الأيديولوجيا والوعي الحداثي

"مُساءلة أوليّة"

عزيز توما


جاءت ولادة لفظة الأيديولوجيا idéologie في عام 1796 وسط كوكبة من المفكرين الأنواريين الفرنسيين، من أشهرهم الطبيب كابانيس Cabanis (1808)، والفيلسوف كوندياك Condillac (1780)، والأخلاقي فولني Volney (1820). لقد اشتهر هؤلاء الأيديولوجيون بولائهم لفلسفة الأنوار، ومناهضة الفكر الميتافيزيقي الذي يمثل بنظرهم طفولة الإنسانية في كل العصور، ودعوا إلى حداثة وتطوير البلاد وفق قيم العصر. بعد صراع مرير مع الكنيسة (الكهنوت)، وما أطلقه هذا الصراع من مناخات فكرية وسياسية وفلسفية، لعبتْ دوراً مُهماً في تبلور مفهوم (الأيديولوجيا). لقد كان الكهنة يرون في فلسفة الأنوار هذه تهديداً يهدف إلى تدمير القيم الدينية وغايات غير بريئة، لكنّ فلاسفة التنوير كان لهم رأي آخر تمثل في أن الكهنة يشكلون سلطة مستبدة تجسد التخلف والاستبداد وتعكس مصالح الفئات الأرستقراطية المهيمنة. لهذا؛ فقد سعوا إلى عزل الأوهام التي تعترض العقل الإنساني فتجعله عاجزاً عن الرؤية العلمية، وإلى تحرير العقل من سطوة التقليد والأفكار القبلية المسبقة، ومع ذلك لم تصل فلسفة الأنوار إلى طرح نظرية للأيديولوجيا متكاملة؛ لأنها انطلقت -بحكم ماديتها الوضعية الميكانيكية- من أن الحقيقة ثابتة متجسدة في الطبيعة، وتنعكس مباشرة في الذهن الطبيعي عندما يتخلص من المعتقدات التقليدية والأوهام المسبقة، وكذلك حين يتبع مبادئ علمية ومنطقية. ولم تزدهر الأيديولوجيا إلا بعد التطورات التي أدخلتها عليه الفلسفة الألمانية (ولاسيما فلسفة هيجل) ومن ثم ماركس، لتعود للتداول مجدداً في صيغ وأبعاد جديدة، متشابكة، وأكثر تعقيداً، مع تطور الفلسفات والعلوم الحديثة. بهذا تم وضع أسس ومقومات التفكير العلمي اللازم للتخلص من الحيدان عن الحقيقة الواقعية1، وكان فرنسيس بايكون Francis Bacon ومن بعده دوتراسي A.D. de Tracy وكوندياك É.B. de Condillac قد ابتكروا مفهوم الأيديولوجيا أي (علم الأفكار).


بيد أنّ المصطلح الجديد، منذ انطلاقته، لم يكن يشير إلا إلى منظومة من أفكار وتصورات محايدة متصلة بالمجتمع والتاريخ، إلا أنّه لم يلبث أن اختزن شحنةً قدحية وسلبية فيما بعد. هكذا فقد ظل منذ نشأته محل صراعات تتعلق بمدلوله المضطرب؛ فتارة يقتصر على الظاهرة الثقافية فيصبح رديفاً للثقافة، وتارةً أخرى يشير إلى الهوية العقائدية السياسية ببعدها الدوغمائي. وإذا تأملنا الحالة المتعلقة بهذه الظاهرة يجري الحديث عن صراع الأفكار، وتالياً صراع الأيديولوجيات، وصراع الأفكار هذه بقيت ملازمة للإنسان باستمرار، وغالباً ما كان يرتبط بنوع من الاعتقاد الوثوقي الذي يجعل صاحبه غير قادر على تصور شيء آخر غير ما يعتقد، ويمكن أن يضحي من أجله إلى أقصى حد.

عموماً، تقوم نظرية الأيديولوجيا في سياق نظرية اجتماعية تاريخية متكاملة؛ فهي ترتبط ارتباطاً عضوياً بمفهوم المجتمع والتاريخ، فكلمّا نظرنا إلى مسألة مطابقة الفكر مع الواقع في إطار علاقة الفكر الفردي بالحق، كلمّا رفضنا الحاجة إلى الأُدْلُوجة، أي كلمّا حصرنا المفهوم في نطاق المنطق، كلمّا ذاب وانفسخ. إنّ مفهوم الأدلوجة لا ينتعش ولا يتبلور إلا في نطاق نظرية اجتماعية ونظرية تاريخية بصورة كاملة2. وفي كل مجتمع يتألف من طبقات وشرائح اجتماعية، تلعب الأيديولوجيا السائدة دور تسويغ هيمنة الطبقة السائدة اقتصادياً وسياسياً، على أنّ مصالح هذه الطبقة هي مصالح الأمة جمعاء. وبغض النظر عن ماهية الأفكار والتصورات، الضمنية والمعلنة؛ فإنّ الأيديولوجيا السائدة تلعب دور تحقيق هيمنة الطبقة السائدة وحليفاتها التي تتمسك بزمام السيطرة السياسية والاقتصادية، وهو دور أساسي يمهِّد لدور (القمع والاكراه) التي تمارسها هذه الطبقة في جهاز الدولة3. وإذا كان المناخ الأيديولوجي السائد علمياً وحديثاً؛ فإن الطبقات والفئات تتوسل أفكاراً علمية وعقلانية للدفاع عن مصالحها، وإذا كان المناخ تقليدياً متأخراً؛ فإن صراع الفئات والطبقات تأخذ أشكالاً وأبعاداً لاعقلانية، عندئذ يصبح تغيير الأيديولوجيا السائدة شرطاً هاماً وضرورياً لإطلاق حركية الصراع الاجتماعي التقدمي، للتخلص من التطور الدوراني الركودي4. ولا يمكن تغيير الأيدولوجيا إلا بثقافة جديدة نقدية التي هي من مهمة الطبقة الثورية.

تكمن غرابة الأيديولوجيا في عدم انسجامها مع الواقع بسبب عوائق ذكرناها سابقاً تتعلق برؤيتها للعالم، إلى التأخر والتقدم، رؤية لا تستقيم إلا في ميدان التاريخ وعلى أرضية نسبية وقياسية. وإذا انتقلنا من حقل التاريخ، إلى حقل المعرفة، يصبح الوعي الأيديولوجي نقيضاً للعلم والمعرفة الأيديولوجية، ويشكل -والحالة هذه- حجاباً يحول دون رؤية الواقع رؤية صافية، ويهوّم الوعي في إطار الأيديولوجيا التي تبدو وكأنها تنطوي على تماسك داخلي، لكنها منفصمة بدرجة أو بأخرى عن الواقع الذي أنتجها. وكل نظرية علمية يمكن أن تتحول إلى أيديولوجيا عندما تفقد نسقها الجلي النقدي، فتتخلف عن حركة الواقع الذي أنتجها، وتصبح بالنتيجة عائقاً أمام تطور قواه الحيّة. كما أنّ معيار صلاحية أي نسق ذهني، أو منظومة فكرية ليس الاختيار الذاتي لمثقف حاذق، أو النخبة من المثقفين المعزولين، بل هو بالضبط مدى مطابقة هذا النسق لحاجات الواقع في اللحظة التاريخية المحددة أي عندما يعبر عن (الضرورة التاريخية) للتقدم.

وإذا كانت الحداثة نتاجاً غربياً محضاً ومحصلة لسياق التطور التاريخي الغربي، فهي وفقاً لذلك وريثة لعصور مختلفة تمتد من العصور القديمة اليونانية، وعصر النهضة والأنوار لتنتهي إلى الحداثة بوصفها الزمن التاريخي، الذي كثف معارف العصور السابقة جميعها، وأعاد إنتاجها بصفة إنسانية من نوع جديد أطلق عليها النزعة الإنسانية، لتأخذ هذه النزعة سمة كونية ليس لفضائلها الخلفية فحسب؛ وإنما لتداخل اعتبارات سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية معينة.

في السياق ذاته، من المفيد أن نستعرض مفهوم الأيديولوجيا منذ ظهوره في أوساط ثقافية مختلفة، انطلاقاً من ربط المفهوم بالحداثة الفكرية والسياسية. فإذا كانت الحداثة تشير -من بين ما تشيره- إلى الحقل السياسي القائم على الفصل بين المقدس والسياسة؛ فإن مفهوم الأيديولوجيا يوحي على أنه إرجاع للأفكار والقيم والتصورات المرتبطة بالواقع الاجتماعي، وبمعنى التاريخ واتجاهاته وصولاً إلى محددات وحتميات اجتماعية عينية كالطبقة أو المهنة، وإلى مصالح طبقية أو فئوية وتضليل فكري تمارسه الطبقات والفئات الاجتماعية على بعضها تحت طائلة الصراع. فالحداثة، في موضوع الأيديولوجيا، هي إرجاع القيم والأفكار إلى الواقع الاجتماعي وإلى المحددات التاريخية؛ لأن التاريخانية هي جوهر الحداثة الفكرية.

في الواقع، لم تظهر الظاهرة الأيديولوجية إلا في العصور الحديثة، لهذا فهي مرتبطة بظهور الدولة الحديثة وبأفول العالم القديم وبالثورة الفرنسية التي ( دشنت عصر الحركات الجماهيرية المطبوعة بالأيديولوجيا)5، وارتبطت عموماً بنشأة النظام الرأسمالي، وبتمركز توسّع المدن الكبرى، وبنشوء الفرد كقيمة اجتماعية وكفاعل اجتماعي مستقل ومسؤول حقوقياً وقانونياً على الأقل، وبلغت ذروتها بظهور وسائل الإعلام، وعلى رأسها الطباعة والراديو بقدرتها السحرية والتعبوية الفريدة، كأداة جماهيرية واسعة، استعملتها على نطاق واسع معظم الثورات الجماهيرية الكبرى في العصر الحديث.

ويشار إلى أن المجتمعات الحداثية المعاصرة تميل أكثر إلى إنتاج الأيديولوجيات؛ لأنّ درجة الإجماع فيها أقل بكثير من درجة الإجماع في المجتمعات التقليدية، لأنّ الناس موزعون فيها بين العديد من الولاءات والاختيارات. كما أنها مجتمعات تتميز باشتداد الأزمات الاجتماعية وكذلك الأزمات السياسية، وهي الظروف المناسبة لإنتاج الأيديولوجيات. أما المجتمعات التقليدية فهي أقل استهلاكاً، وربما إنتاجاً للأيديولوجيات بسبب غياب التنوع والتعدد وطاقة الإجماع، في الوقت الذي تكون الحداثة مرادفة للتعدد، حيث تتميز الأخيرة بإجماع ضعيف، وهي السمات التي تتحكم في كمية الطلب الأيديولوجي (وهذا ما يجعل الحداثة تتميز ربما كعصر أيديولوجي، بل كعصر للأنساق الأيديولوجية)6.

أخيراً؛ من الملاحظ أنّ جميع استخدامات الأيديولوجيا تتقاطع في نقطة واحدة وهي (أن الأفكار لا تحمل حقيقتها بل تتستر على حقيقة أخرى باطنية). كان مانهايم قد استخلص في كتابه الأيديولوجيا الطوباوية أن الأيديولوجيا هي الابتعاد عن الواقع والعجز عن إدراكه. وكان نيتشه يرى أن التاريخ كان حرباً دائمةً بين القوي والضعيف، بين السيد والمستضعف، لذلك فإن الأدلوجة أوهام ابتدعها المستضعفون لتغطية غلهم ضد الأسياد حسب رأيه. وحسب فرويد لا يمكن فهم الأفكار والمنظمة الاجتماعية والمذاهب بالنظر إلى القواعد العقلية التي أنشأتها، بل لا بد من الغوص في ما يتحكم بالعقل ويستخدمه. إن القوة التي تستخدم العقل لتنفيذ أغراضها بوسائل ملتوية هي الرغبة المكبوتة وراء الوعي.


الهوامش
1 –R.Debray, Critique de la raison politique, Gallimard, 1981,p.136
2 –Debray: opcit, p.146
3 –Jurgen Habermaz, théorie de l'agir communicationel, Fayard, 1987, p.116
4 –Habermaz, opcit, p.55
5 –J. Baudrillard, la modernité, Fayard, 1990, p.45
6 –Jean.Gabel, Idéologie, le poche, 1980, p.199

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها