بين إيقاع اللون ودينامية التكوين!

التمازج الإبداعي في أعمال الفنانة نجاة مكي

د. محمد سمير عبد السلام


تتشكل علامة اللون –في الأعمال التشكيلية للفنانة الإماراتية د. نجاة مكي1– بصورة تجمع بين نسبية التكوين، وديناميته، وخصوصية الدلالة، وتجلي العلامة كنغمة في هارموني اللوحة، وفي وعي المشاهد، وقد نُعاين أيضاً جماليات العفوية الذاتية، التي تمنح اللون حياة جمالية متجددة في علاقاته المتشابكة مع إيقاع اللوحة، ورموزها، ودوالها، وتكويناتها الرمزية الأخرى، ومن ثم نلاحظ أن المشروع الجمالي التجريدي –عند الدكتورة نجاة مكي– يؤكد النسبية، والتنوع، والتعددية، والأصالة الروحية، والثقافية، والعفوية الذاتية التي تجدد تراث التجريد عند بولوك، وروثكو، وموندريان، وفرانز كلاين مثلاً، ولكن بصورة مغايرة تجمع بين التجريب، والخصوصية، والأصالة؛ لأنها تحيلنا إلى التكوين العفوي للون، ولكن في سياق سيميائي يحتفي بالرموز الثقافية؛ مثل الحمام، والمياه، والمرأة، والأزياء العربية، وتشكيلات الأرابيسك العربية والإسلامية، وإيقاع الصحراء وما تتضمنه من شاعرية، ومواجهة وجودية أولى متجددة بين الإنسان والعالم.



هكذا تجمع د. نجاة مكي بين الذاتي، والروحي، والرمزي، وأحياناً توحي بالعمق والتعددية التي تحتمل الهارموني، والاختلاف داخل الشكل الهندسي مثل المثلث، ومن ثم قد نعاين –فيما وراء البنية الهندسية التجريدية- الأصوات، والرؤى، والقوى الثقافية، والأزمنة المتداخلة، وحدس الخلود، وصخب الحياة الممزوج بتيارات المياه ذات الإيقاع الداخلي الهادئ، والمساحات البيضاء، التي توحي بدينامية العمل الذاتي المستمر في إكمال اللوحة، أو استنزاف بنيتها الذاتية باتجاه الانتشار المحتمل للعلامات، والدوال في الفضاء الجمالي الأوسع.

إن تشكيلات الفنانة الدكتورة نجاة مكي تحيلنا إلى التمازج السيميائي بين إيقاع اللون، وما يتضمنه من تكوينات للموضوع، أو الموضوع الطيفي الذي يذوب في بنية اللون، أو تياره العفوي في اللوحة؛ فقد يبدو موضوع المرأة داخل تيار اللون، ومنفصلاً عنه بصورة توحي بثراء العلاقة البنيوية بين الداخل والخارج؛ وكأن صور المرأة تتشكل في تيار اللون الأحمر الممزوج بإيماءات العمق الأسود؛ ومن ثم تحيلنا الفنانة إلى موضوع هوية المرأة، وتجليها الجمالي في عوالم اللاوعي، أو في التيار العفوي للحياة بكل ما تحمله من استدعاء للأزمنة والأصوات، والأحداث المتداخلة فيما وراء بنيتي تكوين العلامة كموضوع قيد التشكل، واللون في حضوره الدينامي اللامركزي؛ ويأتي المكان أيضاً –بمستوياته التراثية، والمعاصرة العميقة– فيما وراء إيقاع التجريد في مشروع الدكتورة نجاة مكي؛ فالتيار الذي يشبه المياه يذكرنا بصخب علامة المياه في حكايات ألف ليلة؛ مثل حكايات بدر باسم، وحسن الصائغ البصري، وعبد الله البحري، والسندباد البحري، وغيرها؛ وقد انطوت مثل هذه الحكايات على نغمات الصراع، والصخب، واليوتوبيا المفقودة، والتعاطف الكوني؛ أما الصحراء فتذكرنا بذاتية الشعر الغنائي عند طرفة، وامرئ القيس، وتشكيلات الصيد الصاخبة فيما قبل التاريخ، والأصالة التي وجدت عند منيف، وبلاغة الحجر في اللاوعي الجمعي مثلما في رواية المريض الإنجليزي لمايكل أونداتجي؛ ومن ثم فنغمات الموضوع –في تشكيلات د. نجاة مكي– تؤكد تعددية مستويات الهُويّة التي بدأت من ذاتية حضور المرأة، ثم مزجها بالجمالي/ موسيقى اللون، ثم إحالة المشاهد إلى عمق الفضاء، وتجدد الأصوات، والأزمنة فيما وراء التجسد اللوني الدينامي للمكان.
 

ويمكننا قراءة بعض لوحات الدكتورة نجاة مكي –بصورة تفصيلية- وفق منهج تشارلز ساندرز بيرس في التحليل السيميائي لبنية العلامة؛ فقد جمع بيرس –في مثلثه التحليلي السيميولوجي– بين كل من البنية التصويرية للعلامة، وموضوعها، وكيفية اتصالهما، ثم الأثر النسبي الذي تحدثه العلامة في المؤول، أو المؤولين المحتملين في المستقبل بصورة دينامية؛ ومن ثم أرى أن تحليل بيرس يكشف عن امتداد حياة الأثر الجمالي، وعبور العمل الفني للأزمنة عبر تعدد المشاهدين المحتملين، وثقافتهم، ونقاط اهتمامهم، وخبراتهم الذاتية، والمنطقية؛ ومن ثم تتشكل العلامة وفق صورتها التمثيلية، وما وراء التمثيل الجمالي من موضوعات، ودلالات؛ فالصور التمثيلية لعلامات د. نجاة مكي، سوف تنقلنا من بلاغة الشكل الهندسي مثلاً إلى موضوعه الخفي في الذات، ثم احتمالاته الدلالية الذاتية، والأدائية، والمنطقية في فعل التأويل العلاماتي المتجدد.

يرى تشارلز ساندرز بيرس –في كتاباته البحثية والنقدية المختارة- أن العلامة التصويرية لا تشير –بصورة رئيسة– إلى خصوصية تكوينية؛ فظهورها متغير، ويقوم على بنية التشابه، ويكمن حضورها المختلف في إمكانية إشارتها الضمنية إلى علامة تصويرية أخرى محتملة2.

هكذا يميز بيرس العلامات التصويرية من داخل علاقة التشابه، والإحالة إلى الآخر كبديل عن الثبات النسبي التكويني؛ ويمكننا تأويل تشكيلات اللون، وخصوصيته، وديناميته في اللوحة –في مشروع د. نجاة مكي التشكيلي– عبر أثره الجمالي المتضمن في بنية التشابه، ونغماته المحتملة، وإمكانية توليده لعلامات استعارية أخرى بين عمق علاقاته المتشابكة السيميائية في بنية اللوحة، والإحالة إلى علاقات مشابهة أخرى ممكنة في سياق الدينامية الإنتاجية الإبداعية للعلامة.
 


المثلث التجريدي بين الصخب والحكمة

تحيلنا د. نجاة مكي –في لوحة المثلث التجريدي– إلى كل من الصخب الذاتي للون، وهارموني الصعود، أو التوافقية الجمالية لعلامات الألوان في صعودها نحو رأس المثلث، وفي بنية الأخضر الكثيف الذي يوحي باطمئنان داخلي في رحلة الصعود الذاتي للروح، أو للحكمة؛ أما الصخب الذاتي فقد تجلى في الضربات العفوية للفرشة في علامات الأحمر، والأسود، والبني، وما يمكن توليده منها من علامات تكوينية طيفية مؤجلة في مركز المثلث، وفي اقتراب الذاتي من هارموني التكوين بالاتجاه نحو الأعلى.

وتذكرنا حركتي الصخب، والتوافقية –في بنية المثلث التجريدي عند د. نجاة مكي– بتصور فاسيلي كاندنسكي في كتابه الروحانية في الفن؛ إذ يرى أن المثلث يتقدم ببطء، وبثبات نحو الأعلى إلى الحكمة؛ وقد يشير إلى بطل نبيل، أو إلى صور الأشخاص الحالمين الانعزاليين؛ والمثلث الأحمر قد يوحي بمادة ذاتية في قالب موضوعي3.

هكذا يؤكد فاسيلي كاندنسكي الدلالات الذاتية الدينامية للمثلث من حالة تحقق الهوية الذاتية الفردية في سياق الفن إلى الارتقاء الروحي في عالم الحكمة؛ كما يشير إلى التناقض الدلالي الإبداعي الداخلي في بنية المثلث الأحمر بين موضوعية التكوين الهندسي، والنزوع الفردي العميق في علامة اللون الأحمر.

ويمكننا تأمل علامة المثلث التجريدي عند د. نجاة مكي وفق منهج بيرس السيميائي؛ فعلامة المثلث التجريدي علامة تصويرية تقوم على العلاقة بين الحركية العفوية المختلطة، والصاخبة للألوان، والهارموني الكامن في بنية الشكل، وفي اللون الأخضر؛ أما موضوع العلامة فهو الصعود الذاتي المملوء بالصخب، والتدافع؛ ومن ثم فعلامة المثلث علامة أيقونية تصويرية، تقوم على التشابه بين حالة ذلك الصعود الداخلي المتدافع نحو الحكمة، وعلامات الأحمر، والبني، والأسود، والأخضر في تشكيلاتها، وحواريتها الصاخبة الداخلية، والتزامها بحدود الشكل الهندسي في الوقت نفسه؛ أما المؤولات المحتملة لعلامة المثلث؛ فتقوم على نغمة تجدد الهوية، والتفاعل بين الفضاء الداخلي، والفضاء الواسع فيما وراء بنية المثلث؛ وقد توحي بتأكيد ثراء بنية الذات في لقائها بالعوالم الفنية، وبحثها المستمر عن الخلود، والتعالي الروحي؛ وتشير بنية المثلث التجريدي أيضاً إلى فرضية الاحتفاء ببروز التكوين الذاتي في المشهد؛ ويدل على هذه الفرضية كثافة تكوين المثلث، وامتلاؤه بعلامات اللون التي توحي بحياته الخاصة التي تعكس وهج الحياة الطبيعية بداخله، وتفاعل قواها الداخلية الواعية، واللاواعية.
 

المراوحة بين إيقاع اللون والتكوين المحتمل للعلامة

تومئ د. نجاة مكي إلى التمازج البنيوي بين ضربات اللون التعبيرية الدينامية، وتكوين المرأة الذي يبدو جزءاً من تحولات الحالة الداخلية الذاتية؛ فتكوين المرأة لا يبدو مكتملاً من الناحية البنائية؛ وإنما هو جزء من حياة اللون، وتنويعاته بين علامات الأحمر، والأسود، والأبيض؛ وكأن التحولات الذاتية التعبيرية للون، تحيلنا إلى علامة الآخر/ المختلف من داخلها؛ وهو تكوين يحتمل علامة أخرى للون؛ وهي علامة تصويرية تقوم على المشابهة بين حالة الصخب، واللون الملتبس بكينونة الأنثى، والتي تحيلنا بدورها إلى تجريد محض للون، أو لمزيج تكويني آخر بين علامة الجسد، والكثافة اللانهائية للون، والتي تستنزف حدود اللوحة، وتتصل بفضاء الرائي؛ لتؤكد موضوع التحول المستمر للعلامة بين الوهج الداخلي، والتجسد المحتمل في الفراغ؛ ومن ثم تجمع اللوحة بين موضوع المرأة الطيفي، واللون، والمزيج لون – امرأة، والمزيج الآخر امرأة – لون؛ فهي تمنحنا التنويعات السيميائية الممكنة، وأثر كل منها في تشكيل حالة الرؤية في حوارها مع الثراء الذاتي التعبيري؛ وغياب الموضوع المحتمل في اللون، أو غياب اللون في الموضوع، أو إنشاء تقاطعات عفوية من كل منهما.

ويمكننا تأويل اللوحة من داخل مثلث بيرس السيميائي عبر علاقة العلامة بموضوعها، والمؤولات المحتملة؛ وإذا بدأنا تشكيل المثلث من علامة تكوين الأنثى المختلطة باللون؛ سنجد أن التكوين يعكس موضوع المراوحة الجمالية بين الحالة الداخلية، وإحالتها إلى علامات استعارية تكوينية أخرى من داخلها، ومن ثم فعلامة تكوين الأنثى هي أيقونة تتضمن المشابهة لقوى الصخب والتجدد الداخلي؛ وسوف توحي –في فعل التأويل– إلى تخييل الذات، وظلالها في التجسد الاستعاري المحتمل للكينونة؛ والذي ينقل نفسه في إيقاع اللون، وإمكانية تشكيله لحالات أخرى بصورة تحويلية دينامية؛ وقد تدفع العلامة الرائي إلى الانحياز لذلك التمازج بين تمثيلات الذات، وتشكيل ظلالها في الحلم، وحلم اليقظة، أو تؤكد فرضية انعكاس التكوين الخارجي في الداخل، والعكس؛ فتمثيلات الأحمر، والأبيض، والأسود تعكس ظلال التكوين الخارجي بصورة حلمية، بينما يحيلنا ذلك التكوين إلى تمثيلات اللون في عمقه الداخلي اللامرئي، ومنظوره للذات، والعالم؛ وسنعاين –في اللوحة– أن الأسود المجرد قد أتى بصورة دينامية، توحي بعلاقة المشابهة مع موضوع المرأة، كما سنعاين أن علامة المرأة التي امتزجت بإيقاع اللون توحي بتداخل الذات بالموضوع الجمالي.
 

اتساع الفضاء ورمزيته وتعدد طبقاته

تحيلنا د. نجاة مكي إلى اتساع الفضاء عبر ارتكازها على اللون الأصفر في عمق اللوحي، وقد توسط تنويعات من الفيروزي، والأسود بصورة تشبه حركة المياه الهادئة، ومن ثم يذكرنا العمل بالتجريدية التبقيعية التي ارتكزت على الحقول اللونية -بدرجة رئيسة– في فضاء اللوحة من جهة، ويشير إلى دلالات الأصالة الرمزية التي تعيدنا إلى تمثيلات الصحراء الحلمية في تيار اللون، وما يخفيه من طبقات ثقافية كامنة خلف الفضاء؛ فهو حين يشير إلى الأصالة القديمة، يتضمن حكايات الماضي، وأصواته اللاواعية، وبعض أصداء الفن التي تتنوع بين الصخب الداكن، والحضور الطيفي فيما وراء تموجات الأصفر، وعلاقته بالفيروزي الذي يؤكد بنية الاتساع، ويصل الفضاء القديم بما يتجاوزه من أخيلة مائية تشكل علامته التمثيلية، أو يستشرف حالة التعالي الروحي العميق التي لا تنفصل عن حضور أمواج الماضي، وأخيلته.

ويمكننا البدء بتموجات الأصفر –في التحليل السيميائي للعلامة طبقاً لمثلث بيرس– فالأصفر يعكس موضوع تجدد الأصالة، وتعدد طبقات الفضاء، ورمزيته؛ وهي علاقة تقوم على المشابهة؛ فالأصفر يعيد تمثيل الصحراء بما تحمله من عمق دلالي، ورمزي، يرتبط بتجدد التشكيلات الحجرية الفنية في نماذج اللاوعي، وكذلك العودة الهادئة أو الصاخبة لشخصيات الحكايات القديمة عبر علاقتها بأخيلة المياه التي تميز الفضاء في اللوحة، وتؤكد عمقه، واتساعه، وتوحي البقعة الأورجوانية – في العمل– بكثافة حضور الماضي المستعاد في لحظة تشكل العمل، ومشاهداته المحتملة؛ أما المؤولات فتشير إلى التقدم الهادئ لعلامات الماضي في الحلم، وحلم اليقظة، وتغيير بنية إدراك الرائي للمستوى المرئي من الفضاء عبر حياته الخيالية الأخرى الدينامية الكامنة فيما وراء اللون، والتي تشبه أمواج الحلم، وتعددية مستوياته، وطبقاته، ورموزه الخفية الكامنة في الفيروزي الداكن الذي يتصل بأخيلة المياه، وتؤكد اللوحة أيضاً فرضية اتصال الخيال الإبداعي ببنية الفضاء؛ ويدل على ذلك حالة التموج الكامنة في الثابت نسبياً؛ ومن ثم للفضاء حياة، ونغمات، وأصوات تؤكد عمقه القديم، وأصالته التي يدل عليها أيضاً اللون المجرد؛ وكأن الفضاء ينقل نفسه في بديل استعاري محتمل داخل الذات، وفي ذاكرتها الجمعية المتجددة.


1. د. نجاة مكي: فنانة تشكيلية إماراتية؛ من معارضها الفنية علامات فارقة بمتحف الشارقة للفنون 2011، ومعرض قصر الإمارات بأبو ظبي 2011، ورواق الشارقة للفنون 2005، وغيرها.
2 - Read, Charles Sanders Peirce, Collected Papers of Charles Sanders Peirce, V. VII, VIII, Edited by Arthur W. Burks, The Belknap Press of Harvard University, 1966, p. 228.
3 - Read, Wassily Kandinsky, Concerning The Spiritual in Art, Translated by: T. H. Sadler, The Floating Press, 2008, p. 65, 66

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

نجاة مكي

لك شكري وتقديري دراسة اعتز بها من فنان وناقد لة رؤية نقدية في دراسة محتوى ما قمت بة في أعمالي المعروضة ...ممتنة كثيرا دكتور محمد لهذة الدراسة

10/13/2021 8:38:00 AM

1