الشَّيب والمَشيب.. في الشِّعر العربي

محمد ياسر منصور


الشَّباب والمَشيب مرحلتان من مراحل عمر الإنسان يمرّ بهما في هذه الحياة، فالشباب ذَروة القوَّة، والفتوَّة، والكَمال، والمَشيب الشيخوخة، والنهاية، والكِبَر. الشَّيب هو بَياض الشَّعر أو الشَّعر الأبيض نَفسه، والمَشيب مرحلة من العمر يدخل فيها الرجل حَدَّ الشَّيب، فَالشَّيب بهذا المعنى يقترب من كلمة الكِبَر والشيخوخة. وقد وَرَد ذِكر الشَّيب والمَشيب عند كثير من الشعراء، فمنهم من يمدحه ويجعله حِليَة العقل وسِمَة الوَقار، ومنهم من يذمّه ويجعله عِلَّةً ودَاء.
 

◁ أسباب الشَّيب

أيَّدت البحوث الحياتية الكيماوية الحديثة الاعتقاد السَّائد، والقائل بأن المَشيب ناتج عن الشيخوخة والكِبَر، أو عن الهَمّ وتَردِّي الحالة النفسية، وأضافت هذه البحوث سبباً ثالثاً هو عامل الوراثة، فقد يعلو الشَّيب رأس شاب نتيجة المؤثرات البيولوجية الوراثية، وإذا ألقينا نظرة سريعة على التراث الشِّعري لم نجد أثراً أو ذِكراً للوراثة كعامل يُسبِّب الشَّيب، ولكننا نجده زاخراً بالشواهد التي تربط بين الشَّيب والشيخوخة، وبين الشَّيب والهَمّ.

◁ الشَّيب عنوان الكِبَر

والأمثلة الشعرية التي يُبيَّن فيها، كثيرة قديماً وحديثاً، ويُروى عن الشاعر الجاهلي القديم (سعيد بن قيس) قوله:
قالت عَميرةُ ما لِرَأسكَ بَعدَما ... نَفَدَ الشَّباب أَتى بِلَونٍ مُنكَرِ

والشَّيب نَذير الموت، أو أنه – كما عَبَّر قيس بن عاصم عن هذا المعنى قديماً – (الشَّيب خطام المنيَّة).

ومن هنا قَرَن كثير من الشعراء، الشَّيب بالموت، يقول (أبو العتاهية):
ومُدافِعٍ لِلشَّيبِ يَحسبهُ ... والشَّيبُ نَحوَ المَوتِ يَدفعهُ

◁ الشَّيب والشَّباب

الشَّباب مرحلة عزيزة من حياة الإنسان، حافلة بألوان البهجة والفَرح، زاخرة بأشكال السعادة، وبِظُهور علامات الشَّيب تظهر علامات إيذان الشَّباب لِلرَّحيل. وليس هناك أَرَقّ عاطفةً وأصدق تعبيراً من الشاعر الذي يذكر أيام شبابه ويَبكيها، ويتحدَّث عن ليالي صِبَاه ويُرثيها، وبعد أن شاهدَ ثلوج الشَّيب وهي تزحف مسرعةً على رأسه، مُعلنةً حلول شتاء حياته، وذَهاب رَبيعه بلا عَودة..

فَها هُوَ أبو العتاهية يتذمَّر من المَشيب، ويذرف الدموع على شبابه الرَّاحل.. متمنياً عَودته ورجوعه، فيقول:
عُريتُ من الشَبابِ وكنتُ غَضَّاً ... كما يَعرى من الوَرقِ القَضيبُ
ونُحتُ على الشَّبابِ بِدَمعِ عَيني ... فَما نَفَعَ البُكاءُ ولا النَّحيبُ
فَيَا لَيتَ الشَّبابَ يعودُ يَوماً ... فَأُخبِرهُ بِمَا فَعَلَ المَشيبُ

وها هوَ الشاعر السعودي (يحيى توفيق) يقول في قصيدته المعنوَنة (صرخة غَريق)، مُصوِّراً فيها أَثر المَشيب عليه بعد أن أصبح كَهلاً، وتخلَّى عنه أصحابه وأحبابه:
ذَهبَ الشَبابُ فَمَا تَطيبُ حَياتي ... ومَضى زَمانُ الحبِّ والصَّبَواتِ
أَمسيتُ كَهلاً لا أَروقُ لِناظِرٍ ... كابِي المُحيَّا حائِرُ النَّظَراتِ
لم يَبقَ حتى غَيرَ جِسمٍ نَاحلٍ ... وأنينَ قَلبٍ دائِمِ الحَسَراتِ
واليومُ غَيَّرني المَشيبُ فَعافَني ... أهلُ الهَوى وَرِفقَتي وَرُواتي

أمَّا الشاعر المصري (محمود سامي البارودي)، فيقول متذكِّراً أيام شبابه، ومعزِّياً نَفسه، وما آلَ إليه حاله عند كِبَر سِنِّه:
كيفَ لا أندبُ الشَّبابَ وقد أصبحـ ... ـتُ كَهلاً في مِحنَةٍ واغترابِ
أَخلَقَ الشَّيبُ جِدَّتي وكَساني ... خِلْقةً من رِثَّةِ الجِلبابِ
ولَوى شَعرُ حاجِبَيَّ على عيَــ ... ـنيَّ حتى أَطلَّ كالهدَّابِ
لم تَدَعْ صَولَةَ الحَوادثِ مِنِّي ... غَيرَ أشلاءَ هِمَّةٍ في ثِيابِ

◁ الهَمّ والشَّيب

لقد عَرَف العرب منذ القديم أن الشَّيب إذا حلَّ بالإنسان تنتابه الهموم وتضيق به الدنيا، فَيشيبُ في شبابه، ولقد حَفلت دواوين شِعرهم، وكُتُب نَثرهم وأَمثالِهم بكل هذا المعنى، حيث يُقال: (هَولٌ يَشيبُ له الرَّضيع). ووَرَد هذا المعنى أيضاً في القرآن الكريم، قال تعالى: {فكيف تَتّقونَ إِن كَفرتُم يوماً يَجعلُ الوِلدانَ شِيباً} [سورة المزمل، الآية: 17].

فهذا (أبو تمَّام) أقامَ الدنيا وأقعدها صراخاً واستياءً عندما رأى الشَّيب يُهاجم شَعرَ رأسه، وهو لم يُتمّ الـ(26 ) من عمره، وبذلك يتَّخذ الحَدَث موضوعاً لِشعره في الفَخر، وفي الشكوى من الدنيا وفي الغَزَل، فيقول:
سِتٌّ وعِشرونَ تدعوني فَأتبعها ... إلى المَشيبِ فَلم تظلم ولم تَجِبِ
يَومي من الدَّهرِ مِثلَ الدَّهرِ مُشتهِرٌ ... عَزماً وحَزماً وساعي منه كالحُقبِ

وعندما يشكو من تكالب الهموم على نفسه وتلاحمها في فؤاده يقول:
شابَ رأسي وما رأيتُ مَشيبَ الرأسِ ... إلاَّ من فَضلِ شَيبِ الفُؤادِ

و(العباس بن الأحنف) شيَّبه الغَرام والحب والهِيام، فقال:
أَيا مَن تَعلَّقتُهُ نَاشِئاً ... وَشِبتُ وما آنَ لي أن أَشيبا

◁ موقف الشعراء من الشَّيب

تتباين مواقف الشعراء من الشَّيب، فبين مُنصفٍ له ومادِح، وبين حاقدٍ عليه، وبين واقفٍ على الحِياد ينقل ما يراه دونما تعليق. وليس المادِحون والقادِحون ينتمون لفترة واحدة؛ وإنما نجد هؤلاء وأُولئك في فترات مختلفة من عصور الأدب العربي من الجاهلية إلى يومنا هذا، بل كثيراً ما نجد الشاعر الواحد يَمدح الشَّيب في قصيدة، ثم يعود ويذمّه في قصيدة أخرى، وذلك تبعاً لِمَزاجه وحاله.

◁ أنصار الشَّيب

يُدافع أنصار الشَّيب عنه في جهات عديدة، ويحاولون أن يمتدحونه ويؤيِّدوه، وبعضهم انطلقَ من الرأي السائد بأن الشيوخ أكبر عقلاً وأعمق رَويَّةً وأَطول أَناةً، وأكثر خُبرةً من الشّبان، ومن هنا يُفضَّل الشَّيب الذي هو عنوان الكِبَر والشيخوخة، على الشَّعر الأسود الذي هو علامة الشباب والصِّبا، ويُعبِّر (الخزاعي) عن هذا المعنى بقوله:
إنَّ المَشيبَ رِداءُ الحُلمِ والأَدبِ ... كَما الشبابُ رِداءُ الَّلهوِ والَّلعبِ

ويُشاركه في الرأي الشاعر (عمرو بن زيد) بِقَوله:
الشَّيبُ حُلمٌ راجِحٌ ورَزانَة ... فيهِ وتَجربةٌ لِمَن قد جَرَّبَا

أمَّا (الفرزدق) فلا يُخالف مَنحى مَن سَبقوه، حينما يقول:
والشّيبُ ينهضُ في الشَّبابِ...كأنَّهُ لَيلٌ يَصيحُ بِجانبيهِ نَهارُ

ولا يفوتنا هنا، قَول (المعرِّي) الشاعر النابغة:
الشّيب أزهارُ الشّبابِ فَمالَهُ ... يخفى وحُسنُ الرَّوضِ بِالأزهارِ

ولـ(بديع الزمان الهمذاني) فَصل، في مَدح الشَّيب وذَمّ الشَّباب، ومن ذلك قَوله:
يا مَن يُعلّل نَفسهُ بالباطلِ ... نَزَلَ المَشيبُ فَمرحَباً بالنَّازِلِ
إن كانَ ساءَكَ طالِعاتُ بَيَاضِهِ ... فَلَقد كَساكَ بِذاكَ ثَوبَ الفَاضِلِ
لا تبكينَّ على الشَّبابِ وَفَقدهِ ... لكن على الفِعلِ القبيحِ الحَاصِلِ

والإمام العابد (ابن عمران) يؤيِّده في ذَمّ الشباب ومَدح المَشيب، فيقول:
ذَهبَ الشبابُ بِجَهلهِ وبِعَارِهِ ... وأَتى المَشيبُ بِحِلمِهِ ووَقارِهِ
ما زلتُ أمرحُ بالشبابِ جَهَالَةً ... كالطَّرفِ يمرحُ مُعجَباً بِعذارِهِ
لم أَحظ َمنهُ بِطائِل ٍغيرَ الأَسى ... وتَندُّمٍ منِّي على أَوزارِهِ
والنفسُ تركبُ غَيِّها لا تَرعَوي ... عنه ولا تُصغي إلى إِنذارِهِ
لَهفي على عُمرٍ يمرُّ مُضيَّعاً ... مُحْصي عَليَّ بِلَيلِهِ ونَهارِهِ

أمَّا الشاعر (دعبل الخزاعي) فيقول معزِّياً نفسه ومُرحِّباً بالمَشيب:
أهلاً وسهلاً بالمَشيبِ فإنَّهُ ... سِمَةُ العَفيفِ وحِليَةُ المتحرِّجِ
وكأنَّ شَيبي نَظمَ دُرٍّ زاهِرٍ ... في تاجِ ذِي ملكٍ أَعزَّ مُتوَّجِ

◁ خصوم الشّيب

ويبدو أن خُصوم الشيب أكثر من أنصاره عدداً، وأقوى من مؤيِّديه حُجَّة، لذا يذهب بعضهم إلى نتيجة مَفادها أن الشيب مرض من نوع خاص.

يقول (أبو بكر بن دريد):
هو السُّقمُ إلاَّ أنه غيرَ مُؤلمٍ ... ولم أرَ مِثلَ الشَّيبِ سَقماً بِلا أَلمِ

ويؤيِّد شاعر آخر هذا الرأي فيقول:
آهِ من داءَينِ عَدمٌ ومَشيبُ ... رُبَّ سُقمٍ لا يُداوى بِطِيبِ

ويُبالغ (المتنبي) في ذلك فيرى أن الشَّيب هو الموت نفسه، فيقول:
مَن شابَ قد ماتَ وهو حَيٌّ ... يمشي على الأرضِ مَشيَ هَالِكِ

ومهما قال الشعراء عن الشّيب من غَمزٍ ولَمزٍ خفيفين، تبقى حقيقتان يلمسهما الشاعر عندما يشيخ:
الأولى: انصراف الغَواني عنه.
الثانية: هبوط الانفعالات العاطفية الذي يؤدي إلى انحطاط في القِوى الشعرية، ولا يُنكر أحد ما للدافع الجنسي من أثر في جهود الفرد، ولا ينكر كذلك اهتمام الشعراء بنتاجهم الشِّعري ومكانتهم الأدبية.. فإذا ما أَعرَضَت الغَواني عن الشاعر بسبب تقدّمه في السِّن، صَبَّ ذلك الشاعر غَضَبه على المَشيب، ونَعَته بأبشع النُّعوت وأَلصقَ به أسوأ التُّهم. وهذا ما يَصِفَه الشاعر الجاهلي (علقمة بن عبدة) في الأبيات الثلاثة التالية، حيث يُبيِّن ما تُريده المرأة من الرجل فيقول:
فإن تسألوني بِالنِّساءِ فإنَّني ... بَصيرٌ بِأَدواءِ النساءِ طَبيبُ
إذا شابَ رأسُ المَرءِ أو قَلَّ مالهُ ... فَليسَ لَهُ في وُدِّهنَّ نَصيبُ
يرِدنَ ثَراءَ المَالِ حيثُ عَلِمنَهُ ... وشَرخُ الشبابِ عِندهُنَّ عَجيبُ

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها