يافع.. صرخة التاريخ وانفعال الطبيعة

سعاد الحمودي

من بين الصخور والجبال ينبع الجمال المتوشح بقوالب السحر العجيب للطبيعة المتباينة المعالم، الممتدة الأطراف، فهناك في يافع الأشجار، والشلالات التي تهوي من الأعالي؛ إنها شلالات تتوسط الصخور، والمرتفعات الجبلية، فنرى انبثاقات للطبيعة تنقلك من لوحة إلى لوحة مغايرة، فتظن أن هنالك منافسةً للجمال في معالمه المغايرة للتصور الذهني، وإبداعات للمناظر الخلابة في صورة الشلالات والأنهار والأشجار.. ما بين الجبال التي تدور في امتزاج عجيب، وسحر غريب يدهشك، فالطبيعة هنا تأبى إلا أن تفاجئك بانفعالاتها الجمالية؛ وكأنك تستمع إليها كفن قوي الصرخات يعلن للوجود أنني أنا يافع أصدح من صدى التاريخ في نمطي الفريد المتألق.


فيافع التي تصنف كإقليم يحتل مساحة شاسعة من محافظتي لحج، وأبين المترامية الأطراف، حيث تقع يافع في شمال شرق محافظة لحج، وشمال أبين، وتشكل نموذجاً مصغراً لسطح اليمن العام، فتحدها محافظة البيضاء من جهة الشمال، ومن الشرق تحدها مديرية مكيراس أو لودر، وتحدها من الغرب محافظة الضالع ومديريتي بني ذبيان وحالمين، ويحدها ساحل البحر الأحمر من جهة الجنوب، وتتميز بتضاريس، وجغرافيا شديدة الوعورة، حيث تنقسم في طبيعتها إلى ثلاثة أقسام متباينة تجمع بين الجبل، والوادي، والهضبة، والساحل لتشكل لنا "يافع" التي تترابط فيما بينها بسلسلة جبلية موزعة الاتجاهات، ومناخ بارد قارس، ومدن وقرى تتناثر على سفوح الجبال، فمن جهة الشمال تبرز منطقة الهضبة، وهي امتداد لهضبة اليمن من جهة البيضاء. ورغم صغر مساحة منطقة الهضبة نسبياً إلا أنها تضم في إطارها أهم المواقع، والقرى الكبيرة في يافع كما أنها تمثل أكثر المواقع ارتفاعاً في يافع، ومنها جبل ثمر الذي يصل ارتفاعه إلى حوالي 3200 متر عن سطح البحر، ويتميز مناخ تلك المنطقة بالبرودة شتاءً وبالاعتدال صيفاً، وانخفاض معدل المطر سنوياً. وتلي منطقة الهضبة المنطقة الجبلية الوسطى، ويقل ارتفاعها كلما اتجهنا جنوباً امتداداً إلى منطقة الساحل، وهي ذات سطح جغرافي شديد الانحدار، والوعورة تتخللها الجبال الكثيرة، والأودية الضيقة التي تحوي العديد من الينابيع، وتتميز المنطقة الجبلية بمعدلات أمطار سنوية بشكل أفضل، ومن ثم نأتي لأكبر المناطق مساحةً، وهي المنطقة الساحلية التي تتميز بخصوبة تربتها، وتقع في المنطقة الممتدة بين مصب وادي بنا، وساحل البحر الأحمر.

يافع.. مشهد الصمود على الحافة

جمال يمتزج مع قصة صمود في تلك المناطق الوعرة شديدة الانحدار يقف على حافتها سكانها بهدوء، وسكينة خالية من الخوف، والفزع، وقد تأقلموا مع طبيعتهم وأصبحوا جزءاً منها بل إنهم بنوا بيوتهم، ومنازلهم، وقراهم في قمم الجبال، ومنحدراتها في ثقة وتحد، بيوت بنيت من الصخر وعلى الصخر، في إرادة قوية للبقاء فتراها العين شامخةً كشموخ الجبال، وكأنها نبتت على صخورها، وقد كانت مغروسة هناك من الأزل، وعلى صوت المزمار اليافعي وأنغامه الأصيلة تسمعها فتعيدك إلى أصالة التاريخ الصادح بصرخات الإباء والاعتزاز، بصدها الممتد على شواخص الجبال، جبال خضراء تطل عى بعضها البعض ينادي سكانها بعضهم البعض بصوتهم الجهوري القوي المعروف بصوت اليافعي، وبلكنتهم التي امتزجت ببلاغة التاريخ، فالصوت اليافعي هو من القوة بمكان وهو يترجم النداءات المتتالية لبعضهم البعض على الجبال وصداهم الذي يستمعون له، وقد أضفى بقوته، وعلوه على التاريخ الذي ينتمون إليه، ولعل تلك القوة التي تميز بها سكان يافع يأتي سرها الدفين من القوة الجلدة التي تميزت به نساؤهم، فقد كانت تحكي الجدات هناك كيف أنها قد تلد وليدها في أثناء عملها في الحقل، وقد تكون لوحدها تحطب الحطب فترجع إلى بيتها، وقد حملت وليدها في يدها، والحطب على ظهرها، فتعلن للعالم بأن قوة الوليد من قوة أمه الصابرة القوية، وبهذا نجد أن المرأة اليافعية يافعة على الدوام فما تقوم به من دور داخل المنزل وخارجه، وقوة صلابتها تجعلك في حيرة، وهو ما يفسر قوة نسلها في مواجهة الظروف، والأحداث.

فيافع التي تتناسق في تصاعد مدهش فوق الجبال، وتنحت من الصخر بيوتها التي تبدو كأنها منبثقة من الجبال التي بنيت فوقها، وفي وعورة طرق البيوت التي ترتص في مرتفعات أعالي الجبال لتعطي لسكانها قوة التحدي للعيش في أي ظرف كان، وفي أي نمط هم فيه، تجعل من اليافعيين يبدون في أفكارهم، وحياتهم، وصلابة تحدياتهم في صراع قوي مع الطبيعة، وتذليل طرقها للوصول للعيش الكريم المستقر، فهم كالبدور النابتة ما بين الصخور التي تظل تحتفظ بإرادتها اليافعة الفتية في داخلها مهما طالت عليها السنين، وتكالبت عليها الصعاب.

البيت اليافعي

على أطراف المنطقة الجرافية ليافع تبدو البيوت في طراز خارجي ينتمي إلى التاريخ بتصميمه الذي انسجم مع بيئته، ومحيطه فلا تكاد تجزم أن هناك فرقاً بينها، وبين الجبال التي بنيت عليها، فيبدو البيت اليافعي من الخارج كأنه قصر قديم انبعث من التاريخ التي يعتز به سكانها، وما إن تبدأ بالدخول إلى شرفاته حتى تتبدى لك عوامل الحضارة فيه، والتناسق، والترتيب، والمساحات المستغلة بشكل مدروس فتلك (الهدة)، وهي سرير صنع في أسفله دواليب. والخزانات منحوتة على الجدار حتى لا تأخذ من مساحة الدار، تفاصيل زادت من جمال التصميم ما جعل البناء اليافعي يحظى باهتمام احتفالات اليمن كإحدى البنايات التي يقتبس منها الزوار الرقي في التصميم الداخلي، والأصالة في خيوطها البيضاء والأحزمة التي ترتسم على واجهاته الخارجية، فنموذج البناء اليافعي من أرقى العمارة في الجزيرة العربية، ولعل ما يتفرد به بناء البيت اليافعي أنه يتم عادة البناء مباشرة فوق صخور صلبة فلا يتم الحفر للأساسات.

فالصخور التي تبنى عليها تكون واضحة على سطح الأرضية التي يبنى عليها، ومن ثم يبدأ البناء بأحجار مختلفة الحجم تستخرج من نوع معين من الصخور تسمى (مناقيش)، كانت تُحمل قديماً على ظهور الجمال، أو الحمير، وبقي الحال كذلك في بعض مناطق يافع الجبلية الوعرة، التي لم يتم فيها شق الطرقات.

وارتفاع البيوت في يافع يبلغ من دورين فأكثر، وكانت سابقاً لا تتجاوز الغرفتين في الدور الواحد إحداهما كبيرة وتسمى (مفرش أو ديوان)، والأخرى صغيرة، وبجانبها السلم أو (الدرج) المؤدي إلى الأدوار العلوية، وفي العقود الأخيرة تزايد عددها من الثلاث إلى ست غرف في كل دور، فالبيت اليافعي المبني من الصخور الصلبة المقطوعة من الجبال دون استخدام للطوب أصبح متميزاً بارتفاع طبقاته التي تتجاوز أحياناً العشر طبقات، ويفصل بين كل طابق خط أبيض يزيد من روعة البيت، ويضفي عليه تفاصيل الجمال الموجود في سكان يافع، وانعكاسه على بيوتهم، ويتوج البيت من الأعلى بما يسمى (تشاريف أو تشريفات)، وهو بناء يشبه التاج ملوناً غالباً باللون الأبيض الناصع البهي الذي يضفي عراقة التاريخ، وشموخ الطابع البنائي كأنه تتويجٌ للبناء الشامخ، وتشريف له، وهدية لصانعيه، فالتشريفات ترمز إلى عدة معان، قد ترمز للدلالة على أن المكان انتهى بناؤه من بقية الأدوار المحددة، وقد ترمز للتمييز بأن صاحب البيت يحتفي، ويتشرف باستقبال العديد من الزائرين إليه.

فنرى أن البيت اليافعي جامعاً بين الحداثة والأصالة، ضارباً في التاريخ بشكله الأصيل ذي النمط الحميري، وشاخصاً إلى المستقبل في حداثة التقسيم الداخلي والأثاث، ونجد ونحن نتجول في أنحاء يافع بأننا في متحفٍ أثري حي في شموخه، وأصالته، وفنه المعماري، وخبرة هندسية في البناء توارثها أجيالها، واعتزوا بها، وأضافوا إليها ما تراكم لديهم من التطور الحضاري عبر السنين.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها