دراما الذات.. والتوحد مع اللغة

في الديوان الرقمي "بعد الستين"

محمد عطية محمود



"محفوفاً بتجارب عمري/ أمشي محتشدًا حينا بالأنصار/ وحينًا بالخذلان" م.ز


تبدو من خلال قصائد ديوان "بعد الستين"1 للشاعر المصري "محمود عبد الصمد زكريا"، عصارة تجربة مع كتابة إبداعية تنتمي إلى الحركة الشعرية العربية، بسمات أسلوبية وفنية تتمتع بها القصيدة التي ترسو معه إلى شاطئها بسلاسة وانسيابية، لتقدم صوراً شعرية درامية ملتحمة بواقعها الإنساني الشفيف، المشتبك مع تداعيات الواقعين: الداخلي، والمحيط، بقصائد تتعتق فيها رائحة الشعر ومذاقه؛ لتعقد علاقة حميمة مع كل العناصر التي تعانق مفاهيم متجددة للحداثة والتجربة الروحانية/ الميتافيزيقية، والعقيدية، والمحافظة في الوقت ذاته على التراث الشعري العربي بتلاوينه ورموزه، وعراقة مفرداته اللغوية المرتبطة بالبيئة الحاضنة الخصبة بالخيال.

فهو يقول في قصيدته المعنونة "يرضيني لا يكفيني" عن تجربته الآنية مع الشعر، ومع هذه الحقبة من العمر التي تفرز على المستوى النفسي ومستوى التوحد مع اللغة، تعبيراً وتجسيداً لسيرة ذاتية حسية، يضفِّر بها الشاعر مع ما يمتلك من أدوات، هذه العلاقة مع اللغة بمفرداتها والقدرة على تطويعها من أجل إنتاج نص شعري مائز تفوح منه رائحة الوجود الذاتي الذي يكاد يكون صرفاً، بتلك الصور التي تشتبك فيها درامية اللحظة التي يصوغ منها مشهداً معبراً، ومجسداً لتلك الحالة من التوحد مع الذات من جهة، والتوحد مع اللغة من جهة أخرى:
"لكن ما يعنيني/ أن أستجمع نفسي/ في قبضة لغةٍ/ أنفخ فيها من روحي/ فتصير قصائد/ وألوذ إليها فرحاً/ تمسك بعضاً مني/ أو أمسك بعضاً منها/ ثم نوسع قلبينا/ حتى يتطامن في كل منا الفرح الخائف"2.

حيث يبدو هذا الإيقاع المتقاطع مع خلجات النفس التي تتماهى مع اللغة، وامتلاك ناصية البيان فيها من خلال تلك المنممات والمسارات التي تسري فيها، وعناصر التخييل؛ لتشرح علاقة الذات بها من: تقارب، ثم معايشة، فالتحام بتلك المفردات التي تسبح في حالة العشق الروحانية التي ربما التمست البعد السريالي في معالجتها للأشياء والصور التي تتحول في اندماجه معها إلى بعد إنساني روحاني شفيف، مستمد من عملية الخلق، بفعل الأنسنة ونفخ الروح في الجمادات التي تتشارك الحياة مع الذات الشاعرة، ومن ثم تفلسف وجودها على هذا النحو، ربما لتكتمل المعادلة بقوله في نهاية القصيدة:
"حينئذ/ أصفو، وأشف/ وأشعر أني مكتمل/ لا يعنيني أن أبدو كبدائي/ أو أغدو (سوبرمان)3.

منطلقاً من تراثه/ ماضيه البدوي إلى معانقة الحداثة فيما حوله، تشكل علاقة التكامل هنا عنصراً مهمّاً من عناصر التطلع إلى غاية ينشدها الشاعر من لغته/ شعره الملتحف بكل تفاصيل حياته ومتخيلها الروحاني المحلِّق، والتي لا ينفصل عنها معبراً في كل أحوالها واضطراباتها ونزوعها إلى الاستغناء والتخلي، والتحلي بروح العارفين المتطلعين إلى آفاق أعلى وأرحب للوصول إلى قناعة الذات بسيادتها وتفردها، ومن ثم بلوغ غاية الاكتمال والاكتفاء بالذات/ الأنا الأعلى في تفردها وعلو هامتها، من خلال علاقتها بالوجود من حولها، وهذه العملية الفيريكيميائية التي توفر لها القصيدة هذه السمة من سمات دراما الحكي الإنساني بالشعر، حيث تمثل إلى جانب اللغة العمود الفقري له، لترتاد آفاقاً أكثر اتساعاً دون القدرة الكبيرة الخارقة التي تملكها الحداثة في المدلول أو الإشارة التي ترمي إليها كلمة (السوبرمان)/ الرجل الخارق للعادة، بحساب تلك الحداثة المقترنة بالمواكبة الفعلية لكل ما يدور حول المبدع، وفي بيئته أو تأثره بخارجها المتغير والمتحول.

فها هو الشاعر يقول في موضع آخر في قصيدته "هوية"، مستنطقًا الأطياف ونافخًا فيها من قوة روحه/ ذاته ذاكرة الكلمة الحاضرة بلا غياب، وبتمكن الشاعر من لغته/ أيقونة وجوده التي تتمخض عن هذه الحالة من الخلق الفني الذي ينفخ الروح في مكنونات الأشياء فيعطيها حياة، وفعل الإحياء هنا فعل رمزي بامتياز وجوده في فضاء روحاني مفارق يتجه خصيصاً نحو جذب الأشياء لقوة مركزية هي الأنا، التي يتمحور حولها كل شيء في الوجود:
"أنا من رسمت الطيوف حروفًا/ ورجع قصيدتي/ حريق وماء"4.

وحيث يعتز الشاعر بتلك الهُوية/ الشخصية المتجذرة في الذات وفي تراثها/ تاريخها – التي يتماهى بها الشاعر مع نظيره الشاعر العربي القديم، أو يتناص معه مباهياً ومفاخراً بامتلاكه ناصية لغة لا تعطي مفاتيحها بالأمر اليسير، وهو في حداثته الراهنة - اعتزازه بتلك اللغة التي تترسمها وتشكلها وتضعها في إطار متخيل يتسع مداه ليلقي بجل المسألة خلف/ ما وراء هذه المادية إلى براح الروح، التي تنعتق لتصنع هذه الحالة من الزهو والخيلاء، تلك التي تمد الشاعر بالثقة فيما مضى من عمره، وما سيأتي بلا مبالاة منه، متكئاً على رصيد من الوعي بالمفردات من حوله، وما هو قادم من أيام بزاد ممتلئ وواثق من قدرته على الاستمرار والتجدد، برغم مرور سنوات العمر وتراكم خبراتها وأثقالها على كاهله، حيث يقول عن تجربته الشعرية في قصيدته الرئيسة "بعد الستين":
"محفوفًا بتجارب عمري/ أمشي محتشدًا حينًا بالأنصار/ وحينًا بالخذلان/ تتقافز حولي جنيات الإنس/ وبعض بكور من غزلان/ يجمعن الساقط من ياقوت العين/ على صدر الأرض بقدر الإمكان"5.

هنا تبدو المشهدية الدرامية - كملمح من ملامح السرد - لتضفي على القصيدة سمة التوثيقية للحدث المحفور في الذاكرة والوجدان والمخيلة، إضافة إلى الاستمرارية؛ لتجسد الصورة الشعرية التي تتضافر مكوناتها لصنع هذا المشهد العميق الأثر في وجدان الشاعر الذي يشرع يديه كمئذنتين ليكمل بهما بهاء الملمح الصوفي المتغلغل في ذاته الشاعرة، والتي تبدو من خلال كل مظاهر الاتحاد والائتناس بظلال الروح الملائكية الحافظة للذات، التي تتحول إلى كائن نوراني شفيف، والمبررة لتلك النزعة للخلق ونفخ الروح.. في جو أسطوري (ميثولوجي) تصنعه مفردات الجنيات والغزلان والياقوت، وما إلى ذلك مما تلتحف به الذاكرة الروحانية في ارتباطها الحميم بتلك الطقوس العربية الضاربة في الوعي والمتجذرة فيه، ما يبين إلى حد كبير تغلغل موروث الشاعر الحضاري والإنساني واللغوي فيه ليمده بهذا الألق وهذا التعاشق مع اللغة.

وهي القناعة/ الشجاعة التي يمضي بها الشاعر في قصيدته/ مسيرته التي ربما اختزلها في بضع من أبيات وسطور شعرية دالة ورامزة، ربما عمَّقت إلى حد بعيد جُل آثار التجربة التي تنبت من مبتداها، ولا تعرف إلى حد سوف يؤول إليه مصيرها/ خبرها/ منتهاها في مقطع يلخص فلسفة وجود تلك الأنا ولغتها، وعمق الإيمان بالمصير:
"ذنبي يا سادة أني مبتدأٌ/ كان وما زال/ ويبدو سوف يظل/ دون خبر"6.

لتشي الكلمات المتقاطعة مع دلالات اللغة وقواعدها، بهذه النهاية/ اللانهاية التي يضعها الشاعر لذاته حين يخاطبها تارة ويناجيها تارة، ويتركها نهبًا لأسئلتها تارة أخرى، في ديوان لا تكف قصائده عن المراجعات والأسئلة، ولا تتوقف عن اجتراح السكون الرابض حول كل الأشياء، فتكشف سترها بحرص بالغ وحذق ماهر بلغة لا تتوقف عن التشكل والتلون والإبداع، وبلاغة تعطي للقصيدة نكهتها المميزة:
"أسعى كغزال/ تحت الشجر الغافي/ والأغصان المشبوكة/ وألملم قطع الذهب المرشوشة/ فوق الأرض، وأنظمها عقداً من أضواء"7.

يملك الشاعر في قصائده الحس البلاغي الرمزي، مع المفردات المتراكبة بيسر، والمتعاشقة التي تصنع لها إطاراً جمالياً، يشبه المنمنمات والتشكيلات الجمالية المستمدة من الروح العربية المتمثلة في الغزال، والزخرفة العربية التي برع فيها الفنان العربي، وطرز بها القصور والمساجد والمتاحف والأماكن التاريخية والأثرية، والتي نبتت من هذا الفضاء الصحراوي الجاف الذي يتحكم في مصادر ذلك الموروث الصوفي الروحاني المرتبط بتلك الأسطورة.. تلك الرؤية البصرية التي تتحقق للحالة الشعرية المتخيلة والمتكئة على واقع بصري يُعد كنزاً من كنوز الجمال الذي يتراءى في الشاعر وقد امتص هذه الثقافة العربية المشبعة بالجماليات، لينهض عليها الحس الشعري والأدبي، فالشاعر هنا قارب موروثه وعانقه واستطاع أن يمتح منه صوراً جمالية بشكل متجدد، وأن يتناص معه بجدية لا تسحب المعنى عن علياء وجوده، فهو يقول في قصيدة "الرؤية"، مغيراً خطابه وموجهاً خطابه مباشرة لذاته:
"تذكَّر "من أطعمهم من جوع"/ "من آمنهم من خوف"/ وتخلَّص من قيديك قبل طلوع الفجر/ وسوف يسيل الهم كما يتسرب ماء/ من بين أصابع كفيك/ وسوف تسافر في سر الضوء/ وفي سر الماء/ هذي أسرار لا يعرفها/ إلا من علَّم آدم كل الأسماء"8.

يبدو الارتباط الوثيق بتلك الحالة الإيمانية التي يهرع إليها الشاعر من خلال نصه الداخل في غمار التناص مع النص القرآني، وطقوس الطهارة التي ينص عليها المعتقد من جهة أخرى ليحيط بتلك الحالة من العروج عن الحالة الإنسانية الضيقة، انطلاقاً إلى الحالة الروحانية التي تقوم فيها الغيبيات المتمثلة في القدرة الإلهية بإزاحة الهم وتكثيفه، انطلاقاً إلى رحلة من روح الضوء الذي يتسرب إلى النفس.. هنا يقطع الشاعر الرحلة الإيمانية الذاتية من خلال نصه ليكون له معراجاً، وسبيلًا إلى الخلاص مع التسليم الإيماني التام للقدرة الإلهية التي تملك كل شيء، فهي إذن العقيدة وهي الحالة النورانية التي تلتمس القصيدة سلمًا للتعبير عنها بجماليات مختلفة، ودون زعيق ولا طنطنة؛ فالحس الإيماني مستمر متمثل في رموز تلك العقيدة التي تفرض نفسها على واقع الشاعر ومفرداته التي تمتح من تراثه البيئي والديني الذي يحيط به، ويغلف سماءه كما يتغلغل بداخله بذاك الشموخ الذي يجعل الانتماء إلى الأرض والوطن متلازماً مع فكرة الإيمان والوجود معًا، فهو يقول في قصيدة "هي قريتي":
"هي قريتي/ ورثت جمال طبيعة الأشياء/ والتاريخ سجَّل في دفاتره العتيقة/ أنها شمخت كمئذنة بوجه المارقين/ وانتصرت لوجه الحق/ رغم الفقر/ في عصر الكذب"9.

فها هي اللغة وإيقاعاتها الشاعرة المحملة بالدلالات وما وراء المعنى، تلتحم بالمكان، وتعبر عنه انطلاقاً منه ومن رموزه الثابتة الموغلة في الروحانية، وفي معنى الصمود والتحدي أمام الزمن وأمام عوادي الدهر، وأمام تمرد المتمردين، برغم بساطة الإمكانات والموارد؛ فإن الجانب الروحاني يطغى متمثلاً دلالة المئذنة ورمزيتها للجهاد وللفلاح العقدي معاً، وهو ما تنطوي عليه نفس الذات الشاعرة التي تشربت من كل تلك المعاني والتماسات مع بيئتها وواقعها، من حماسة وتوهج واشتعال بروح الشعر الذي ينتصر دوماً للإنسان، في أي مرحلة من مرحلة رحلته في الحياة، وخصوصاً مع اختمار التجربة وحيويتها المتدفقة، التي تبدو آثارها جلية على القصيدة والنص الشعري المتخم بالحس الإنساني الشفيف.

 


الإحالات: 1. بعد الستين – شعر – محمود عبد الصمد زكريا – دائرة الثقافة – الشارقة – مارس 2021.┊2. الديوان، ص: 9.┊3. الديوان، ص: 9.┊4. الديوان، ص: 11.┊5. الديوان، ص: 15.┊6. الديوان، ص: 25/26.┊7. الديوان، 24/25.┊8. الديوان، ص: 31.┊9. الديوان، ص: 34.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها