خِيّانة!

محمود مصطفى حلمي

للمرة الأولى لا أستطيع فتح باب بيتي، شعرتُ أنني لا أرى مكان دخول المفتاح، انتابني شعور أن هذه ليست شقتي من الأساس، حتى إنّ عينيّ لا يسعفانني في تحديد أي المفاتيح هو الصحيح، وصلتُ أخيراً إلى قرار قرع الباب أو دق الجرس، أو هما معاً، أودُّ الدخول سريعاً فقدماي لا يستطيعان الوقوف أكثر من ذلك، فتحتْ لي ابنتي ليلى، كعادتها فتحت لي ذراعيها ضاحكة في وجهي، واستعدتْ لأحملها كعادتي معها، لكنني لم أحملها أو أبادلها الابتسامة، نظرتُ إليها بغضب غير مفهوم لها، تلاشيتُ ذراعيها ومررتُ إلى الداخل، نظرتْ إليّ الصغيرة باندهاش، وامتلأتْ عيناها دموعاً حارة، دخلتُ إلى غرفتي وأنا أشم رائحة الخيانة من كل مكان، من كل الأثاث تفوح بشدة، رأيتُ سريري وكأنه مفروش بالأشواك، اضطررتُ للاستلقاء عليه رغم قسوة ذلك، لم يكن أمامي خياراً آخر، فقدماي لم يصمدا أكثر على حملي، تأملتُ في ملامح الغرفة من حولي، كل ركن مليء بالذكريات التي لم أنسها لحظة، كنتُ مغفلاً للغاية، ظننتُ نفسي الزوج الذي حاز السعادة كلها، أعطيتها كل شيء بإخلاص وحب.. تلك الليالي التي طالما تبادلنا فيها كلمات الحب والغزل، وهذا المكان الذي توَلّد فيه سيل من المشاعر التي تُروى في الأساطير، هذا البيت الذي امتلأ صخباً حين ولِدتْ ليلى، طفلتي التي ملأت علَيّ دنياي بكل جميل، كانت أذناي تتشوق لسماع ندائها –بابا- الآن لم أعد أطيق النظر إليها، لم أعد أطيق البقاء هنا، كل شيء أصبح مشوباً بطعم الخيانة، كل هذا الوقت تخدعني، لم تكن مخلصة لي أبداً كما كانت تدعي دوماً.
- ليلى ليست ابنتك يا شاكر، أنت لا تنجب، مستحيل أن تنجب.
لم أصدق ما قاله صديقي الدكتور آدم، ليتني لم أقم بذلك الفحص ولم أشعر بهذا الألم، يا ليتك لم تعد من السفر يا آدم، يا ليتني مِتُّ قبل أن أرى هذا اليوم.
- هذه هي الحقيقة يا شاكر، لا أستطيع أن أخفيها عنك، ولا يسمح لي ضميري بذلك أبداً، قدرتك على الإنجاب هي صفر في المائة.
ماذا أصنع؟ كيف أعيش بهذا العار، سأقتلها، نعم سأقتلها دون شك هي وتلك الطفلة، لكن.. لن أسمع كلمة بابا ثانية، لكني... أحبها، أحبها بشدة ولم أحب مثلها في هذه الدنيا، لِمَ خانتني وأنا لم أستطع العيش دونها لحظة، لقد جعلتنى مغفلاً لسنين، لا أعلم كيف حدث هذا، لربما حدث في هذه الغرفة وعلى هذا الفراش، لربما كانا يتحدثان في الهاتف أثناء نومي أو يخرجان معاً أثناء غيابي، شعرتُ بأعصابي تتقاتل معاً، وخلايا دماغي تغلي من ذلك الصراع المرير، سمعتُ صوت أقدامها تقترب مني.
- لمَ أبكيت ليلى يا شاكر، ألا تعلم أنها مريضة، ولا يفترض أن تبكي كثيراً؟
نظرتُ إليها دون كلام، لا أستطيع الرد، لربما أريد قتلها الآن، نعم، أقتلها، أغسل العار الذي ألصقته بي.
- لِمَ لا ترد عليّ؟ ولِمَ تستلقي بملابسك هكذا؟ هل حدث لك مكروه اليوم؟
ما زال الخاطر يتردد على عقلي ومشهد الانتقام يتراقص أمام عيني، اقتل تلك الخائنة، طهّر الدنس الذي ألحقته بك.
- لم لا ترد علَيّ؟ عموماً افعل ما يحلو لك.
اقتلها، تلك الخائنة، كاذبة -ليلى– اقتلها، أرح قلبك من ذلك الألم -ليلى– رأسي ستنفجر، انتفضتُ من مرقدي، لا أرى أمامي سوى اللون الأحمر، لا أسمع سوى صوت ضحكاتها الكاذبة -ليلى- فتحتُ درجي المليء بأغراض مختلفة، سألتُ نفسي، أخنقها بحبل؟ أغرس سكيناً في صدرها؟ أشعل فيها النار؟ -ليلى– سأقتلها معها -ليلى– هي طفلة نبتت من بذرة خبيثة على أية حال، لا تستحق الحياة، العار سيلاحقها للأبد، الأفضل لها أن تموت معها -ليلى– حبل؟ نعم هو الأفضل، سأخنقها بحبل سميك، سألفه حول رقبتها بقوة، سأمنع الهواء أن يلج صدرها للأبد، لا تستحق الحياة، لا تستحق الهواء -ليلى– أخذتُ حبلاً سميكاً من أغراضي، توجهتُ إلى مجلسها أمام التلفاز، ظهرها في مواجهتي ورقبتها من الخلف فارعة أمام عيني، ذلك العنق الطويل يشبع حاجتنى للانتقام بشدة، نامتْ الطفلة بجوارها من التعب والبكاء، صوت التلفاز عالٍ لكن صوت الخيانة يعلو فوق كل الأصوات، أرى لون الدماء ينتشر أمامي في كل مكان، على الجدران، الفرش والمقاعد، تأملتُ في ذلك النحر بشدة، كم أطلقتُ عليه وابلاً من القبلات الحارة، كم لامسته بحنان وشوق، لا تستحق، فقط تستحق العصر بين طرفي هذا الحبل -ليلى– أخذتُ وضع الاستعداد، انفرط سيل الأدرينالين في دمائي بشدة -ليلى– تسارعتْ نبضات قلبي -ليلى– تدفقت الدماء بشدة في عروقي، سمعت صوت الصراخ في أذني، -ليلى– عويل -ليلى– استغاثات -ليلى– استفقت لبرهة، لمْ ألمسها بعد، لكنه تمهيد لعقلي حتى لا يلين قلبي تحت استغاثاتها التي أعلم أنها ستصدر منها، اقتربتُ منها، أخذتُ نفساً عميقاً واستعددتُ أن أنجز مهمتي، رنّ هاتفي فجأة، أخرجني عن حماستي قليلاً، التفتتْ إليّ لكنها لم تلحظ الحبل في يدي، نظرتْ إلي دون اهتمام، ثم أدارت وجهها ثانية نحو التلفاز، رددتُ على هاتفي.
- شاكر، هل أنت بخير؟
- دكتور آدم، ما الأمر؟
 - نعم، هناك أمر خطير، ما أخبرتك به ليس صحيحاً، فحصك قد تبدل مع مريض آخر، أنت سليم يا شاكر، أنت يمكنك الإنجاب!
- يمكننى، ماذا؟ أنا سليم؟!! -ليلى– ليست خائنة، ليلى ابنتي ؟ ماذا تقول يا آدم
- هذه هي الحقيقة، أنت بخير، أعتذر إليك كثيراً، سامحني فقد تبدل الفحصان خطئاً.
- أنا سليم، ليست خائنة، ليلى ابنتي.
أغلقتُ الهاتف في وجه آدم، نظرتُ إليهما ثانية، كما هما، الطفلة نائمة بجوارها، وهي تتابع التلفاز دون اهتمام، ما زال الحبل في يدي واللون الأحمر أمام عيني، وددتُ أن أُلق الحبل بسرعة ولكن -آدم- لا بد أن أذهب إليه فوراً، فلربما يجد هذا الحبل عنقاً آخر يلتف حوله...!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها