أبو الحسين الجزار.. شاعراً مصرياً شعبياً

د. عوض الغباري


حقق "محمد زغلول سلام" ديوان "الجزار" وهو من شعراء مصر، واسمه "أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم" الذي عاش في القرن السابع الهجري. ويُلَقَبَّ هذا الشاعر بالجزار نسبة إلى حرفته، فقد كان جزاراً، لكنه احترف الأدب، وهو من شعراء الحِرَف الذين شكلوا ظاهرة أدبية في الأدب المصري، فعبروا عن الطابع الشعبي في أشعارهم، واقتربوا من الوجدان المصري في حبه للفكاهة والإقبال على الحياة في بساطتها ومعانيها الأصيلة. واشتهر شعراء الحب بمهنهم مثل ظافر الحدَّاد، وكان حداداً. وعبَّر هؤلاء الشعراء عن روح الأدب فطرة وسليقة للشعب المصري.


فالمصريون بارعون في ارتجال المواويل والأزجال، وغيرها. وكان الشيخ "خلف الغباري" إمام الزجل ورائد فنونه. وزخر كتاب "العاطل الحالي والمرخص الغالي" لصفي الدين الحلي بكثير من تلك الأشعار التي انتشرت في الآفاق دالة على الشخصية الأدبية المتميزة.

وقد وفقني الله بتأليف كتاب حققت فيه أزجال الشيخ خلف الغباري، وقدمت لها بدراسة نقدية مؤكداً أصالته الإبداعية.

وأكد "شوقي ضيف" الطوابع الشعبية للشعر العربي على مر العصور في كتاب بهذا العنوان.

وتميز الشعر المصري بسلاسة الأسلوب وسهولة العبارة حرصاً على التواصل مع المتلقي، وتجسيداً لأثر الأدب العامي في الشعر الفصيح، كما بدا في شعر "ابن سناء الملك"، مثلاً، وهو من أكبر شعراء مصر في العصر الأيوبي.

فشعراء الحرف لهم هذا القبول من الناس لتعبيرهم عن طبقات الشعب البسيطة بجماليات تعبيرية قريبة منهم. وقد أشاد "محمد زغلول سلام" بالطابع الشعبي لشعر الجزار1.

ومطلع ديوان "الجزار" قصيدة مؤكدة لشخصيته المصرية القريبة من عامة الفقراء، وهو يشتكي من أثر البرد الشديد عليه، دون أن يملك ما يقيه من ذلك، قائلاً:
بيتي الأرض والفضاء به سو... ر مُدار وسقف بيتي السَّماء
لو تراني في الشمس والبرد قد أنحـ... ل جسمي لقلت إني هباء

فهو يُعاني من هجوم البرد، وهو يفترش الأرض ويلتحف السماء في العراء. وهو يترقب طلوع الشمس ترقبه لحبيب التماساً للدفء.

ولكن الشاعر المصري الذي يشكو الفقر لا يحيل الدنيا ظلاماً، بل يعزي نفسه بالفكاهة في التورية بقوله:
فَبِه عظمي المبرّد إذ عـ... ز الكسائي واحتمى الفراءُ2

فهو يورِّي بأسماء علماء اللغة والأدب ليصوّر افتقاره إلى الكساء والفراء، مما يقيه من هذا البرد الشديد الذي اخترق عظامه في ليالٍ مظلمة.

وتتأكد هذه الروح المرحة رغم الشقاء، كذلك المفارقة عندما يتصور الناس أنه يعبد الشمس لملازمته إياها التماساً للدفء.

والجزَّار "صابر" على ظروفه القاسية، يلتمس الفرج بعد صبر جميل طويل، ومعاناة من الغربة عن الحياة الرخية التي يتمناها. وتلك المعاني التي نراها هنا تجسيد لأحوال عامة المصريين الذين يتمسكون بالحياة رغم قسوتها، ويرضون بما قسمه الله لهم، ولا يستسلمون للحزن بل يستبدلونه بمفارقة الفكاهة والأمل تنفيساً عن مشاعر الحزن والإحباط.

وديوان الجزار مختارات من شعره سُمِّيت "تقطيف الجزار"، وقد برع في الشعر منذ شبابه. وكانت صلات الجزار بشعراء عصره وأدبائهم قوية دالة على شخصيته المتفاعلة معهم.

وأقبل "الجزار" على مدح كبار رجال الدولة للتكسب بالشعر، لكنه أخفق في ذلك، فقال:
كيف لا أشكر الجزارة ما عشـ... ت حفاظاً وأرفض الآدابا
وبها أضحت الكلاب ترجِّيـ... ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا3

وكان "الجزار" إنساناً يجمع بين المروءة والكرم وحسن العشرة ونقاء السريرة، إلى ميل مطبوع للدعابة"4.

وهو ما يجعل هذا الشاعر مصرياً أصيلاً في شعره وحياته.

أشاد مؤرخو الأدب بالمرتبة الشعرية الرفيعة للجزار، مع سلاسة أسلوبه، وروحه الشعبي.

وكان يرتاد الإسكندرية، ويغشى ضفاف النيل في القاهرة مع صحبه من الشعراء للاستمتاع بالطبيعة ومطارحة الشعر في جو من الدعابة والطرائف والنوادر.

وتتجلى عذوبة الغزل في مثل قوله في مطلع قصيدة:
ما بلَّغ الله حُسَّادي الذي طلبوا... زار الحبيب وزال الهجر والغضب

وفي إشارة إلى عذوبة الشعر المصري، وارتباطها بعذوبة ماء النيل، قيل إن من عذبت مياه شربهم، لطفت كلمات شفاههم.

وقال ابن سعيد الأندلسي:
أيا ساكني مصر غدا النيل جاركم... فأكسبكم تلك الحلاوة في الشعر

ومن هذا قول الجزار، أيضاً:
يا هاجري بلا سبب... إلى متى هذا الغضب
يا مستريحاً لم أنل... من حبه إلا التعب5

إلى غير ذلك من أشعار تقطر رقة وعذوبة وسهولة تجري مجرى الخطاب الشعبي.

وقد لجأ "الجزار" إلى المدح للتكسب بالشعر، كما أشرنا، لكنه كشف عن جانب إنساني حزين في شكواه من الفقر رغم شاعريته، وشعره في ذلك مؤثر كقوله للممدوح في مناسبة عيد:
ما بات في ذا العيد يملك درهماً... وكفاك أن الشعر أعظم كسبه
فتراه ينشد حسرة وتأسفاً... من همه لعدوِّه ومحبه6

وما أقسى شعور الإنسان بالحرمان في يوم العيد. خاصة أن "الجزار" كان كريماً ينفق ما يملك دون حساب لتكاليف الحياة في جانب من جوانب تعبير المثل الشعبي المصري "اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب"، ودلالته على الشخصية المصرية التي تجعل فقراءها يعيشون يوماً بيوم.

وترتبط هذه النزعات الشعبية في شعر "الجزار" بتلك الروحانية المتأصلة في نفوس المصريين، وصفاء قلوبهم، ونقاء سرائرهم.

يقول "الجزار" من الغزل، مثلاً:
ظهرت على العشاق أسباب الهوى... سيَّان إن كتموا الهوى أو باحوا7

فهذا التسليم الرقيق بأحوال الحب يجري مجرى تلك السمة التي تميز المصريين من الرضا بالحال. وتتراءى الرقة والمشاعر الإنسانية الصادقة في كثير من شعر الجزار، خاصة في أصدقائه وفي مغاني مصر الطبيعية، والإقبال على الحياة.

يقول في الإسكندرية:
حللتُ بظاهر منها كأني... حللت هناك جنات الخلود
فلا بئر معطلة وكم قد... رأيت هناك من قصر مشيد8

وهو يصورها جنة الخلد، متناصاً مع القرآن الكريم في قوله تعالى: {وبئر معطلة وقصر مشيد} [الحج: 45]. والجزار شاعر بارع في حسن التخلص من الغزل إلى المدح، وفي الاقتدار على صنعة الشعر بسلاسة، وهي هنا القافية الملتزمة حرفين مما يقع تحت مصطلح لزوم مالايلزم الذي اشتهر به أبو العلاء المعري. "وللجزار" من لزوم ما لا يلزم قصيدة طويلة مطلعها:
كيف حالت بعد الوفاء عهوده... وتمارى هجرانه وصدوده9

وهي قصيدة دالة على شاعريته، ودقة توازنه الفني بين الطبع والصنعة في انطلاق شعري دفاق. وتطرد المفارقة في تمني الشاعر للحم وهو جزار لعوزه وفقره كقوله في القصيدة المشار إليها سابقاً:
كيف يبقى الجزار في يوم عيد النحر... رهن الإفلاس والعيد عيده
يتمنى لحم الأضاحي وعند الناس...
منه طَرِيُّه وقديده10

مما يدل على أصالته، وصبره على ما ناله من حرمان. وإذا كان "توفيق الحكيم" قد ألف كتباً في "الحمار"، حديثاً، فقد حظى "حمار الجزار" بأشعار طريفة تبعث على الابتسام في فكاهة محببة إلى النفس.

يقول الجزار في رثاء حماره:
ما كل حين تنجح الأسفار... نفق الحمار وبارت الأشعار
خُرجي على كتفي وها أنا دائرٌ... بين البيوت كأننى عَطَّارُ11

لقد "دار" على البيوت، وكان حماره عوناً له على ذلك. وشاركه أصدقاؤه في رثاء حماره، فقال أحدهم:
مات حمار الأديب قلت لهم... مضى وقد فات فيه ما فاتا
مَن مات في عزِّه استراح ومَن... خلَّف مثل الأديب ما ماتا

وفي ذلك دعابة الصديق يستدعي المثل الشعبي القائل: "اللي خلف ما ماتش"، فجعل الجزار امتداداً لحماره على سبيل الفكاهة! فأجابه الجزار:
كم من جهولٍ رآني... أمشي لأطلب رزقاً
فقال لي صرت تمشي... وكل شيء مُلَقَّى
فقلت مات حماري... تعيش أنت وتبقى12

وهذه إجابة فكاهية جميلة على الشاعر الذي تندر عليه خلفاً للحمار، فجعله الجزار امتداداً لحياة حماره الذي مات! وقد أنصف الجزار الحمار كما أنصفه الحكيم فيما بعد، فقد تعجب "الجزار" لما يشاع من غباء الحمار مع أنه كائن ذكي، يقول:
لم أَدرِ عيباً فيه إلا أنه... مع ذا الذكاء يقال عنه حمار13

والجزار شاعر متمكن من أدواته الشعرية، مثقف يجري التناص في شعره عميقاً دالاً على اتصاله بالمعارف والفنون والآداب المختلفة.

لكنه في شعره الذي يعبر بها عن سوء حاله، وعن مهنته التي تندر بها، يجري مجرى الدعابة والفكاهة، وبساطة التعبير، ويجنح إلى استمالة المتلقي الذي يميل إلى هذا اللون من الشعر.

يتناص الجزار مع المتنبى، لكن في عالم الجزارة قائلاً:
فاللحم والعظم والسكين تعرفني... والخلع والقطع والساطور والوضم14

ويورد معنى "الزَفَر" الذي يطلقه العامة على اللحم، ويتلاعب بالجناس في ذلك قائلاً:
يقول إذ أشكو له زَفْرتي... لا بد للجزار من زَفْره

فيجمع بين الجد والهزل دعابة، ويفتخر بأهله من الجزارين، قائلاً:
ألا قل للذي يسأل... عن قومي وعن أهلي
قد تسأل عن قوم... كرام الفرع والأصل
يُرجِّيهم بنو كلب... ويخشاهم بنو عجل15

ويطرد شعر الجزار –على هذا النحو- سهلاً قريباً إلى الروح الشعبية، خاصة ما يتخلله من فكاهة، كما مَّر، وكقوله في "الكنافة":
سقى الله أكناف الكنافة بالقطر... وجاد عليها سُكَّرٌ دائم الدَّرِّ
وتباً لأوقات المخلل إنها... تمر بلا نفعٍ وتحسب من عمري16

والتراث الأدبي المصري عامر بوصف ألوان الطعام والشراب، إما تجسيداً للكرم، أو تعبيراً عن الحرمان. ويتناص "الجزار" مع امرئ القيس متفكهاً في وصف قصيدة بقوله:
تصك بكف النظم من حسنها قفا... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل17

ومع امرئ القيس، أيضاً يتمنى الحصول على جُبَّة، فيقول:
ولو أنَّني أسعى إلى تفصيل جُبَّة... كفاني -ولم أطلب- قليلٌ من المال
ولكنني أسعى لمجدٍ يحوجه... وقد يبلغ المجد المؤثَّل أمثالي18

ويشكو الجزار حاله في أشعار كثيرة معبراً عن أسفه وحسرته وحزنه، لكنه، مع ذلك، يمضي في منحاه الفكاهي عوضاً عن مآسيه، وتخفيفاً لآلامه يقول، ساخراً من بيته الآيل للسقوط:
ودارٍ خَرابٍ قد نزلتُ... ولكِنْ نزلتُ إلى السَّابِعة
طريق من الطرق مسلوكة... محجتها للورى شاسعة
فلا فرقَ ما بين أني أكون... بها أو أكون على القارعة
تُساورهَا هَفواتُ النّسيمِ... فَتُصْغِي بلا أُذنٍ سامعة
إذا ما قرأت إذا زلزلت... خشيت بأن تقرأ الواقعة19

ونواجه نحن المصريين– مشكلة زيادة السكان، خاصة في أوساط الفقراء، ونرى "الجزار" يعبِّر عن تمنياته أن تصاب زوجته بالعقم، ويبالغ بأنها تلد بالنظرة، فيقول:
وله زوجةٌ متى نظرتْه... حبلت ليتها عجوز عقيم20

وبذلك يتجسد القول المأثور: "جهد البلاء كثرة العيال مع قلة المال". وتبلغ الحرفية الشعرية مداها في تلاعب "الجزار" بقافية "الشين" النادرة التي تجعله ينحت لبعضها صيغاً طريفة كقوله:
إذا تثني فقلب الغصن منكسر... وإن تبدي فطرف البدر مدهوش
يا عاذلي إن تكن عن حسن صورته... أعمى فإنى عما قلت أطروش21

وانظر إلى عذوبة قوله "فقلب الغصن منكسر" واستدعاءه لانكسار القلب في خطاب العامة. وإذا كان المصريون قد اشتهروا بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته، فقد عبَّر الجزار عن قسم مستقل من أشعاره، خاص بالمدائح النبوية، وعنوانها: "الضراعة الناجحة والبضاعة الراجحة". وقد كان البوصيري شاعر المديح النبوي، كما كان ابن الفارض شاعر الحب الإلهي.

ويستحضر "الجزار" روح "حسان بن ثابت" في همزيته في المديح النبوى، فيقول:
إمام الورى المبعوث من آل هاشم... لنا برسول الله فيه رجاء
إذا بعث الله النبيين في غد... وضمهم للهاشمي لواء
أتت أمة المختار ترجو شفاعة... يقصِّر عن إدراكها الشفعاء22

ويجري ديوان "الجزار" في المديح النبوى مرتباً على حروف الهجاء، فائضاً بمواجد روحية في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى ذلك نجد في شعر الجزار السمات الأصيلة للمصريين من حب الدين وحب الدنيا، ومن تحمل الشدائد، ومواجهتها بالفكاهة طبيعة أصيلة في تركيب الشخصية المصرية، وفلسفة رائعة لجدلية الحياة بين فرح وترح. كما أن شعر الجزار تمثيل لشخصيته الشعرية، وميله إلى سلاسة الأسلوب، وصدقه في التعبير عن ذاته. وللجزار أشعار أخرى كثيرة محققة، وهناك دراسات كثيرة تناولت شعره، خاصة كتاب أحمد عبد المجيد المنشور عن شعره بمكتبة الآداب بالقاهرة.


الهوامش: 1. محمد زغلول سلام، ديوان الجزار، منشأة المعارف، الإسكندرية، ص: 5.┇2. ديوان الجزار، ص: 25.┇3. السابق، ص: 30.┇4. محمد زغلول سلام، محقق الديوان، ص: 8.┇5. الديوان، ص: 27.┇6. الديوان، ص: 29.┇7. الديوان، ص: 32.┇8. الديوان، ص: 34.┇9. الديوان، ص: 34.┇10. الديوان، ص: 34.┇11. الديوان، ص: 40.┇12. الديوان، ص: 58.┇13. الديوان، ص: 44.┇14. الديوان، ص: 72.┇15. الديوان، ص: 70.┇16. الديوان، ص: 48.┇17. الديوان، ص: 67.┇18. الديوان، ص: 69.┇19. الديوان، ص: 55.┇20. الديوان، ص: 74.┇21. الديوان، ص: 52.┇22. الديوان، ص: 91.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها