مفهوم الغيرية في الزمن الصوفي؟!

البحث عن أحياز المطلق

د. مصطفى العطار

يتعالى مفهوم الزمن الصوفي على التقسيم والتحديد والتقييس؛ لأنه زمن من خارج الفيزياء ومن داخل المطلق الذي لا بداية له ولا نهاية، هو زمن مفتوح وغير قابل للتعريف، وهو هروب من المنفى الزمني إلى لحظة القبض على الزمن واسترداد الذات من غربتها لمعانقة الأبدية في حضن المطلق والإقامة فيه، وذلك فوق الزمن المقدر بالحركة. هي لحظة للوعي بالذات بعد أن تخطفها السوى بما هي لحظة لا تتكرر، وهي اتصال بالزمن الأبدي، وانفصال عن الزمن المؤقت الذي يمكن عده، ههنا، زمن السوى أو زمن اللازمن.



يؤسس النفري لمفهوم الزمن الذي ينقله من صبغته الحسية والوهمية إلى لحظة الحاضر بوصفها الآن الذي يستحق أن يعاش. أما الالتفات إلى الماضي، فرجوع إلى الغيرية وتنكب عن التماس الطريق نحو الأزلية، "والملتفت لا يمشي معي ولا يصلح لمسامرتي"1؛ فمن يلتفت إلى الوراء الزائل ينسى الحال الدائم بطراوته وتجدده وانبجاس الأزلية منه وفيه، ومن يعيش الحال يشهد على ثبات اللحظة وإن اقتلعت من جذور الماضي، والثبات يقين ولحظة صفاء وتصالح مع الأنا السائبة التي وجدت ضالتها في كنف المطلق، واحتجبت عن مطاردة الماضي المثخن بالسوى. أما المتعلق بالآتي؛ فكاذب قلبه، لانشغاله بالسوى، "وقال لي: التمني من كذب القلب. وقال لي: الأماني غرس العدو في كل شيء"2. الأماني تفويت متعة اللحظة بلذتها المطلقة التي تتجاوز اللذة الحسية، وإقحام للشيطان بوصفه أكبر تجل للسوى، والأماني تعلق بالمستحيل والغياب؛ بينما الآن هو التصاق بالممكن والحضور. عودة الماضي هي عودة للخاطر الذي يستثنى منه أهل الحضرة؛ "وقال لي: إن لم تكن من أهل الحضرة جاءك الخاطر"3. الخاطر مدعاة للعودة إلى الوراء واستدعاء الماضي، وأهل الحضرة أهل حاضر وآن، والواقف من أهل الحضرة وخاصتهم، يتنزه عن الماضي الذي يرمز إلى السواد ويتعلق بالحاضر الذي هو سليل البياض وموطن الفراغ؛ حيث يستحيل الزمن الفيزيائي وجداناً نابضاً بمشاعر الحب والعشق والحضرة الإلهية، وقياسه لا يكون إلا بمدى القدرة على توصيف خوالج النفس التي تعتري الواقف في لحظات الوصال مع المطلق. لذلك؛ يكون الماضي عدماً عند النفري إذا التمس الفراغ. وكأنا، ههنا، بصدد ثلاثة أزمنة: زمن الامتلاء الذي يمثله الماضي، وزمن الفراغ الذي يمثله الحاضر، وزمن الكتابة الذي يرتبط بالمستقبل؛ فالأول زمن قبلي أو زمن السوى، والثاني زمن آني أو زمن الوقفة، والثالث زمن بعدي أو زمن الكتابة. والموازنة بين الأزمنة تفضي إلى إعادة تشكيل الزمن الفيزيائي وفق رؤية أنطولوجية تقصي الأول والثالث؛ لأنها سوى، وتحتفظ بالثاني بوصفه زمناً بين ماض فات ومستقبل آت. وفعل الزمن هذا ينحت أخاديده في شخصية النفري، ويزيد من تأجيج النار المشتعل أوراها في دواخله، ليفسح المجال مجدداً لصراع النموذج والنموذج المضاد؛ حيث تعود الفوضى الموجودة في العالم الحسي لاستثارة الذاكرة، مستدعية عناصرها بعدما احتجبت في عالم الرؤية. وهو ما يؤكد أن زمن الوقفة أضحى متحولا بعدما كان ثابتاً، منقطعاً بعدما كان متواصلا؛ فلا ديمومة لزمن الوقفة الذي تتوقف عقاربه بالعروج إلى الزمن الأول.

هكذا يعود النفري إلى زمن ما قبل الوقفة، وذاك ما يجرنا إلى طرح السؤال الآتي: هل تعود تلك الحرارة المتولدة عن الرؤية إلى سابق عهدها؟ أم أنها تفقد حرارتها بالنزول إلى لحظة الماضي المتحدد بالسوى؟

من وجهة نظر علمية؛ الحرارة المتحصلة من لحظة الحاضر/ زمن الوقفة عند انحشارها في لحظة الماضي/ زمن ما قبل الوقفة يعني أنها ستساويها، وستنتشر عشوائياً في المكان الذي توجد فيه. فالطاقة تنتقل من الجسم الأكثر حرارة. ولما كانت الوقفة محكومة بمعاودة ظهور السوى، كانت حرارة الوقفة متعرضة لفقدان الطاقة؛ مما يستدعي من النفري التماسها بالوقوف مجدداً بين يدي المطلق. ولما كان الزمن البيولوجي يسير في اتجاه عمودي لا يقبل الرجوع إلى الوراء، فإنه مع النفري يتخذ بعداً عكسياً؛ لأنه ينتقل فيه من الشيخوخة إلى الشباب، وتتجدد فيه طاقته الروحية ليصبح حياً بعدما كان ميتاً بالغيرية، قريباً بعدما كان بعيداً بالسوى. يقول النفري: "أهل الصبر الذي لا يهرم، والفهم الذي لا يعقم"4.

الصبر الذي لا يهرم والفهم الذي لا يعقم هو معاكسة للتاريخ وزمنه البيولوجي، وانتصار لقوة اللحظة المجتثة من سيرورته وصيرورته، هو صبر لا يهرم وفهم متجدد وولاد، ويحدث أن يشيخا إذا، وفقط إذا، سمحا بالسوى لمعاودة الظهور. الواقف يتحلى بالقوة، والقوة مجاهدة ومكابدة ومعاناة تحقق رسوخاً في الفهم الذي تتناسل منه فهوم أخرى. ولو ظهر السوى لانتفى الفهم وتولد الضعف، وما كان هناك فراغ؛ ومن ثم ما كانت هناك وقفة وانتساب إلى المطلق. ووفق مبدأ العلية Causalité؛ علتا الوقفة هما الفهم والصبر؛ بحيث إن وجود الأول رهين بوجود الثاني. بهذه العلاقة يصبح السوى والفراغ أشبه بالأنا السطحي والأنا العميق -على حد تعبير برغسون5- حيث ينتمي الأول إلى عالم المادة، ويمثل الثاني عالم الروح.

القرب والبعد مفهومان لا يتحققان فيزيائياً، ويثبتان قلبياً، ودرجة تحققهما ومعرفتهما من قبل الواقف تبقى نسبية؛ "وقال لي: لا بُعدي عرفت، ولا قُربي عرفت، ولا وصفي كما وصفي عرفت"6. وإذا كان البعد يبعدك عن تمثل الشيء والقدرة على وصفه، والقرب يقربك من معرفة ماهية الشيء وحقيقته؛ فإن القرب والبعد كلاهما قاصر عن معرفة الخالق وإدراك صفاته؛ لأنهما يستنجدان بالحواس العاجزة عن الرؤية القلبية الحقة، وتجريدها من السوى هو ما يضمن لها إدراك المطلق إدراكاً بلا شيء. يقول خالد بلقاسم: "ومن ثم فإن هذا الإدراك لا يستقيم إلا بتحرير الحواس، كي يتسنى للواقف أن يسمع بالمطلق ومنه، وأن يرى به. إنه الإدراك بالقوة، على حد تعبير النفري، ما دام الفراغ قوة كما تقدم"7. الإدراك بلا شيء هو إدراك بالفراغ بعد التحرر المطلق؛ ومن ثم، فهو إدراك بالمطلق.

أما زمن الكتابة فلحظة تشهد على تجذر السوى في عمق التجربة الصوفية عند النفري، يعاود معه الحرف الظهور، وينتفي ذلك الجلال الذي ساق الواقف إلى بوابة المطلق، ويقرر معه النفري النطق بعد الصمت، وملء الذاكرة بعد إفراغها عنوة، في تأكيد على لا ديمومة الرؤية إذا خالطها الحرف.

المكان بوصفه مظهراً للغيرية.. البحث عن أحياز المطلق

لما كان السوى في مواقف النفري عصياً عن الحصر، كان المكان من أشراطه أيضاً. وهو مكان مقتطع من فضائيته الجغرافية ومن مدلوله المعجمي، زاد غموضاً عملية التلقي والتأويل لمفهوم السوى والغيرية؛ جاء في لسان العرب: "المكان، الموضع، والجمع أمكنة كقذال وأقذلة"8، و"المكان، مكان الإنسان وغيره، والجمع أمكنة. لفلان مكانة عند السلطان، أي منزلة، ورجل مكين من قوم مُكناء عند السلطان"9. وإذا كان الزمن غير محصور، فإن المكان يتفلت أيضاً من كل قيد يجعله رهين رقعة متحيزة؛ المكان يضيق بالنفري، يحكم وثاقه عليه، يخنقه ويحد من انطلاقه، وأينما ولى وجهه فثمة حدود وفواصل وسوى، ولا مخرج من سجن المكان الضيق إلا بالسعي نحو الانفلات من قيوده والرهان على المطلق الذي يكون مكانه في تجربة الوقفة بما هي مجاورة بعد فراغ؛ المكان فضاء للصراع مع الأغيار، ومأساة وجودية. ولما كان ذلك كذلك؛ كان المكان "هو السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي"10. لكن المكان عند النفري ليس مجرد سطح باطن مماس لسطح ظاهر، وعلاقة الاحتواء هذه لا تتعدى بعده الفلسفي؛ فيما المكان عند النفري لا تماس فيه عند نقطة تقاطع، تنتفي فيه الجاذبية، ويسري فيه الواقف حتى يصل إلى تخوم المطلق، ويبقى معلقاً بين السماء والأرض، ولكنه قاب قوسين أو أدنى من المطلق، أو على تخومه وحدوده. هذه البينية هي مكان الواقف، هي محضنه الذي يستقبله بعد سفره الطويل وقد انفلت من قوانين نيوتن؛ "وقال لي: ما مني شيء أبعد من شيء، ولا مني شيء أقرب من شيء إلا على حكم إثباتي له في القرب والبعد. وقال لي: البعد تعرفه بالقرب، والقرب تعرفه بالوجود، وأنا الذي لا يرومه القرب، ولا ينتهي إليه الوجود... وقال لي: أنا القريب لا كقرب الشيء من الشيء، وأنا البعيد لا كبعد الشيء من الشيء... وقال لي: القرب الذي تعرفه مسافة، والبعد الذي تعرفه مسافة، وأنا القريب البعيد بلا مسافة"11. لا مسافة في المطلق، وبعد الشي أو قربه لا يقاس بالخطية الزمنية، وإنما بالطاقة الروحية الكامنة في القلب والموجهة لعلاقة القرب والبعد بالمطلق الذي لا يتحدد مرئيه.

المكان المطلق لا يمكن أن يوجد في مكان آخر يحتويه؛ ومن ثم فهو فراغ مطلق. "إنه بمعنى آخر هو المكان الذي لا يسأل بخصوصه (أين هو؟)؛ لأنه هو (الأين) المجردة التي توجد وتسبح فيها كل الموجودات بوصفها (أينات) نسبية اصطلاحية. كما هو شأن الزمان المطلق الذي هو (المتى) المجردة التي توجد فيها كل الموجودات مرتبطة (بمتيات) نسبية اصطلاحية"12. الزمان والمكان المطلقان ما كانا كذلك إلا لكونهما لا يقبلان التقطيع والتجزئة، وهما وجود متواصل غير قابل للتمزق والقيْس، هو الأصل المتبوع الذي يشمل كل الفروع، وهو اللب الذي يحتوي كل الحواشي، والمطلق الذي يضم النسبي، والفضاء الذي لا نهاية له.


الهوامش
1. المواقف، ص: 158. / 2. المواقف، ص: 46. / 3. المواقف، ص: 118. / 4. المواقف، ص: 135. / 5. هنري لويس برغسون: فيلسوف فرنسي (1859-1940). من أشهر مؤلفاته: (الطاقة الروحية- ديمومة وتزامن- الفكر والمتحرك). / 6. المواقف، ص: 2. / 7. بلقاسم خالد: الصوفية والفراغ، ص: 191. / 8. ابن منظور جمال الدين الأنصاري: لسان العرب، دار صادر، بيروت، لبنان، ط 3، 1414هـ، 13/414. / 9. ابن دريد أبو بكر محمد بن الحسن: جمهرة اللغة، تحقيق رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين، ط1، بيروت، لبنان، ط1، 1987، ص: 983.  / 10. الجرجاني الشريف: التعريفات، تحقيق محمد السعيد المنشاوي، دار الفضيلة، مصر، 2004، ص: 191. / 11. المواقف، ص: 2 و3.  / 12. عكنان أسامة يوسف: تجديد الإسلام، دار ورد للنشر والتوزيع، الأردن، ط1، ص: 91.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

مصعب التجاني

. مقال متميز، وكيف لا يكون كذلك وهو من انتاج الدكتور مصطفى العطار أيقونة الجد و الاجتهاد،

9/1/2020 7:10:00 PM

1