السِّرُّ..

خالد ماضي

في غالب الأمر أني كنت أحلم أو هكذا تصورت، والحلم لم يكن عاديّاً: "ففي جو كان أفقه مغطّى بضباب كثيف، استحالت معه الرؤية.. تجمعنا فجأة دون سابق ميعاد.. جدي وجدتي أتيا من القبر والتفا في أكفانهما، أبي وأمي، إخوتي وأنا، تجمّعنا عند حقلنا الواقع عند آخر نقطة من حدود قريتنا، كانت نباتاته تَئِنُّ من العطش وعروشها الخضراء أصبحت يابسة.
هالنا ما رأينا وأصابنا الفزع.. تحت النخلات التي شكلت شبه دائرة، كانت آلة السقي موضوعة على رقبة ثور ضخم يدور بالساقية العتيقة دون أن تفرغ في الحوْض نقطة ماء! نظرنا في لهفة داخلها كانت جافة خالية تماماً. يممنا جهة الري فأزكمت أنوفنا رائحة جيف البهائم وغيرها، وأدهشنا قاعها اليابس.
أسرع جدي وجدتي يجرجرون أكفانهما، ونحن نجري خلفهما إلى النهر فلم نجده! لقد اختفى.. أيقنّا الآن لماذا الثور يدور بساقيتنا دون جدوى؟ أجهش جدّي وجدّتي بالبكاء وحذا حذوهما أمي وأبي، أما أنا وإخوتي فجلسْنا في صمت..
لم أستطع أن أحدد هل نحن في ليل أم نهار، غير أني نظرت فوجدت القمر، راقبته عيناي متأملاً إياه كما كنت أفعل دائماً في الصّغر. بادرته بسؤال فيما يشبه الهمس كأني أحدّث نفسي:
- أيها القمر من نحن؟ وأين نكون؟ وأين النهر؟
 تخيلته يردّ كرجل عجوز يمسك بخيوط الحكمة:
- قد أضاءت ليالي على ضفتي النهر منذ آلاف السنين، حيث كان أجدادك يقصون للأبناء وللأحفاد كيف كانوا يروضون النهر... لكن السر يكمن الآن في قلوبكم والساقية العتيقة وعقل الثور.
طلب جدي وجدتي المغادرة قالوا: إنهما لا يستطيعان التأخير، وأوصونا جميعاً بضرورة البحث عن النهر ومعرفة سر اختفائه.. وإن لم نفعل لن يكونا مرتاحين أبداً في القبر، وتبعهما أبي وأمي كي يؤنساهما حتى القبر. أما أنا وإخوتي فبدأنا نفتش في قلوبنا عن أحقادنا وكيف نمحوها فتصير منبعاً للحب. والثور اتفقنا على استبداله ببقرتنا الحلوب، وساقيتنا العتيقة كيف نصلحها ونغير تروسها القديمة".
لكني استيْقظت من حلمي وأنا أهذي .. النّهر .. النّهر، فلم أجد إلا الفراغْ.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها