تيمة الهامشُ في "سرديّات الأمَّة"

من سردِ الدُّنيويِّ إلى متخيّل الهامشِ

سعيد أوعبو


يعدّ كتاب (سرديّات الأمّة تخيِيل التّاريخ وثقافة الذّاكرة في الرّواية المغربيّة المعاصرة للنّاقد المغربي إدريس الخضراوي، الصّادر عن أفريقيا الشّرق، 2017) من بين أهمّ الأعمال السّاعية إلى تأصيل الخطاب التّطبيقيِّ الذي يهتمُّ بالنّقد الثّقافي، ويعمّقُ البحث في سيرورة النّسق، وكشْفِ مستويات الفاعليّة في طبيعة الوعي بهواجسِ العالم داخل الرّواية المغربيّة، ولعلّ سعة اطّلاع النّاقد على المنجز الإبداعيِّ خوّل له إدراك التّفاصيل الحثيثة في بنية الأعمال، واستغوار ما يكتنفُهَا من خلقٍ وكذا حدود ارتباطها بهموم الأمّةِ، ناهيك عن استكناه أسئلة الذّاكرة والثّقافة ومساقات الهويّة فضلاً عن الواقع الاجتماعيّ ذي الصّلة بالهامش، لاسيما أنّ النّاقد وهو يقارب المتن الرّوائي يتَسَلّحُ بقاعدَة مهمّة تتمثّل في سعته العالية في المتابعةِ والدّراية بالمعطيات النّقديّة وتفاصيل النّظريات الخاصة بالحقل السّردي، ما بوَّأَه مكانةً هامّة في طبيعة قراءة الأعمالِ الرّوائيّة، وفق قاعدة أصيلةٍ تنفتحُ على السّياقات والمرجعيّات التي تُسهمُ في تكوّن النّص وتَشكُّلِه، وممّا يثيرنا في الكتاب ما يرتهِنُ بالهامشِ الاجتماعيِّ الذي يهتمّ بالعلاقات الإنسانيّة التي تستمدّ روحها من الفئات الاجتماعيّة في شكل يُدمَج فيه صوتُهَا بصوتِ التّخييل والإبداع، ويُعيَّن الماضي في تجربة حديثةٍ تستنطقهُ، وتنبّشُ في أنساقِ ثقافةِ العوامّ المخالفة للثّقافات الرّسمية، ناهيك عن ملامسة المسكوت عنه، ذاك الذي كان في حاجة ماسّة إلى رجة قد مثَّلَها الإبداع، وأتى النّقد لتعزِيزِها خصوصاً في ما أقْدَمَ عليه النّاقد (إدريس الخضراوي).



1. مُناص الهامش

يُشكلّ الهامش في الكتابة نصّاً متحرّراً من التّطويق، وتشكيلاً يخترق مدارات المنسيّ ويعيد صوغه بشكلٍ يستمدّ شرعيّته من مرجع المُهمّش سواء من جهة المكان أو الهواجس المقلقة للأمة أو المتخيّل الشّعبي، وترى (هويدا صالح) "أنّ السّرد المحتفي بالهامش يُراهن على الاشتغال على رؤية متّصلة بالرّاهن المعيش، وبالسّياقات السّياسيّة والثّقافيّة التي أنتجت هذه الكتابة المرتكزة على فضح آليات الإقصاء لعناصرها الثّقافيّة، كذلك تراهن على رؤية العالم، وتحتفي بما هو مستبعد من قبل المركز"1. ولعلّ هذا الدّنو من الكتابة السّردية الهامشيّة ينسلخ إلى رصد طبيعة اللّغة التي تتلافى المباشرة، وما تفتأ تهتمّ بالتّجربة الانزياحية2 في الفضح، والتي تحوز على قدر كبير من التّمثيل الذي يتغيّا استراتيجيّة تضمين صوت المقهور في الكتابة بتقنية التّلميح، فضلاً عن الخروج بالكتابة من بوتقة المحور والتّوغّل في تجربة الهوامش المتموقعة في جهة النّزعة المضادّة نسبيّاً للمركز، بالنّظر لما يتعرّضُ له الهامش من ضروب التّحاشي والإهمال والقهر، وتأتي الكتابة لإعادة بعثِ صوتِ المقهور الذي يأبى فيه المبدع الانتفاضَ على طبيعة الوضعيّة الدّنيويّة بشكلٍ خلّاق، وإعادة انتداب التّجارب المنسيّة بما تمثّله ثقافة العوّام، والسّعي إلى محاولة حفظها من زحف الثّقافة الرّسمية، عطفاً على الزّمن المنطوي على وظيفة المحو.

2. الهامشُ في المنجزِ النَّقديِّ

راهن النّاقد (إدريس الخضراوي) على التّمثيلِ الرّوائيِّ المغربيِّ في استنطاقِ دلالاتِ الهامشِ، ومغزى انتدابِ الهامشِ من طرف مبدعِ النّص الرّوائيّ، ولعلّ "الكُتّاب الهامشيون لهم سلوكهم اللّغوي الخاصّ، يمتلكون النبرة المشاكسة، والصّوت المُقلق، والخطاب المتمرّد"3، وهنا تظهر أهميّة الهامش باعتباره صوغاً روائيّاً تعبيريّاً ينفُذ إلى بنية المجتمع من أجل تمثيل القضايا الدّنيويّة التي تنطوي على أسلوب خاصّ ومقلق ينقلُ العوالم المستبطنة في الهامش، تلك التي سعى النّاقد بشكل مفصّل إلى تفكيكها من داخل التّمثيل الرّوائي، بقدرة هائلةٍ في تتبّع نسغِ اللّحظات التي تُعبّأُ بها الكتابة، وبحذاقةٍ وفطنةٍ تخترق المستويات الاجتماعيّة التي ترتكزُ على السّخيف والدّنيوي، واجتذاب الجزئيّات من داخل الرّواية بما يكتَنفُها من وظائف كلاميّةٍ، علاوة على خطابات الجماعة المحلّية والهامشيّة، والوقوف عند مستويات (العزلة/ الضّياع/ الهواجس/ التّعثّر/ العالم الأسفل/ الرّدود) اعتباراً بأنّنا نجد الشعوب والأمم في خضمّ "أساطيرها واستيهاماتها وتجاربها، تبزغ واقعيّة تاريخيّة ذات أهمّية فريدة"4، وهي طبيعة الأبستيمولوجيّة التي انطلق منها النّاقد.

3. الهامش الرّوائيُّ والسّرد الدُّنيويّ

آثر النّاقدُ الوقوفَ عند الهامشِ في المتن الرّوائي "تغريبة العبدي" لـ(عبد الرحيم لحبيبي)، الذي يهتمّ بالأدب الإقليمي لكونه أدباً يتبنّى "الملامح المميّزة للثّقافة الوطنيّة، أو الإقليميّة الخاصّة"5، خصوصاً في نقطة إعادة ضبط التّاريخ الذي يريد تحريرَ الثّقافةِ الهامشيّةِ من الإهمالِ6، مؤسّسًا قراءتَه على اختراق الأحداث والفضاءَات بما يجعلُها حيّةً مترعةً بالمعاني والدّلالات التي تستمدُّ مشروعيّتها من الأوضاع الاجتماعيّة المُمَثّلَة وفق رؤيةِ المبدعِ لوسطِه وبيئته وثقافتِه الهامشيَّةِ، في سبيل إظهار تجلّيات الهامش في المكان، ومستويات العشوائيّةِ، وقيم النّسيانِ المرتبطة بالطّبقة المسحوقةِ بما يوازيهِ فعل المقاومة من داخل الفضاء المكانيّ /سوق العفاريت بآسفي، علاوة على رصد النّاقد لمدارج التّراتبيّة داخل المكان الذي يخصّ الهامشيّ الكادح صنوًا بالمترف الذي يرتادهُ في أحايين مختلفة.

تغيّا (إدريس الخضراوي) في سياق تناول معطى الهامش إلى ربط سؤاله النَّقدي بقلب الإشكاليّة التي تتّصل بسؤال التّاريخ داخل العمل الرّوائي، سيما وأنّ الخطاب النَّقدي تأسَّس من منظور تخيِيل التّاريخ وثقافة الذّاكرة، وهذا المعطى تجسَّد في حلقة ربط الهامشِ بالتّاريخ والتّاريخ بالهامشِ، برمزيّة تاريخيّة تُضمَّن في المخطوط المبحوث عنه في القرن 19، والفَضاء المكاني الهامشيِّ الذي تَمحوَر في خضمّه البحث، لتَبْرُزَ طبيعة العلاقة الدياليكتيكيّة بين الهامش والتّاريخ عبر تضمِينِ السّرد الاستعادي قدرة مركبّة تتوسّط الصّوغ باستثمار التّاريخ في المقترح الجمالي المتجلي في تعيين النّاقد للمخطوط، وبين استثمار نتائجه الجوفيّة التي تعرّي الهشاشة الثقافيّة والاجتماعيّة في المقومات الدّلالية.

يتبدّى انخراط النّاقد في تبنّي الحواريّة بين جدليتين، جدلية التّاريخ والإبداع أو التّقرير والإيحاء، إلى جانب جدليّة السّارد والكاتب بين الخصائص الفنّية والفكرية الذّهنية، خصوصاً وأنّ النّاقد يستنطق هويّة النّوع السّردي والتّهجيات التي يتوقّف لإثارتها بشكل جليّ بِمَا يُخَلِّصُ العمل من التّقرير والمطابقة بما يناظره عدم الاكتفاء بالعوالم التّخييليّة السّديميّة، سيما وأنّ النّاقد يُدرك بجلاء طبيعة انتماء المبدع للفضاء المكانيّ الهامشيّ، ممّا اهتدى به إلى تبنّي هذا المنطلق، زد على ذلك رصد النّاقد لمستويات التّفاعلات النّصية الموازية للمنظور الحواري، الذي تتفعَّل فيه قيم التّأثير والتّأثر بين تعلّق النّص الرّوائي بتحقّقات سابقة تُمتَح من الواقع المرجعيّ أي من عالم الكاتب في هيئة السّارد.

يتواترُ تتبّع النّاقد لفاعليّة الإبداع في تمثيل الهامش مع وظائف الصَّوت الذي يتلقّفه إدريس الخضراوي كتجلّ لصوت العبدي أي صوت السّارد العالم بتفاصيل المكنونات المتّصلة بالهامشِ، وبين مجموعة من الأصواتِ التي تحملُ هواجس القهر والألم والحرمان، وتفكيك المعرفة النّاقدة للأوضاع المجتمعيّة في الرّوائية بخطاب نقديّ ثالثٍ يضطلع فيه باستراتيجيّة تقويض الصّوغ، وإدراك مستويات اللّغة المتفيء إلى الدّيني في الطّبيعة الانغلاقيّة، والتّاريخي في معمار الرّواية وتقاطعات الماضي مع الحاضر، والنّقدي المزدوج أي المنشطر بين الذات والآخر.

4. متخيّلُ الهامشِ في روايَة الهامش

يفعّل النّاقد نسق القراءة بمرونة العبور من اللّغة الرّوائية ومواصفاتها إلى صوت الهامش في التّمثيل الرّوائي "عزوزة" لزهرة رميج، كاستجابةٍ واعية لقراءة المتخيّل الشّعبي من منظور الرّواية بما يسمّيه (هومي بابا) بـ"سرديات المخيال الاجتماعي للشّعب-الأمّة"7، وهو نقد ثقافيّ مُواز للبنية الاجتماعيّة بالكتابة الإبداعيّة، ممّا أسهم في رصد النّوازع وبؤر الوعي في استثمار الرّواية للتّداخلات النّاجمة بين المتخيّل الإبداعي والمتخيّل الشّعبي، وتمطيط النّظرة لملامسة بعض أنواع السّرود الأخرى داخل المتخيّل الشّعبي من قبيل المحتوى التّاريخي والعجائبي بشكل يشتغل بنظام الرّوابط.

الوقوف عند مستويات أدب العوام المبثوث في الرّواية، من قبيل الحضور النّسوي الرّافض للهيمنة والإخضاع داخل بنية كبرى، تجعل من الهيمنة رابطاً اجتماعياً، وتبوِئ النّاقدة مبدعة العمل (زهرة رميج) مكانة مهمّة في اختراق المتخيّل الشّعبي، بما يتغلّف الإنتاج من رجات واعية بعمق أنثروبولوجي منشغلٍ بعلاقة الحب والسّيطرة، والوقوف عند قدرتها في إعادة تشكيل العمل الرّوائي وتكسير بنية النّمط التّقليدي من زاوية الكتابة النّسوية وفق ما أسماه النّاقد "رواية التغيير الثّوري"8، وتُعزى قيم هذا النّوع إلى الطّبيعة الإبداليّة من قسر الزّواج على سبيل المثال إلى تبنّي الرّغبة والحب الفطري عند الهامشيّ، ومن الخنوع إلى المقاومة الخلّاقة البعيدة عن التّمرّد، ومن هاجس منع وتحريم الجسد الأنثوي إلى اختراق المجال العام الذي يعيد ضبط الجسد.

تقويض النّاقد لمستويات البنية النّصية، والجماليّات التي تنهض بالمقاومة العابرة من الخنوع صوب الصّد، والكشف عن مستويات بناء البطل باستراتيجيّة تتجاوز الوصف الخارجي صوب المستبطن عبر ما يؤمّنه الانفتاح والتّعبير عن الذّات الهامشيّة، مع تفكيك الرّؤية، وجعل الرّواية منتسبة للهامش اعتباراً لطبيعة النّهل من المنادح المتباينة بمختلف أصناف المتح سواء من العابر أو المقلق أو اليومي، والانتباه لتواريخ المهمّشين والهويّات والدّراسات الأدبيّة والثّقافيّة في تلقي المتخّيّل الشّعبي داخل الرّواية.

استثمار النّاقد لمستويات الفاعليّة التّناصيّة التي تنزاح لما هو ثقافيّ اجتماعيّ على صعيد القراءة، وبناء الرّهان على استخراج ما يتغذَّى عليه النّص الرّوائي المرهون بالهامش في سياق ارتحال المعنى والدّلالة والنّهل من سرديّات الأمة، وإبانته للحواريات والتّجلّيات النّصية بين النص الرّوائي الحديث، والموروث الشّعبي (الأمثال/ الفولكلور/الأغنية/ الألغاز) بما في ذلك من تهجينات ثقافيّة.

لا شكّ أنّ إدريس الخضراوي يمثّل صورة النّاقد الذي يقارب العمل الرّوائي من منظور ثقافيّ بكثير من الفحص والنّباهة وبشكل أصيل غير متسرّعٍ، وقد أمعن في مقاربة الهامشِ ضمن مجموعة من التّمثّلات الثّقافيّة المختلفة التي ركّبها بشكل واع، واستطاع الاشتغال على الهامشيّ في الرّواية المحلّية تحت ضوء الاجتهادات النّظريّة الغربيّة لنفض الغبار عمّا يحملُهُ الفضاء الشّعبي والشّخصيات العامّة، وعوالم الهامش من حمولات دلاليّة مسكوت عنها، دون إغفاله لأهمية الموروث الشّعبي باعتباره ذاكرة شفهيّة تحتاج لرجّات لاستنطاقها من زاوية المبثوث في الرّواية، وإيلاء النّاقد إدريس الخضراوي أهمية قصوى للرّموز والخطابات الشّعبية في القراءة وتفكيك الأنساق الثّقافيّة، بما هي تعبير عن الذّوات، ووعاء لأصوات المهمّشين والمنسيّين الذين يبحثون عن بعث جديد والإنصات إلى همومهم وهواجسهم.
 


الهوامش: 1. هويدا صالح، الهامش الإبداعي في الأدب قراءة سوسيوثقافيّة، ط1 (القاهرة: رؤية للنّشر والتوزيع، 2015)، ص: 27.2. تحدّث النّاقد المصري محمد الشّحات عن وظائف وأشكال اشتغال استراتيجيّة المجاز قائلاً: "تنهض على بلاغة التّلميح والتّلطّف والتورية، وغير ذلك من أساليب كتابة المقموعين التي تنبئ عن أن مجاز السلوك لا ينفصل عن مجاز الحرف، ومجاز الحرف ليس إلا مجازاً للسلوك" انظر: محمد الشحات، سرديات المنفى الرّواية العربية بعد عام 1967، ط1 (عمّان: أزمنة للنشر والتوزيع، 2006)، ص: 241.3. ثناء عطوي، "الهامش"، مجلة القافلة، نوفمبر (2020).4. هومي بابا، موقع الثّقافة، ثائر ديب (مترجم)، ط1 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2006)، ص: 249.5. بيل أشكروفت وآخرون، الرّد بالكتابة النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة، شهرت العالم (مترجم)، ط1 (بيروت: المنظمة العربية للتّرجمة، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2006) ص: 35.6. الإهمال والتّهميش هو الحالة التي تبنيها العلاقة المفترضة بمركز متميّز، انظر: أشكروفت وآخرون، ص: 176.7. هومي بابا، موقع الثّقافة، ثائر ديب (مترجم)، ط1 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2006)، ص: 267.8. إدريس الخضراوي، سرديّات الأمة تخييل التّاريخ وثقافة الذّاكرة في الرّواية المغربيّة المعاصرة، ط1 (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2017)، ص: 262.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها