مُتحف المجوهرات الملكية بالإسكندرية

أصالة التراث.. وروعة البناء والمعاصرة

محمد عطية محمود



لا يملك الداخل إلى ساحة متحف المجوهرات الملكية بالإسكندرية، إلا أن يقف منبهراً لعظمة التحفة المعمارية التي قام بتصميمها جمعٌ من المهندسين من: إيطاليا، وفرنسا، وبلجيكا؛ وهو ما جعل من تلك العمارة الباهرة متحفاً لفنون العمارة الأوروبية في القرن التاسع عشر، تتجسد على أرض مصرية وسكندرية تحمل الملامح الكوزموبوليتانية التاريخية التي تميزت بها الإسكندرية على مر العصور، وهي شاهدة على حقبة تاريخية ممتدة على مدار حكم أسرة محمد علي باشا (مؤسس مصر الحديثة) منذ توليه عرش مصر في عام 1805، حالماً بأن تصبح مصر قطعة من أوروبا، وذات سيادة منفصلة عن الدولة العثمانية (تركيا)، ومؤسساً –أيضاً- للدولة العلوية التي استمر حكمها ووجودها الفعلي لمدة تقارب مائة وخمسين سنة، وامتد الحلم عند أبنائه من بعده.
 

وقد غلب على حكامها في تلك الحقبة حب الأبهة واقتناء التحف الثمينة، والمشغولات الذهبية، والقطع الفنية التي برعت في إبداعها أيادي أمهر الصناع المصريين، وزينت القصور، وشهدت صخب احتفالاتهم الملكية، وحفلات التتويج والمناسبات الرسمية. وبعد قيام ثورة يوليو المجيدة (1952) تم التحفظ على تلك المجوهرات التي ظلت زمناً تزين صدور الأمراء والأميرات، إلى أن أوصى بإنشاء هذا المتحف الذي يمثل قيمة تاريخية واجتماعية، وثقافية، وسياحية كبيرة.

لمحة تاريخية

يرجع تاريخ إنشاء قصر فاطمة الزهراء ابنة الأمير حيدر فاضل، بمنطقة زيزينيا المقام فيه المتحف إلى الفترة ما بين 1919-1923، حيث أسسته زينب هانم فهمي عام 1919م، وأكملت بناءه وأقامت به ابنتها الأميرة فاطمة الزهراء عام 1923م، التي يحمل القصر اسمها، من أميرات الأسرة العلوية وقد ولدت عام 1903م، ووالدتها هي السيدة زينب فهمي أخت المعماري علي فهمي الذي اشترك في تصميم هذا القصر.. أما والدها فهو الأمير علي حيدر بن الأمير أحمد رشدي بن الأمير مصطفي بهجت، بن فاضل باشا بن إبراهيم باشا، بن محمد علي باشا والي مصر وباعث نهضتها الحديثة؛ أي أن محمد علي هو جدها الخامس.

وكانت والدة الأميرة فاطمة الزهراء قد أتمت بناء الجناح الغربي قبل وفاتها، وقد أضافت الأميرة فاطمة الزهراء جناحاً شرقياً للقصر، وربطت بين الجناحين بممر. وقد ظل هذا القصر مستخدماً للإقامة الصيفية حتى قيام ثورة يوليو 1952م، وعندما صودرت أملاك الأميرة سمح لها بالإقامة في القصر.. وكان ذلك حتى عام 1964م، حين تنازلت الأميرة فاطمة الزهراء عن القصر للحكومة المصرية، وغادرت إلى القاهرة، وقد توفيت عام 1983م. وقد تم استخدام القصر كاستراحة لرئاسة الجمهورية.. حتى تحول إلى متحف بقرار جمهوري عام 1986م، وقد تم عمل ترميم وتطوير للمتحف عام 1986 وعام 1994م. ومنذ أواخر عام 2004م بدأ المجلس الأعلى للآثار عملية تطوير وترميم شاملة للمتحف بتكلفة تقدر بنحو 10 ملايين جنيه بهدف زيادة قدرته على استيعاب المزيد من المعروضات الثمينة الموجودة بالمخازن ولم تعرض بعد، وتم افتتاح المتحف مرة أخرى في أبريل 2009 حفاظاً على رونقه البهي الضارب في أعماق الماضي والحاضر، وكمعلم من معالم السياحية الثقافية والتاريخية والفنية بالثغر، بما يملكه من مقومات تضعه على خريطة السياحة الثقافية العالمية، وتراث الإسكندرية العريق.

معمار القصر

بني القصر (متحف المجوهرات الملكية) على طراز المباني الأوروبية من الناحية المعمارية، كما يحيط بالمبنى حديقة تمتلئ بالنباتات والزهور وأشجار الزينة، ويتكون من جناحين: شرقي وغربي، الشرقي وهو عبارة عن قاعتين وصالة يتصدرها تمثال من البرونز، عليه لوحة فنية من الزجاج الملون المعشق بالرصاص، ومزين بصورة طبيعية. وجناح غربي يتكون من بدروم وطابقين: الأول به أربع قاعات، والثاني أربع قاعات ملحق بها ثلاثة حمامات، اكتست جدرانها بقطع فسيفساء صغيرة، عبارة عن ترابيع قيشاني مزخرف بديعة الألوان والنقوش، دالة على ذائقة فنية رائعة. ويربط بين جناحي القصر بهو في غاية الروعة والجمال (عبارة عن ممر مستعرض)، كما تزخر به لوحات فنية تمثل عشرة أبواب من الزجاج الملون والمعشق، عليها رسوم قصص للمشاهد التاريخية الأوروبية والقصص الأسطورية، ورسوم جدارية لصاحبة القصر. وقد زينت نوافذ القصر بلوحات فنية من الزجاج الملون وغطيت أرضياته بأجود وأفخم أنواع الأخشاب، ولذلك وجب على الزائر -كطقس من طقوس الاحترام للمكان- أن يستبدل بحذائه المدبب خفاً رخواً للتجول في ردهات المتحف؛ إمعاناً في الحرص على أرضية المتحف المعتنى بها برهافة بالغة، مما يعطي للقصر ومكانته المعمارية والتاريخية الأصيلة، في أن تكتمل له عناصر الروعة والإبهار والقيمة، بكونه مستودعاً راقياً لمثل هذه التحف والنفائس التي تمثل جزءاً من تاريخ مصر.

كنوز المتحف.. نفائس من التراث

يحتوي المتحف -الذي يعد من أكبر المتاحف المصرية من حيث المساحة التي تتخطى أربعة آلاف متر مربع- على نفائس المجوهرات والحلي، التي كللت بها رؤوس وصدور أميرات الأسرة المالكة، والتحف والمشغولات الذهبية التي امتلأت بها قصورهم في تلك الحقبة الهامة من تاريخ مصر؛ فيضم المتحف ما يقارب اثني عشر ألفاً من القطع الذهبية النادرة التي كانت في حوزة أفراد الأسرة المالكة، وتتميز منها مجموعة الأمير محمد علي توفيق باحتوائها على حوالي اثني عشر ظرف فنجان من البلاتين والذهب، وما يقارب ثلاثة آلاف من فصوص المجوهرات الحرة الأصلية، وكيس نقود من الذهب المرصع بالماس، بالإضافة إلى ساعة جيب السلاطين العثمانيين، وستة كؤوس من الذهب مرصعة بـحوالي ألف فص من الماس.

كما تبرز من عصر الخديوي سعيد باشا مجموعة من الأوشحة والساعات الذهبية والأوسمة، والقلائد المصرية، والتركية والأجنبية، وهي مرصعة بالمجوهرات والذهب الخالص، وعملات أثرية قبطية ورومانية، وفارسية، وبيزنطية تربو على أربعة آلاف قطعة. كما تشمل المقتنيات أروعها وأبهاها متمثلة في علبة النشوق الذهبية المرصعة بالماس، والشطرنج، وسيف التشريفة خاصة محمد علي باشا مؤسس الأسرة العلوية، والسيف مصنوع من الصلب على شكل رأس ثعبان به ستمائة ماسة. كما تزين المتحف مجموعة من الصور الملونة بالمينا في أطر من الذهب للخديوي إسماعيل، وزوجاته، وكريماته وأولاده. بالإضافة إلى التحف المهداة من رؤساء بعض الدول الأوروبية منها صينية أوجيني الشهيرة، التي أهديت للخديوي إسماعيل في افتتاح قناة السويس، وهي من الذهب الخالص، ومرصعة بالماس والياقوت والزمرد. وكذلك طاقم قهوة تبلغ زنته حوالي خمسة وعشرين كيلوغراماً من الفضة من النوع الفرنسي، أهدته شركة القناة العالمية للوالي محمد سعيد باشا.

مقتنيات الملك فاروق الأول.. وعائلته

أما مجموعة الملك فاروق آخر ملوك الأسرة؛ والتي خصص لها ثلاث قاعات، فقد تميزت بالترف والإسراف، وكثرة استخدام الماس فيها كما هو أشبه بالـشخشيخة التي كان يستدعي بها الخدم، والمصممة على هيئة تاج ملكي من البلاتين المرصع بالماس والزمرد والياقوت، وكرات الذهب الصغيرة. بالإضافة إلى العصا المارشالية التي كان يتأبطها في تنقلاته، وهي مصنوعة من الأبنوس والذهب. هذا بالإضافة إلى أظرف الفناجين وهي مرصعة بالماس والياقوت. إلى جانب قسم مخصص للهدايا المقدمة للملك فاروق كطاقم شاي من الذهب، أهدته مجموعة من باشوات مصر لفاروق، وفريدة يوم زفافهما موقع باسميهما خلف صينيته وكذلك طبق من العقيق الخاص أهداه له قيصر روسيا، فهو تحفة تاريخية نادرة تحكي جزءاً من تاريخ روسيا القيصرية.

في حين تتميز قاعة الملكة فريدة، بعد قاعة زوجها الملك فاروق، ومن مقتنياتها التاج المصنوع من الذهب والبلاتين، والمرصع بأكثر من ألف وخمسمائة قطعة من الماس، مع قرط من البلاتين والذهب مرصع بأكثر من مائة وثلاثين قطعة من الماس، بالإضافة إلى مجموعة رائعة من الأقراط المرصعة بالماس والياقوت والزبرجد والزمرد، وطاقم كامل من المرجان.

كما يتميز من مجموعات الأميرات: تاج الأميرة شويكار الذي يعد أضخم تيجان مجوهرات أسرة محمد علي وأجملها.. أما مجموعة الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق والزوجة الأولى لشاه إيران الراحل محمد رضا بهلوي، فتضم محبساً من البلاتين عليه اسم الأميرة فوزية مرصع بالبرلنت، وتوكة حزام مرصعة بأكثر من مائتين وأربعين قطعة من الماس. كما يضم المتحف ساعة ملكية مرصعة بالماس، وتحفة فنية على شكل فيل مصنوعة من العاج المطعم بالماس والياقوت، ومجموعة من دبابيس الصدر الذهبية والبلاتينية، وقصعة من الذهب الخالص كانت تستخدمها الملكة ناريمان عند افتتاحها أحد المشروعات. ومجموعة الأميرات سميحة وقدرية حسين كامل: مجموعة من ساعات الجيب من الذهب المرصع بالماس البرلنت والفلمنك، وسوار ذهب مرصع بالماس البرلنت والفلمنك واللؤلؤ.

أما مجموعة الأمراء: يوسف كمال ومحمد علي توفيق؛ فهي تضم العديد من التحف والمجوهرات والأوسمة، والقلادات والنياشين هذا بالإضافة إلى مجموعات أخرى من المجوهرات التي تناولها العرض المتحفي في أسلوب شيق مع استعمال الإضاءة التي تعتمد على التوجيه الضوئي المباشر للقطع المعروضة دون التأثير عليها، أو تأثر المشاهد بها. وقد زودت خزانات العرض بالبطاقات الشارحة باللغتين العربية والإنجليزية.

خِتاماً؛ يعد هذا المتحف من أجمل المعالم السياحية في الإسكندرية، حيث يضم مجموعة نادرة ورائعة من التحف والمجوهرات والحلي، والمشغولات الذهبية، والأحجار الكريمة، والساعات المرصعة بالجواهر والماس، في فتارين العرض الزجاجية المائة المصنَّعة من خشب الأرو، التي تتناغم قيمتها الجمالية مع علو شأن الأجواء المتحفية الفخمة من الداخل، وكذلك مع نوعية المجوهرات. كما تتحقق فيها عناصر الأمان ضد السطو وضد عوامل الاحتراق. كما يتميز المتحف بتوفره على المراقبة التليفزيونية الملونة لجميع الحجرات والممرات، وهذا النظام هو ثالث أنظمة الأمان في المتاحف العالمية، وذلك من قبيل اكتمال سيمفونية التألق والإبداع، التي تعانقها حالة وجود المتحف في هذه البقعة السحرية على كورنيش الإسكندرية البديع.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها