زهور بعدد أيام الغياب

سامر أنور الشمالي


- 1 –


- لو قلتُ لأي قارئ إنني بقيت طوال الليل مؤرقاً أحاول كتابة قصة قصيرة فلن يصدقني، وقد يتساءل بعجب إن كان صاحب مئة كتاب في مجالات الأدب تستعصي عليه كتابة قصة قصيرة، وربما يظن أنني أتظاهر بتواضع الأدباء الكبار.
ابتسم برضاً، وسرعان ما احتلت مساحة وجهه ملامح الحزن، وتابع كلامه:
- مشكلتي الكبرى افتقادي لمن يصدقني.. حتى الصحفيون الذين كنت أهرب من ملاحقتهم في المقهى لم يزرني أي منهم.
كان يود لو يستطيع أن يتكئ على حافة النافذة، أو يخرج رأسه وينظر حوله، ولكن الشبك الحديدي منعه.


*    *    *


ذات يوم حاول خلع قضبان النافذة فجرح يده، وعندما سأله الطبيب بلهجة مؤنبة، وهو يمسح الدم عن الكف المصابة بقطن أبيض مغموس بمادة معقمة:
- لماذا آذيتَ نفسك؟
كان ينظر إلى الأسفل، خائفاً من أن يرى الطبيب الدموع في عينيه كالأطفال، وهو الرجل الضخم الجثة، وأجاب بصوت مخنوق، متحاشياً الصراخ من شدة ألم أتعب روحه:
- كنتُ أريد استنشاق الهواء في الخارج.
- الشبك لا يمنع الهواء.
اعترض الدكتور بنبرة جافة، وهو يلف اليد برباط أبيض، ضاغطاً على الأصابع النازفة. فقال وهو يحدق في قطرات دم سقطت من شرايينه، وداسها حذاء الطبيب اللامع:
- عندما يدخل الهواء الغرفة يفقد الكثير..
- يفقد ماذا؟!
سأل الطبيب بلا مبالاة وهو يضع لصاقة على الرباط.
أجال بصره فيما حوله، لعله كان يبحث عمن يساعده بالإجابة. ولكن غرفة الإسعاف كانت خالية من المرضى، فلاذ بالصمت. وليشتت الطبيب الهدوء أعاد طرح السؤال مرة أخرى وهو يتناول من خزانة قديمة بهت طلاؤها علبة دواء، فلم يجد بداً من الإجابة:
- يفقد الهواء أجنحته.
قهقه الطبيب بصوت عال، وجلس على كرسي جلدي خرج بعض أحشائه من ثقوب أحدثتها كثرة الاستعمال، ثم قال بضجر:
- اذهب إلى غرفتك يا رجل.
لم يخاطبه باسمه لأن الطبيب لا يتذكر أسماء المرضى رغم أنه يعالجهم منذ تخرجه من كلية الطب، فلم يكن يعنيه أمرهم، أو لا يجد فرقاً بين مريض وآخر. أما المريض فظل يذكر كل الكلمات التي ترددت في غرفة الإسعاف الباردة. بل كثيراً ما كان يتذكر تلك الحادثة كلما رغب في الاتكاء على حافة تلك النافذة.


*    *    *


هز رأسه، لعله يتخلص من ذكريات تثقل رأسه، بلا جدوى. وأسند جبهته العريضة إلى القضبان المعدنية، ثم تساءل في نفسه:
- لماذا لا أكتب عن الحرب؟ نحن نعيشها.. وفي الحرب تجري الكثير من القصص الغريبة وبعضها لا يصدق!
حدق في السواد أمامه، كان القمر غائباً تلك الليلة فلم ير غير خيالات داكنة للنباتات التي يحرص على سقايتها بنفسه، فالكهرباء مقطوعة، وصوت المولدة الاحتياطية يمزق هدوء الليل بضراوة.
- رفضتُ السفر لأنني أردت العيش هنا.. لأكتب عن الحرب كما هي.. لكنني لم أكتب كما ينبغي.. يا لسوء حظي!
جلس قرب المنضدة، ورتب عليها أوراقاً مختلفة الأحجام، ثم تناول قلماً أزرق، وشرع يكتب ويتمتم:
(أخيراً عزم على الاعتراف أمام المرأة الجميلة ذات الشعر القصير، والعينين الخضراوين، والابتسامة الرقيقة التي تكشف طرف سن مكسور.
كان يخشى الموت دون إخبارها أن طيفها سكن قلبه كيلا يـأخذ حسرة في صدره إلى العالم الآخر، أو يغادر الحياة الفانية دون امرأة تحبه، وكيلا يبقى قبره عارياً من الزهر.
لعله أمل من تلك الفتاة الرقيقة أن تضع على قبره زهرة حمراء إذا سقط في ساحة المعركة شهيداً على تراب سينبت زهرة حمراء عوضاً عن كل قطرة دم روته.
بالتأكيد لن تنساه، وإذا لم يعثروا على جثته فلن تصدق أنه مات بهذه البساطة، وستخبر أمها أن حبيبها وقع في الأسر، ولكنه سيعود لأنه بطل، ولا يطيق العيش بعيداً عنها.
كان يراها تخرج كل صباح إلى الطريق الذي تسير عليه الحافلة الوحيدة التي تزور القرية. وإذا لم تجد من أحبها ينتظرها قرب الشجرة الكبيرة تترك له زهرة بجوارها.
لم يساورها الشك في أنه سيعود، وسيعرف الأيام التي انتظرته فيها من عدد الزهور، وقد يجد تلا صغيراً أو جبلا كبيراً من الزهر الأحمر إذا تأخر في الإياب.
محبوبته اللطيفة لن تتفرج عليه وهو يحصي الزهور، بل ستساعده في عمله، وستستمتع برائحة الزهر التي ستفوح حتى السماء، والنائم سيصحو ليستفسر عن سر الرائحة الطيبة. وحينها سيعلم كل من في القرية أن العرس بات قريباً.
أما تلك العاشقة فتعرف عدد أيام الغياب واللوعة دون إحصاء كميات الزهور، فالمدة التي قضتها دون حبيبها طويلة ومؤلمة أكثر من ألم الأصابع المجروحة، لهذا كانت تشعر في كل يوم أن الزمن يجرح قلبها بحد الانتظار، وبذلك خمنت الأيام من عدد الجراح. لاسيما أن جراح الحب لا تندمل مع عبور الزمن فيظل الألم باقياً كالوشم طوال العمر).
حدث نفسه، وكأنه يحدث شخصاً آخر. وكثيراً ما كان يفعل ذلك، فالوقت يمر عليه ببطء وهو بمفرده في الحجرة ذات السقف الواطئ:
- كيف خطرت في بالي تلك الفكرة الساحرة؟! جميل أن يعرف الإنسان من يهتم به ويحبه من كمية الزهر!

- 2 -


قرعت الباب برقة كعادتها، ودخلت غير منتظرة سماع صوته يأذن لها بالدخول، ثم سألته متصنعة لهجة العتاب:
- الوقت متأخر. لماذا لم تنم؟! هل تريد أن أستاء منك؟!
- كلا.. مستحيل.. سيدتي أدفع حياتي ثمناً لرضاك.
قال وهو ينظر حوله بارتباك. ثم أسرع بالتقاط الزهرة عن المنضدة بيد مرتعشة، وقدمها إليها، وهو يغرق في خضرة عينيها اللتين لهما لون الشجرة الكبيرة التي كتب عنها، واستأنف كلامه:
- ليتها كانت زهرة حمراء.. لو عثرت على الزهر الأحمر لجلبت لك باقة جميلة.
- الزهر الأبيض جميل أيضاً.
قالت وهي تتصنع شم الزهرة كيلا تشعره بالخذلان، فلم يكن للزهرة رائحة بعدما أصابها الذبول، حتى إن بعض أوراقها سقطت بجوار حذائها ولم تنتبه إليها.
جلس على طرف السرير، وحدق بأوراق الزهرة المبعثرة، وبأصابع قدميها الظاهرة من الحذاء الأزرق، وبلون الأظافر المطلية بإتقان بالأحمر الداكن، وبثوبها الأبيض النظيف المكوي بعناية. ووجد المشهد جميلا، وكأنه لوحة ثمينة معلقة في متحف، ثم قال:
- وددت أن تكون حمراء.. كتبتُ قصة عن الزهر الأحمر.
ضحكت بعذوبة، وظهر طرف سنها المكسور تحت شفتها الملونة بأحمر الشفاه، وسألته السؤال الذي تعرف إجابته:
- ألم تنته من كتابة قصة المرأة التي تقطف الزهر الأحمر وتضعه على الطريق ليعرف حبيبها كم اشتاقت إليه؟
- قصة جميلة.. أليس كذلك؟
تساءل بامتنان وهو يحك بأطراف أصابع فيها أثر جراح قديمة صلعته المحاطة ببقايا شعر اشتعل باللون الرمادي.
هزت رأسها موافقة، وخطر لها أن تلقي سؤالا لم تطرحه من قبل:
- ما رأيك في أن تجعل الفتاة تختار كل مرة زهرة بلون مختلف؟!
أغمض عينيه، واتكأ على الوسادة، وحاول تخيل أكوام الزهر الملون.
رمقته باهتمام، وضحكت من جديد، ففتح عينيه ليسمع صوت ضحكتها بشكل أفضل، ثم قال:
- سأفكر بالأمر ملياً.
كثيراً ما وعدها بأنه سيفكر بأمر ما، ولكنه في اليوم التالي ينسى وعوده. ولم يكن هذا يشعرها بالإحباط، فهي تعرف أنه ينسى، أو لا يريد تذكر كل ما مر في حياته.
وضعت الزهرة خلف أذنها، وهي تتذكر أنه طلب منها ذات مرة أن تفعل ذلك، وحينها عرض عليها صورة قصها من مجلة، هي صورة حسناء تضع زهرة حمراء في شعرها.
تأملها بدهشة، وكأنه يراها لأول مرة بهذا القرب منه، وأحس بعبير عطرها الخفيف يدخل صدره ويعلق بجدرانه فيلونها، ثم قال بخيبة:
- غداً سأذهب إلى الغابة.. لا شك في أنني سأعثر على الكثير من الزهر الأحمر.
تعرف جيداً أنه لن يستطيع الذهاب إلى الغابة لعدم وجود غابة بجوار المدينة. بل لا يستطيع الخروج لأن الحارس سيمنعه، وسيصيح به كي يعود إلى حجرته. وحينها كان يغرق في البكاء كطفل صغير نسيته أمه على قارعة الطريق، ويرجع القهقرى إلى الخلف محني الظهر كعجوز طاعن في السن. وقد يرفع عينيه إلى خارج السور، ويحلم بأن الساحرة الطيبة زارته خلسة، وحققت أمنيته في أن يتحول إلى عصفور خفيف يستطيع الطيران فوق كل الأسوار حتى يصل الغابة التي يتوق إلى المشي تحت ظلال أشجارها الباسقة.
كان يظن أن طرف الشجرة التي تظهر من فوق السور من أشجار الغابة الكبيرة، ويجهل أنها مجرد شجرة وحيدة لا ثمر لها زرعها الحارس السابق ليستظل بها خلال فصل الصيف القائظ.
قدمتْ له قرصاً أبيض وضعته في يده التي ارتعشت لدى مس يدها الناعمة الطرية، ولم تنتبه للأمر، أو لم يعنها ذلك. ثم ناولته كوباً نصفه مليء بالماء، وانتظرت لتتأكد من أنه ابتلع القرص، وشرب ما في الكوب. إذ كانت تظن أنه لن يبتلعه، بل سيرميه في سلة القمامة.
- لماذا جلبت هذه الأشياء إلى هنا؟
سألته مستنكرة وهي تشير بأصابعها النحيلة إلى النشرات الورقية المأخوذة من علب الأدوية، ولم تنتبه إلى رسومات زهر بلون أزرق فوق أحرف صغيرة مطبوعة باللون الأسود:
- سأكتب.. سأكتب القصة.
أجابها وهو يرتب الأوراق تحت حاشية السرير. 
ضحكت لأنها سمعت الكلام نفسه من قبل، فهي تحفظ كلماته عن ظهر قلب من كثرة ما سمعتها بالصيغة نفسها، كما حفظت عاداته لقلتها وبساطتها، رغم أنها التقت به للمرة الأولى منذ أشهر قليلة في الحجرة نفسها.
تمنت له ليلة سعيدة بعدما استلقى على السرير وسحب الغطاء غير النظيف حتى طرف وجهه المحلوق بعناية. ثم أغلقت الباب من خلفها بهدوء وهي تشعر بالرضا لقيامها بواجبها على أكمل وجه.

- 3 -

رن جوالها وهي تسير في الممر الطويل ذي الأضواء الشاحبة، وضحكت عندما رأت اسم صديقتها التي لا تدع مناسبة تمر بلا مزاح. وسألت الصديقة:
- أين أنتِ؟
- الليلة دور مناوبتي في المشفى.
- ألا تخشين الجلوس إلى المجانين بعد منتصف الليل؟
- حرام عليكِ. هم مرضى نفسيون، ولطفاء جداً. ما رأيك في أن تزوريني في المشفى، سأعرفك على أهم الأدباء في بلدنا.
- هل هو طبيب وسيم؟
سألت الصديقة، فضحكت لطرافة المفارقة، ثم صححت التوقعات:
- بل مريض قديم. فقد عقله لأنه لم يحتمل أن الحرب ستطول لسنوات.
لم تسمع رد صديقتها من شدة تشويش الخط، ثم انقطع الاتصال. فتابعت السير على مهل إلى غرفة الممرضات لتثرثر معهن. كانت أصغر الممرضات في السن، وتود تسلية نفسها بسماع قصص النساء عن الحب وأحواله.
ولم يخطر في بالها أن المريض الذي تركته ليخلد للنوم يحلم كل ليلة بأنها تذهب إلى الغابة القريبة لتقطف الزهر الأحمر لأجله.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها