التسامح الفكري.. وضرورة الاتصال

مراجعة لكتاب "فصل المقال"

عبد الصمد زهور


نقدم من خلال هذه الورقة قراءةً لمؤلفٍ تراثي مشهور، هو: "فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" لأبي الوليد ابن رشد. وقع عليه الاختيار لأهمية موضوعه وفكر صاحبه. وقد صدر مؤخراً في طبعات عدة عن مركز دراسات الوحدة العربية، ضمن مشروع إعادة تحقيق المؤلفات الأصيلة لابن رشد1، الذي أشرف عليه محمد عابد الجابري، بغية تجاوز أزمة الفهم التي أحاطت بفكر الرجل، لكي تكون استعادته في ثقافتنا معقولة، وعلى الوجه المطلوب.

قسم الكتاب في الطبعات المشار إليها، إلى فصول ثلاثة، سنعمل على تقريبها للقارئ، مركزين على إشكالاتها وأطروحاتها المركزية.
 

1. الشريعة والحكمة، الدين والفلسفة، أية علاقة؟

بدأ ابن رشد بسؤال: "هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع، أم محظور، أم مأمور به إما على جهة الندب، وإما على جهة الوجوب"2. ليؤكد أن فعل الفلسفة نظر في الموجودات من حيث دلالتها على الصانع، وهو أمر نُدِبَ إليه شرعاً بدليل قوله تعالى {فاعتبروا يأولي الأبصار}3، والاعتبار هو "استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه وهذا هو القياس"4، وأيضاً في قوله تعالى "أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء"5.

من ثم يتقرر وجوب التفلسف شرعاً، ويشترط في ذلك النظر في البرهان ومعرفة أنواع الأقيسة، إذ هي بالنسبة للتفلسف، كنسبة الآلات للعمل.

لذلك ينبغي أن نضرب بأيدينا في كتب القدماء، فما دام الأمر متعلقاً بالآلات لا ضرر في أن يستعين المتأخر بالمتقدم، إذ "ليس منها صناعة يقدر أن ينشئها واحد بعينه، فكيف بصناعة الصنائع وهي الحكمة"6؟

2. إمكان تأويل الشرع

يفرض التأويل نفسه حسب ابن رشد، عندما يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ظاهر الشرع، "ومعنى التأويل هو إخراج اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يُخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عدت في تعريف أصناف الكلام المجازي"7، وصاحب البرهان أولى من الفقيه للقيام بذلك؛ لأن القياس الفقهي قياس ظني وليس يقيني.

إن سبب وجود ظاهر وباطن في الشرع هو اختلاف قرائح الناس في التصديق، والإجماع لا يتقرر في عصر ما إلا إذا كان هذا محصوراً، "فكيف يمكن أن يتصور إجماع منقول إلينا في المسائل النظرية، ونحن نعلم قطعاً أنه لا يخلو عصر من الأعصار من علماء يرون أن في الشرع أشياء لا ينبغي أن يعلم بحقيقتها جميع الناس"8؟

استنتج ابن رشد بناء على ذلك أن تكفير أبو حامد الغزالي للفلاسفة في كتابه "تهافت الفلاسفة"، بخصوص "القول بقدم العالم، وبأنه تعالى لا يعلم الجزئيات... (و) في حشر الأجساد وأحوال المعاد"9، مسألة فيها نظر. فقد صرح في كتاب "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة"، أن التكفير بخرق الإجماع فيه احتمال، حيث إن التأويلات المتعلقة بهذه المسائل لا يفصح عنها إلا للراسخين في العلم، الذين يتحقق لهم الإيمان من قبل البرهان على الحقيقة.

كما أن الحكماء، حسب ابن رشد، لا يقولون أن الله لا يعلم الجزئيات بل "يرون أنه يعلمها تعالى بعلم غير مجانس لعلمنا بها"10، فعلمنا بها معلول لها، أما علمه فعلة لها، واسم العلم مشترك الدلالة، مثل اشتراك الجلل في الدلالة على العظيم والصغير.

أما بخصوص قدم العالم، فإن الاختلاف فيه اختلاف في التسمية، إذ الموجودات ثلاثة:
◂ "موجود وجد من شيء غيره وعن شيء: أعني عن سبب فاعل وعن مادة": هو مجموع الأجسام التي ندرك تكونها بالحواس من قبيل الحيوان والنبات...
◂ "موجود لم يكن من شيء ولا عن شيء، ولا تقدمه زمان": وهو القديم المدرك بالبرهان؛ أي الله سبحانه.
◂ "موجود لم يكن عن شيء ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شيء": وهو العالم بأسره، وهو مكمن الاختلاف؛ لأن فيه شبه من القديم والحادث، أي من الموجود الثاني والأول المذكورين، ومن غلب عليه شبهه للموجود القديم قال إنه قديم، والعكس بالعكس. وهو حسب ابن رشد ليس محدثاً حقيقياً ولا قديماً حقيقياً، فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة، والقديم الحقيقي ليس له علة.

إن الاجتهاد في هذه المسائل قد يؤدي إلى الصواب فيكون للمجتهد أجران، وقد لا يؤدي إليه فيكون له أجر واحد.

أما بخصوص انقسام الشرع إلى ظاهر وباطن، فسببه أن الله تلطف بعباده فضرب لهم أمثالا وأشباهاً لكي يصدقوا بها، فكان الظاهر هو هذه الأمثال والباطن هو معانيها التي لا تنجلي إلا لأهل البرهان الراسخين في العلم، وهنا لا يطال التأويل مبادئ الشرع.

أما مسألة المعاد، فقد حملها الأشاعرة على ظاهرها، وتأولها أهل البرهان، فمن هو من غير أهل العلم عليه أخدها على ظاهرها، ولا يصح إثباتها في الكتب الخطابية والجدلية كما فعل الغزالي.

يؤكد ابن رشد في هذا السياق أنه ما كان ليكتب في هذه المسائل لولا شهرتها بين الجمهور، إذ هي في الأصل مواضيع للمصنفات البرهانية التي لا يتداولها الجمهور.

3. التأويل، متى، كيف ولمن...؟

أكد ابن رشد أن القصد من الشرع إنما هو تعليم الحق وعمل الحق، من خلال معرفة الله سبحانه وسائر الموجودات، ومعرفة السعادة والشقاء الأخرويين، ومن خلال الامتثال إلى الأفعال التي تقود إلى السعادة، وهي على أضرب مختلفة، أفعال ظاهرة وبدنية، والعلم بها يكون فقها، ثم أفعال نفسانية من شكر وصبر، والعلم بها يكون بالزهد وعلوم الآخرة.

إن طرق الشرع في حمل الناس على التصديق هي الموجودة لدى الناس بمختلف شرائحهم، وهي على ثلاثة أضرب: برهانية، جدلية، وخطابية. هذه الأخيرة تقع في متناول عامة الناس، ولما كانت غاية الشرع تعليم أكبر عدد من الناس كانت هي الأكثر في الشرع رغم كونه يحوي الطريقين الآخرين، اللذين يسلمهما أهل الفلسفة والكلام. بذلك كان الناس في الشريعة على ثلاثة أصناف:
◂ صنف ليس من أهل التأويل: الخطابيون (العامة).
◂ صنف من أهل التأويل الجدلي: الجدليون (المتكلمون).
◂ صنف من أهل التأويل البرهاني: البرهانيون، أصحاب صناعة الحكمة (الفلاسفة)، تأويل هؤلاء لا ينبغي التصريح به للجدليين ولا للجمهور، إذ يمكن أن يفضي بهم إلى الكفر؛ لأنه يتضمن شيئاً من إبطال الظاهر لأجل إثبات المؤول.

إن غاية الشرع من العلم الشرعي والعمل الشرعي هي حفظ النفس والصحة؛ إذ بهما تكون السعادة الأخروية وبعكسهما يكون الشقاء. ومن التصريح بالتأويلات للجمهور نشأت الفرق الكلامية التي كفر بعضها بعضاً، حيث ظنوا أن طريق الشرع في حمل الناس على التصديق واحد وهم في ذلك مخطئون، فالطرق القرآنية هي أفضل الطرق لتعليم الجمهور، إذ تحوي جميع طرق حمل الناس على التصديق، لأجل تحقيق السعادة الإنسانية.

يستنتج ابن رشد بناء على ذلك أنه "لا يوجد أتم إقناعاً وتصديقاً للجميع منها، والثانية أنها تقبل النصرة بطبعها إلى أن تنتهي إلى حد لا يقف على التأويل فيها، إن كانت مما فيها تأويل، إلا أهل البرهان، والثالثة أنها تتضمن التنبيه لأهل الحق على التأويل الحق"11، وبناء عليه تكون الحكمة (الفلسفة) صاحبة الشريعة (الدين) وأختها الرضيعة.

خاتمة

لا تظهر كثيراً النزعة البرهانية الرشدية من خلال مؤلف "فصل المقال"، بل تظهر لديه نزعة إنسانية تعبر عن التسامح الفكري والثقافي والديني والعرقي في أبهى تجلياته12، ويتضح ذلك من خلال الطريقة التي أدار بها النقاش مع المعارضين وعلى رأسهم الغزالي، وإيمانه بتفاوت مراتب الناس في التصديق وضرورة احترام هذا التفاوت، وكذلك موقفه من علوم القدماء الذين ينتمون إلى ثقافات مختلفة عن الثقافة الإسلامية، من ثمة ضرورة مراجعة فصل المقال، فهو مؤلف لتهذيب الفكر وسبيل لإشعاعته، فما أحوجنا للروح المشكلة لفكر الرجل، في زمن يسود فيه الإقصاء، والبناء على ركام الآخرين.


الهوامش:
1. أي تلك التي كتبها ابن رشد ابتداءً وليس تلخيصاً أو شرحاً، وهي:
• فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال.  الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة.  تهافت التهافت.  الكليات في الطب.  بداية المجتهد ونهاية المقتصد.  جوامع سياسة أفلاطون (لأنه فقد أصله العربي وبقيت الترجمة العبرية).
2. ابن رشد، فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، تحقيق عبد الواحد العسري، إشراف عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، أبريل 2017، ص: 85.  / 3. القرآن الكريم، سورة الحشر، الآية: 2. / 4. ابن رشد، مصدر سابق، ص: 87. / 5. القرآن الكريم، سورة الأعراف، الآية: 185. / 6. ابن رشد، مصدر سابق، ص: 93. / 7. نفسه، ص: 97. / 8. نفسه، ص: 100. / 9. نفسه، ص: 101. / 10. نفسه، ص: 102. / 11. نفسه، ص: 124. / 12. يظهر أن ما قله ابن رشد في مؤلفه، أعمق مما أثبته جون لوك في "رسالة في التسامح"، غير أن الفرق بين الرجلين، هو أن قول الأول قول ممارس، وقول الثاني قول منظر. يمكن بهذا الصدد مراجعة الرسالة المذكورة، ترجمة منى أبو سنة، مراجعة مراد وهبة سنة 1997.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها