أدب الرحلة فـي عصر الرقميات

الارتحال بين مرآة اللغة ومرآة الفيديو

حميد الكتاني

لا شك أن شعوراً قوياً سيصيب المُسافر المعاصر في أرض الله الواسعة وهو يريد أن يكتب رحلته، ويُخلّد مُشاهداته وانطباعاته حول ما رآه في رحلته؛ لأنه يعلم أن العالم أصبح قرية صغيرة بفضل التطور الكبير لتكنولوجيا التواصل التي قرّبت البعيد.. وأيضاً ازدهار صناعة الطيران التي اختزلت زمن السفر إلى أقصى ما يمكن، وألغت بهذا الاختزال فتنة العجيب التي كان يُصوّرها الرّحّالة القديم وهو في طريق رحلته. إن مجرد التفكير في كتابة نص رحلي في زمن الرقميات، وفي عصر السرعة يدفعنا لنتساءل عن موقع أدب الارتحال في منظومة الأدب العربي الرقمي، خاصة أن بعض الأجناس الأدبية الأخرى مثل الرواية بدأت تتبوأ مكانها الرقمي الجديد، وتتلفع بعباءة التكنولوجيا شيئاً فشيئاً.
 

ومن هنا يصبح التساؤل حول مكانة أدب الرحلة الرقمية مشروعاً من حيث الإشكالاتُ التي يثيرها على مستوى تطوره، وعلى مستوى تلقّيه. كيف يتشكل النص الرحلي الرقمي؟ وما الإضافة الأدبية التي سيضيفها الرحّالة المعاصر للحياة الثقافية في زمن الصورة المتحركة، والفيديو العابر للقارات الخمس في ثوانٍ معدودات؟ كيف يمكن للغة أن تُقاسِم قوة الفيديو والصورة في محكي السّفر؟ ما موقع القارئ-المتلقي أمام العناصر الجديدة التي يتكئ عليها أدب الارتحال الرقمي وأصبحت في متناول الرّحالة؟ هذه الأسئلة الإشكالية وغيرها تجعل جنس أدب الرحلة في عصرنا على محك المساءلة النقدية من حيث نوعهُ، ومن حيث تطورهُ ومواكبته لروح العصر. وللإجابة عن هذه الأسئلة، نقترح ثلاثة مداخل نعتقد أنها كفيلة بتقديم تصور عام حول التحولات التي عرفها أدب الارتحال في زمن الرقميات.

1. أدب الرحلة من منظور مواقع التواصل الاجتماعي

لا أحد ينكر اليوم الفعاليّة التأثيرية لمواقع التواصل الاجتماعي في حياة الإنسان المعاصر، إذ أصبحت جزءاً أساسياً من حياته اليومية، منها يستقي الأخبار الرائجة في العالم، وعبر منتدياتها يتواصل مع شعوب ما كان له أن يحلم بالتواصل معها لولاها. بل إن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت فضاءً لتبادل الخبرات والتجارب الإنسانية الرائدة في مجالات مختلفة، وفي هذا السياق لم يكن أدب الارتحال منعزلا عن هذه الثورة التكنلوجية، فظهرت عدّة مجموعات على الفيسبوك تعكس عشق الإنسان للارتحال وارتياد آفاق المجهول في فناء الأرض الواسعة، منها مجموعة (الرَّحّالة)، ومجموعة (Traveller Advisor)، ومجموعة (المسافرون العرب Arab Travellers)، كل هذه المجموعات يتابعها الآلاف من المتابعين الذين يندهشون ويستغربون ما تنشره من غرائب وعجائب يلتقطها الرّحالون وينشرونها عبر هذه المجموعات. لكن المتأمل في المنشورات الرِّحْلية في مواقع التواصل الاجتماعي يقف على جملة من التحولات التي عرفها أدب الارتحال، وأهم هذه التحولات يمكن رصدها من خلال عنصرين، هما: النص الرحلي، وتلقي هذا النص.

فعلى مستوى النص الرحلي، لم يعد من منظور مواقع التواصل الاجتماعي نصاً كلاسيكياً يقوم على مواربة اللغة وأسلوبيتها ومكرها فقط، بل أضيفت له مقومات أخرى لم تكن في متناول الرحالة القديم، وأهمها الصورة الملوّنة، والفيديو، والستوري Story، والسِّلْفِي selfie، والفِلْفِي felfie، وهي عناصر جعلت النص الرِّحْلِي يرقى من أحادية الكتابة القائمة على عنصر اللغة أساساً، إلى ثنائية النصّي والتفاعلي، حيث أصبحت الوقائع والمشاهد والغرائب تُنقل إلى المتلقي عبر هذه الوسائط التي توثق الأحداث لحظة وقوعها صوتاً وصورةً.

أما على مستوى التلقي، فإننا أصبحنا أمام أنواع جدد من القراء، فإذا كان [فولغانغ إيزر Iser] قد تحدثَ عن القارئ الضمني، والقارئ الحقيقي، والقارئ المثالي1 في سياق التفاعل بين النص والقارئ؛ فإن النص الرّحْلي الرقمي تجاوز هذا النوع من القراء الذين يتفاعلون مع الورق بملء الفراغات والفجوات النصية، إلى نوع جديد من القراء يمكن أن يسمى بالقارئ المتصل الذي يمتلك القدرة على النفوذ إلى النص الرحلي الشَّبَكِي، والاستفادة منه، والتفاعل معه في لحظة اتصالٍ وتماهٍ كاملين. فالرحّالة عندما ينقل عبر وسائطه ما يدهشه وما يثير انتباهه؛ فإن القارئ المتصل أيضاً يندهش باندهاش الرحالة، ويُعبّر عن ذلك بأيقونات الإعجاب والدهشة والاستغراب التي تتيحها مواقع التواصل الاجتماعي، كما لو أنه هو الرّحّالةُ نفسهُ، والمسافة الجمالية التي كان يقطعها النص الرحلي الورقي الكلاسيكي من الطباعة إلى يد القارئ، لم تعد موجودة بفعل اختزالها رقمياً. وعليه فإن القارئ المتصل هو بالضرورة متابعٌ للحدث، ومُشارِكٌ له.

2. النص الرِّحْلي بين مرآة اللغة ومرآة الفيديو

يتكئ النص الرحلي العربي القديم على اللغة أساساً، فمنها يستمدُّ أسلوبيتهُ، وعبرهَا تتجسد الطاقة التخييلية للرحالة، وفيها ترتسم عناصر الدهشة والاستغراب التي يشعر بها كاتب الرحلة، فالمرئيات التي يمر بها الرحّالة تتلفع باللغة، وتأخذ أشكالاً وصوراً ما كنّا لنصدّقها لولا الكتابة نفسها؛ فتصوير مسار الرحلة عبر منظار اللغة هو تصوير للواقع الذي يعيشه المُسافر، والرَّحَّالة معذور في هذا؛ لأن اللغة كانت هي العصا الوحيدة التي يتكئ عليها في سرد رحلته. غير أن هذه اللغة تأخذ في بعض الأحيان طابعاً سلبياً، حيث تستأثر بذاكرة الرّحّالة وتدفعه إلى استعراض ذاكرته اللغوية على حساب ما يشاهدهُ في طريق رحلته، مثل رحلة (النفحة المسكية في السفارة التركية) لعلي بن محمد التمكروتي، التي استسلم فيها كاتبها للغة وبلاغتها، فعوض أن يسجّل الرحالة تحوّلات الجغرافيا، وأن يدفع القارئ إلى استشعار الغرابة والاختلاف، يقحمه في بلاغة الطباق والمقابلة والأمثال والأشعار على حساب الغريب والمدهش والفاتن، وتغيب ثقافة الآخر في أتون التنميق.

لكن أدب الارتحال الرقمي المُعاصر اكتسب من خلال أداة الفيديو قدرةً جديدة على نقل وقائع السفر كما هي، ولحظةَ وقوعها مع تعليق صوتي من ذات الرّحّالة، لينتقل أدب الارتحال في زمن الرقميات من هيمنة المرآة اللغوية إلى مرآة الفيديو، أي من ذاكرة اللغة إلى أدوات ألوان التصوير، وفعالية الصوت والصورة.

يأخذ الفيديو في الرحلة الرقمية أشكالاً متنوعة على النقيض من اللغة، تارة تكون مَشَاهد الرحلة غيرية ينقل من خلالها الرحالة التحولات الجغرافية، من المناظر الطبيعة، أو المآثر التاريخية، أو الاحتفالات... وتارة تكون مشاهد الفيديو ذاتية عبر تقنية التصوير الذاتي (felfie) يرصد عبرَهُ مشهداً ذاتياً؛ كأن يؤرخ لوجوده أمام معلمة تاريخية، أو تناول طعام ما. إن الفيديو في الرحلة الرقمية يحاول أن يكون مقوّماً من مقوماتها الفنية، ويعلي من شأن التفاعلية بين المحكي المرآوي والمُتابع المتّصل.
 

3. أدب الارتحال عبر محكي السّْتُورِي Story.

الرحلة باعتبارها جنساً أدبياً يحكي يوميات الرّحالة، من خلال تسجيل ما يعترضهُ من أحداث وأهوال وغرائب في مسير رحلته، حيث يلجأ الرّحالة أثناء الكتابة إلى تسجيل تواريخ انتقاله من مكان إلى مكان، وتكون تلك التواريخ متسلسلة زمنياً، ولا يتعرف القارئ على ما وقع فيها إلا عبر كتابتها ونشرها ورقياً، وهذا يجعل المحكي اليومي في أدب الرحلة الكلاسيكية يُراوح نفسه، ولا يعلمه القارئ إلا بعد مدّة. على عكس تطبيقات التواصل الحديثة (واتسآب وانستغرام...)، حيث يسجّل الرّحالة رحلته يومياً في قصة قصيرة مرآوية تسمى (السّْتُورِي Story)، ويتخذُ من خلالها المحكي الرحلي شكلين، أحدهما: الصور الثابتة التي تجسد لحظات عاشها الرحّالة. وثانيهما: مقاطع فيديو قصيرة، تنقل مشاهد حية لحظة وقوعها؛ فالتجارب الحسية، ومشاعر القلق أو الخوف، أو الفرح، أو الدهشة، أو الاستغراب، يُشاركها الرحّالة مع مُتابعيه الذين يتفاعلون معها، فيصبحون كأنهم في حالة ارتحال ذهني من خلال ما يُشاهدونه.
غير أن (السّْتُورِي Story) وإن كان تقنية لنقل المحكي اليومي للرحلة؛ فإنّهُ يعلي من شأن التقنية، ويخفي وراءه صوت الرّحّالة، الذي يمكن للمتابع المتّصل أن يلمسه في اللغة أو في التعليق الصوتي المُصاحب له. الشيء الذي يجعل (السّْتُورِي Story) هوساً ذاتياً يستعرض المحكي اليومي على حساب مواقف الرّحالة.

وأخيراً؛ إن أدب الارتحال في عصر الرقميات يدعونا إلى تغيير الكثير من التصورات والمفاهيم السائدة حول هذا الجنس الأدبي، الذي أصبح يفرض نفسه بفعل تنامي ثقافة السفر والارتحال عند الإنسان المعاصر، وبفعل تطور وسائل الترحال عبر العالم وتنوعها.


هامش: 1. لمزيد من التفصيل، انظر: فولغانغ إيزر: فعل القراءة، نظرية في الاستجابة الجمالية، ترجمة عبد الوهاب علوب، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2000.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها