ولا كبيرة إلا وتحتويها. وهذا انتقاد من أبرز الانتقادات الموجهة لفوكوياما نفسه بخصوص تصوره لمفهوم التاريخ.

هذا الاستنتاج الذي خلصنا إليه يؤكده فوكوياما عندما يقول: بأن المعركة الإيديولوجية سوف تستبدل بالحساب الاقتصادي، وبالطلب غير المحدود لحلول التقنية، وبالاتهامات المتعلقة بالبيئة وإرضاء الرغبات المتزايدة للمستهلكين، وهو ما نلمسه اليوم بشكل قوي جدّاً.

كل هذا دليل مباشر على كون المرجع التاريخي الأكبر الذي احتلت فيه تقنيات الإعلام والاتصال الصدارة، هو سياق نهاية التاريخ بأبعاده الفكرية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ إذ لا يمكن لأي قراءة سليمة تصبو إلى القيام بتشخيص فلسفي عميق لهذه التقنيات، أن تكون فعلاً عميقة دون أن تأخذه بعين الاعتبار.

وجب إذن؛ التدقيق في أبعاده المختلفة وكيفية انعكاسها عبر وسائل الاتصال سياسياً وفكرياً عبر الإعلام، واقتصادياً واجتماعياً عبر الاتصال (الإعلان). فلم تعد هذه التقنيات على خلفية الاحتكار الذي تمارسه دول الشمال لها، تبشر بغير ما أثبتته أطروحة نهاية التاريخ بكيفيات مختلفة وبواسطة آليات الإغراء، والصخب، والنجاعة، والإعلان، والدعاية، والإشهار عبر الصوت والصورة، وصناعة الثقافة.

ينعكس كل هذا على الإنسان فيحد من اختياراته وأبعاده، ولا يتركه إلا ببعد واحد تمثله ثقافة الفرجة والاستهلاك وما يرافقها من روتينية ورتابة. كان هذا الواقع الذي انطبعت به وسائل الاتصال، ممتثلة بذلك مقومات الاقتصاد الرأسمالي والمجتمع الاستهلاكي، دافعاً لفوكوياما لكي يعلن في آخر مقالته، على أنه: قد تكون عصور الملل التي تنتظرنا بعد نهاية التاريخ هي الدافع لجعل التاريخ يتحرك من جديد.

 


المراجع
 Fukuyama, Francis, La fin de l’histoire et le dernier homme, Traduit de l’anglais par Denis- Armand Canal, Flammarion
فوكوياما، فرانسيس، "نهاية التاريخ"، ترجمة فؤاد شاهين، مجلة الفكر العربي المعاصر، (العدد 82- 83)، تشرين 2/ كانون 1، 1990، تشرين 2/ كانون 1، 1990.
للاطلاع على أبرز الانتقادات الموجهة لأطروحة نهاية التاريخ لفوكوياما يمكن الرجوع إلى ملف (نهاية التاريخ والأمركة)، الذي يتضمنه العدد المزدوج (82- 83) من مجلة الفكر العربي المعاصر الصادرة عن مركز الإنماء القومي، حيث يتضمن هذا الملف الخاص بالإضافة إلى المقالة الرئيسة لفوكوياما، ردوداً على هذه الأطروحة. يمكن العودة إلى ردود فوكوياما على هذه الردود ضمن كتابه الرئيس حول نهاية التاريخ والإنسان الأخير.

 

‭ ‬newyorker.com‭ © ‬Illustration by Aude Van Ryn الصورة الرئيسية

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها