الجَمال في مقابل الشَّر

ترجمة: محمد زين العابدين

 يثير كاتب المقال "ستيوارت جرينستريت" قضية شديدة الجدل والحساسية، ويتساءل عما إذا كان من الممكن أن نحكم على عمل ما بأنه جيد من الناحية الفنية؛ حتى لو علمنا أنه شر أخلاقياً. كما يناقش العلاقة بين الشكل والمحتوى في الأعمال الإبداعية، وصلة ذلك بالتوجه الأخلاقي لمبدعيها. 
 

فيلم (انتصار الإرادة) والمظاهر الفنية المبتذلة

كتب (جون كيسي) في كتابه (لغة النقد): "ليس من قبيل الصدفة أن تكون المظاهر الفنية للفاشية مبتذلة إلى أقصى حد". تقول الحُجّة إن الأمر ليس من قبيل الصدفة؛ لأن الأعمال الفنية تأخذ طابعها من صانعيها. يعتمد الفن على سمات مميزة مرتبطة بكيفية رؤية الفنانين للعالم، والموقف الذي يتخذونه تجاهه لذا؛ فإن الفن الفاشي -على سبيل المثال- لا بد أن يكون سيئاً؛ لأنه يجسد القيم الفاشية والنظرة الفاشية للعالم.

ويرقى هذا إلى الادعاء بأنه من المستحيل على الأفراد والمؤسسات الشريرة إنتاج فن جدير بالثناء، أو أن يكون العمل الفني جيداً من الناحية الفنية، إذا كان سيئاً من الناحية الأخلاقية. وقد تم اختبار هذا الادعاء بشدة في فيلم (انتصار الإرادة) Triumph of the will لـ(ليني ريفنستال Leni Riefenstahl) عام 1935، وقد كان بمثابة قطعة من الدعاية النازية، تولى (هتلر) تكلفتها، وساعد في إنتاجها. لكن لم يكن الفيلم مبتذلاً.

وعادة ما يُحكَم على هذا الفيلم بأنه "جميل وشرير"، فالمعايير الفنية والأخلاقية تتجاذب في اتجاهين متعاكسين. وبالتالي؛ فإن السؤال التقييمي الأساسي هو ما إذا كان المحتوى الشرير للفيلم يبطل ميزته الفنية أم لا، والفيلم يتحدث عن (حزب نورمبرج) عام 1934، وعن أحد مسيرات (الرالي) العملاقة العديدة، التي روج لها الحزب النازي في الثلاثينيات. استمر الرالي سبعة أيام، وشارك فيه الآلاف من المشاركين، ويُقدَّرَ بأنه اجتذب نصف مليون متفرج. ذهب هتلر إلى (نورمبرج) للمساعدة في تنظيم العرض، الذي شارك فيه الآلاف من الجنود والفرق المُسيَرة، والمواطنين العاديين. وقد تم تصوير الفيلم بناء على طلب هتلر وبدعم منه، حتى إنه اختار اسم الفيلم.

وكعمل دعائي؛ يهدف إلى نشر العقيدة النازية وتعبئة الشعب الألماني؛ يقدم (انتصار الإرادة) مبادئ الاشتراكية الوطنية، كدين سياسي تهدف صوره وعقيدته، وسرده إلى ترسيخ مبادئه: "الأمة الإمبراطورية الواحدة"، و"الزعيم الملهم هتلر"، و"الرايخ الثالث الذي سوف يستمر ألف عام".

والسمة الأكثر إثارة للقلق في الفيلم، هي كيف أنه يقدم رؤية جميلة لهتلر وألمانيا الجديدة، تعتبر شريرة من الناحية الأخلاقية. وقد كتب عنه أحد النقاد: "انتصار الإرادة هو عمل خيال إبداعي، مبتكر من الناحية الأسلوبية والشكلية، وكل تفاصيله تساهم في رؤيته المركزية وتأثيره العام".

وتقول الناقدة (ماري ديفيرو) في مقال عن الفيلم بعنوان (الجمال والشر): "الفيلم جميل جداً.. تم تصميم كل تفاصيله لتقديم رؤية، بينما أثبت التاريخ زيف الشخصية الحقيقية لهتلر، والاشتراكية الوطنية. لكن الفيلم يجعل شيئاً شريراً -ألا وهو الاشتراكية القومية- جميلاً، وبذلك يغرينا باكتشاف ما هو مثير للاشمئزاز من الناحية الأخلاقية".
 

الشكلية كحل لمعالجة مشكلة التقييم

هناك حل قياسي لمعالجة مشكلة التقييم، التي تنشأ عندما يتشابك الجمال مع الشر في عمل فني واحد، ويُعرف الحل باسم "الشكلية"، فهو يضع ستارة حديدية بين شكل العمل الفني، ومحتواه؛ فالشكل هو اختصار للسمات الشكلية للعمل، والتي تشتمل في الفن المرئي (بما في ذلك الفيلم) على التوازن، والتماثل (السيمترية)، والرؤية.

والتي يتم تحقيقها جميعاً عادةً من خلال ترتيب الأشكال والخطوط والألوان. فالسمات الشكلية للموسيقى يمكن أن تشمل المفتاح المختار، والإيقاعات ودور الآلات المختلفة، والفترات الفاصلة بين النغمات. ونحن نأخذ السمات الشكلية للعمل الفني من خلال أعيننا (في كل الفنون المرئية)، أو من خلال آذاننا (في الموسيقى)، أو من خلال العينين والأذنين (في الباليه)، وفي الدراما التي يتم عرضها على أي من المسرح أو الشاشة. وفي حين أن السمات الشكلية للعمل الفني تشغل حواسنا؛ فإن محتواها يروق لأذهاننا وعواطفنا، ويجعلنا نفكر ونشعر. لذا؛ فإن المحتوى يشير إلى المعنى، أو الرسالة التي ينطوي عليها العمل الفني، والتي يسعى صناعها جاهدين للتعبير عنها. وتطلب منا الشكلية تقييم الفن بشكل ضيق، فقط من حيث سماته الشكلية؛ وللحفاظ على هذا التقدير بعيداً عن أي تقييم موازٍ لمحتواه العاطفي أو السياسي، أو أي محتوى آخر.

لكن هل هذا ممكن بالفعل؟ لنضع في اعتبارنا هذين الوصفين النقديين للعمل الموسيقي: أولاً؛ من حيث سماته الشكلية: يفتتح العمل بسلم (دو) الكبير، ولكنه بعد ذلك يتغير إلى سلم (لا) الصغير؛ الموضوع الذي قدمه المزمار، يتم تناوله بواسطة الكمان؛ فتصبح الإيقاعات متداخلة بشكل متزايد.

وثانياً؛ فيما يتعلق بالعواطف التي تم التعبير عنها، أو (محتوى العمل): فبعد افتتاح هادئ، ومبهج، تصبح الموسيقى مضطربة، ومعزولة بشكل تدريجي حتى تتحول أخيراً إلى فورة أخيرة من الحزن. حاول أن تتخيل وصفاً نقدياً للسيمفونية التاسعة لبيتهوفن، المعروفة باسم (الجوقة)؛ تجاهل محتواها، وأشار فقط إلى سماتها الشكلية. وعند إغفال الإشارة إلى تفاؤل السمفونية ونبلها؛ فإن الناقد سيحتال علينا. لكن لنفترض أنه يمكننا إجراء تقييم جمالي بحت لخصائص العمل الرسمية دون مناقشة محتواه؛ فمن شأن ذلك أن يسمح لنا بتجاهل الدعاية النازية في فيلم (انتصار الإرادة)، والحكم عليها على أنها "فن من أجل الفن". ببساطة، وبشكل مجرد يتم الحكم على الفيلم من حيث صفاته الشكلية.

وفي هذه الحالة، سنكون أحراراً في الحكم عليه جيداً من الناحية الفنية -حتى لو علمنا أنه سيئ أخلاقياً. ومع ذلك -وكما سنرى- فإن هذا ليس حلاً عملياً، ناهيك عن أنه حل غير مقبول أخلاقياً. في أفضل الأعمال الفنية يندمج الشكل مع المحتوى؛ وبالتالي فإن قيمة مثل هذا العمل الفني ليست شيئاً يمكن الحكم عليه بمعزل عن الصفات الأخلاقية لمحتواه. وهذا ما قصده الناقد (ليفيس)؛ عندما قال: إن "الأعمال الفنية تسن تقييمها الأخلاقي". عندما نفحص الإتقان الشكلي لرواية (إيما) لـ(جين أوستن)؛ نجد أنه لا يمكن تقييمها إلا من منظور الانشغال بالأخلاقيات، الذي يميز اهتمام الروائية العجيب بالحياة.

 

التكامل بين شكل العمل الفني ومحتواه

أولئك الذين يفترضون أنها "مسألة جمالية"، وأن جمال "التكوين" يتم دمجه بأعجوبة مع "حقيقة الحياة"؛ لا يمكنهم إعطاء سبب كافٍ للرأي القائل بأن (إيما) هي رواية عظيمة، وليس من ذكاء التقدير الاكتفاء بالإشارة إلى إتقانها من حيث الشكل. الشكل والمحتوى ليسا عنصرين منفصلين جمعتهما (أوستن) بأعجوبة؛ إن الشكل الجمالي للرواية هو في حد ذاته يُشرِّع، ويعبر ويبعث الحياة في المحتوى الأخلاقي للرواية.

لذا؛ فإن شكل العمل الفني جيد الصنع يتكامل مع محتواه؛ فيصبح الاثنان غير قابلين للتجزئة. ولإثبات هذا الادعاء سنقدم دليلاً آخر، وهو الرسم الجداري الأشهر لبيكاسو: الجيرنيكا (1937). و(جيرنيكا) هو اسم بلدة (الباسك) في شمال إسبانيا، وهي معقل للمقاومة الجمهورية خلال الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939). في 26 أبريل 1937 تعرضت (جيرنيكا) للقصف لمدة ساعتين، من قبل الطائرات الحربية الألمانية النازية، والفاشية الإيطالية، بناءً على طلب القوميين الإسبان، والذين كانوا يقاتلون للإطاحة بكل من حكومة الباسك، والحكومة الجمهورية الإسبانية. دُمِّرت المدينة، ووفقاً للأرقام الرسمية الباسكية قُتل 1654 مدنياً. وقد رسم بيكاسو (الإسباني المولد) لوحة (جيرنيكا) تخليداً لذكرى فظائع القصف. إنه عمل يُشرِّع بالتأكيد تقييمه الأخلاقي. من المستحيل إجراء تقييم شكلي بحت للجيرنيكا؛ لأنه لا يمكن للمرء أن ينحي محتواه جانباً (الغضب، والشفقة التي يبرزها).

وقد أوضح بيكاسو أن اللوحة مستوحاة من "اشمئزازه من الطبقة العسكرية، التي أغرقت إسبانيا في محيط من الألم والموت"؛ أنتجها كسلاح في حرب ضد الفاشية. كانت (الجيرنيكا) هي أداة الحرب الخاصة به. وكان فيلم (انتصار الإرادة) هو أداة هتلر في التعبئة للحرب. إنهما عملان ملتزمان، يشتركان في كونهما خصمين في معركة، ويجب الحكم على كليهما على هذا النحو.

 

العلاقة بين الأعمال الإبداعية والمواقف الأخلاقية

يقودنا التأمل إلى نتيجتين: أولاً؛ أن هناك صلةً بين القيمة الفنية للأعمال الفنية، والمواقف الأخلاقية لأولئك الذين يقدمونها، والتي تشمل أولئك الذين يُلهِمون الفن، ويُلهَمون به، فضلاً عن أولئك الذين يصنعونه بالفعل. وثانياً؛ أن هذا الارتباط ضروري، وليس عرضياً، وهذه الضرورة ليست من النوع المنطقي؛ ولكنها نوع من الضرورة الجوهرية، وهو نوع متأصل في العمل. كيف إذن (في ضوء هذه الاستنتاجات) ينبغي أن تكون حقيقة أن (انتصار الإرادة) يتميز بسمات شريرة عند تقييمنا له كعمل فني؟ فمن الواضح أن الفيلم له قيمة فنية.

لقد رأينا إذن؛ أن النهج الشكلي البحت لعمل فني يثير قضايا أخلاقية، تتمثل في فصل التقييم الجمالي عن التقييم الأخلاقي، وتقييم العمل من الناحية الجمالية (أي الشكلية) وحدها.




المصدر ‣ Philosophy Now Magazine

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها