الفارابي.. المُعلّم الثّاني بعد أرسطو

خالد العبادي


وُلد أبو نصر الفارابي في بلدة وسيج قرب فاراب، على نهر سيحون في بلاد الترك سنة 260هـ. ولما بلغ أشده، هاجر إلى بغداد صحبة والده الذي كان جندياً فقيراً. وفي بغداد درس العربية وتعلم النحو على أبي بكر بن السري المعروف بابن السراج، وقرأ العلم العرفاني الحكمي على الطبيب يوحنا بن حيلان، كما تضلع في المنطق على يد أبي بشر بن متى بن يونس. توفي الفارابي سنة 339ه عن ثمانين عاماً، وقيل إنّ سيف الدولة حزن عليه حزناً شديداً.



مكانته الفكرية:

عُرف الفارابي بين أقرانه من علماء وفلاسفة عصره بأنه كان قوي التفكير، يتقن العديد من لغات عصره، وكان متوقد الذهن، حاد الذكاء، رياضياً شاعراً، كريم النفس، يحب الخلوة والانفراد، فلا يشاهد إلا بقرب الينابيع الرقراقة، أو بجوار الأشجار الباسقة الخضراء. عشق الموسيقى فبرع فيها، اخترع القانون وعزف عليه فاستولى على سامعيه وسلب ألبابهم، وحير عقولهم.

ويعتبر الفارابي أول الفلاسفة العظام الذين فلسفوا الدين الإسلامي، وهو أول من حمل المنطق اليوناني تاماً منظماً إلى العرب. وقد شرح كتب أرسطو المنطقية وعلق عليها فأظهر ما غمض من رموزها، وقرب متناولها، وجمع ما يحتاج إليه منها في كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة. حتى سمي المنطقي والمعلم الثاني بعد أرسطو المعلم الأول. واعتبره ابن خلدون من أكابر الفلاسفة في الملة الإسلامية.

آثاره العرفانية:

ترك الفارابي مؤلفات وتصانيف كثيرة فقد منها الكثير، جعلها القفطي وابن أبي أصيبعة 17 شرحاً، و60 كتاباً، و25 رسالةً، منها 12 في المنطق، و9 كتب في الرياضيات والنجوم والكيمياء، و3 كتب في الموسيقى.

ويعد الفارابي الشارح العربي الوحيد لأرسطو ولم تقف شروحاته لأرسطو فحسب، بل شرح لغيره من الفلاسفة والعلماء، ككتاب "النفس" لأسكندر أفروديسي، وكتاب "المجسطي" (معناه الأطروحة الرياضية، هو رسالة بحثية في الفلك) لبطولومايوس. وكتب الفارابي بالإضافة إلى هذه الشروحات في "العقل والمعقول"، و"قوى النفس" والجوهر.

الفارابي والمنطق:

من المؤكد أن علم المنطق يعتبر من الموضوعات التي شغلت معظم أوقات الفارابي، فاشتغل فيه كعلم مستقل وكتب فيه كثيراً، بل مما لا جدال فيه أن الفارابي تعمق في علم المنطق ونبغ فيه نبوغاً، وهو ما أكسبه شهرة في هذا المجال، وجعله يرتقي إلى مصاف النوابغ، وقد أضاع نظرياته المنطقية برسائل عديدة احتلت مكاناً رفيعاً سامياً في الأوساط العلمية، حتى إن ابن سينا، أشار إلى تعلم المنطق والقياس من مصنفات وشروحات الفارابي.

الإلهيات عند الفارابي:

الفيلسوف الإسلامي الكندي نقل إلهيات أرسطو إلى اللغة العربية، ثم جاء الفارابي فشرحها وعلق عليها، حتى جاءت نظرياته في هذا المجال منسجمة لتعليم أرسطو عن الإلهيات وما وراء الطبيعة، والتمييز بين الماهية والوجود، ووجود الواجب الوجود المحض، التام، المطلق. يقول الفارابي: "إن الموجود الأول موجود بذاته وليس لوجوده سبب، بل هو السبب لوجود سائر الموجودات، وهو بريء من جميع أنحاء النقص. من أجل ذلك كان وجود أقدم الوجود أفضل الوجود معنا". وهذا الواجب الوجود هو الله.

النفس عن الفارابي:

يعتقد الفارابي أن النفس هي صورة الجسد وقوامه، والقوة التي تعين الأجسام وتساعدها على بلوغ كمالها، بأفعال تعتمد نوعين من اللات: جسمية ولا جسمية وفقاً للنوع الذي تنتمي إليه. فالنفس إذن قوة وصورة وكمالاً، ثلاث صفات لشيء واحد. يقال لها قوة بالقياس إلى الأفعال التي تصدر عنها، غذاء، نمو، حركة، ويقال لها صورة بالقياس إلى المادة التي تصبح بها ذاتاً قائمة بالفعل، كوجود الحيوان والنبات، ويقال لها كمال بالقياس إلى النوع أو الجنس الذي ينطبع بها فيتميز عن سائر الكائنات.
ويرى الفارابي أن النفس يفيضها العقل الفعّال كلما تهيأ جسم صالح لقبولها. وبما أنها صورة الجسد فلا يجوز أن توجد قبل البدن، بل هي صفة ذاتية توجد فيه بالقوة على هيئة استعداد كامن. وهي جوهر روحاني بسيط قائم بذاتها وليس عرضاً من أعراض الجسم.
وقد ذهب ابن رشد إلى أن الفارابي نفى خلود النفس، وقال: إن الخير الأقصى يبلغه الإنسان في هذا العالم عن طريق المعرفة، وأن الإنسان لا يصبح جوهراً مفارقاً، وأن النفوس الإنسانية فنية. وذهب البعض الآخر إلى أن الفارابي يقول فقط بفناء النفس الجاهلة، وهم الهالكون الصائرون إلى العدم كالبهائم والسباع والأفاعي. غير أن الفارابي يشير إلى خلود بعض الأنفس في الشقاء وهي نفوس أهل المدن الفاسقة.

ومع هذا يمكننا التمييز بين ثلاثة أنواع من النفوس إذا استبعدنا الرأي القائل بفناء النفس، والذي يؤكده ابن رشد في استعراضه لموقف الفارابي من مشكلة خلود النفس:
أ- نفوس خالدة وهي التي وصلت إلى مرتبة الكمال في المعرفة والعمل، فاستحقت بلوغ السعادة والخلود فيها.
ب- نفوس خالدة حصلت على معرفة الخير ولكنها أعرضت عنه ولم تعمل به بل سلكت طريق الغواية، وهذه النفوس الفاسقة تخلد في الشقاء لأنها لم تربط بين المعرفة والسلوك.
ج- نفوس فانية وهي النفوس الجاهلة التي لم تعرف الخير ولم تسع إليه، فبقيت بحالتها الهيولانية ويكون مصيرها الفناء التام.

المدينة الفاضلة عند الفارابي:

يبدو أن حلم الفارابي في مدينته الفاضلة المثالية، ليس سوى وهم وخيال كما تخيل غيره من الفلاسفة المتفائلين، الذين تخيلوا إمكان تحقيق المدينة السعيدة، كما تخيل أفلاطون إمكان إيجاد جمهوريته المثالية، وفردوسها الأرضي وحياة سكانها المثالية الكاملة، عل أن تقوم الدولة بتقويم شرائعها وقوانينها على أسس من العدالة والحكمة، لتهب كل ذي حق حقه.
ومن المؤكد أن الفارابي قد جسد في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) تجاربه الحياتية وتفاعلاته النفسية والاجتماعية، فجاء تعبيراً صحيحاً عن خلاصة مذهبه في الوجود والحياة. وصورة مصغرة عن نظرياته في العقول الابداعية وصدورها عن المبدع وعلاقة الموجودات بعضها ببعض، والفيض، والنفس، والإرادة، والاختيار، والسعادة، والوحي.

ولم ينس الفارابي بأن يعرف المدينة الفاضلة بقوله: إن المدينة الفاضلة، هي المدينة التي يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة الحقيقية.

الفضيلة:

يرى الفارابي أننا نحصل على السعادة عن طريق اكتساب الفضائل وعلى رأسها الفضائل الأخلاقية. وهو يثبت أربعة أجناس للفضائل وهي: الفضائل النظرية، والفضائل الفكرية، والفضائل الخلقية، والفضائل العلمية.

أما الأولى؛ فإنها تنصب على طلب المبادئ الأولية للمعرفة والعلم بالأشياء علماً نظرياً فحسب، من حيث هي موجودات لا من حيث منفعتها العلمية، وأما الثانية فالمقصود بها على الأرجح عند الفارابي علوم السياسة والاقتصاد وفن الحروب، والثالثة؛ وهي الفضائل الأخلاقية مدارها البحث في السلوك الأخلاقي للإنسان. وأخيراً الفضائل العلمية التي يراد بها اكتساب الفنون العلمية المعروفة.

ولما كانت الفضائل الأخلاقية هي أسمى هذه الفضائل قدراً وأشرفها مرتبةً، من حيث إنها أكثر الفضائل إسهاماً في تحقيق السعادة، فالفلسفة الأخلاقية هي التي تخضع قواعد السلوك المؤدي إلى تحصيل السعادة، وهي تشتقها من الممارسة العملية والتجربة الحيوية، لهذا نجد الفارابي يهتم بدراستها وبيان الطرق المؤدية إليها.

بعد هذه الوقفة حول الفيلسوف الفارابي؛ نؤكد على أن هذه الشخصية تحتاج إلى قراءات موسعة، إذ إن كل قضية من القضايا توقفنا عندها هي نفسها بحاجة إلى مزيد من التفاصيل، وحسبنا في هذه المساهمة أن سلطنا الضوء ولو يسيراً على فلسفة الفارابي؛ ليجد القارئ فرصة لإعادة قراءة الفلسفة الإسلامية خاصة والفلسفة عامة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها