السايكودرامـا.. المسرح العلاجـي

خلف أحمد محمود أبوزيد

مما لا شك فيه، أن الفن يعمل على توسيع المدارك والمفاهيم؛ لأنه يرتبط بالتأمل والملاحظة والاكتشاف، فهو يعمل على انطلاق الروح من قيود الجمود العقلي والجسدي وضيق الأفق، إلى رحابة التفكير ومرونته وإعادة تأهيل الذات وتطويرها، هذا في أطار الشخص الواحد الذي يعد لبنة المجتمع بأكمله، ويعد السايكودراما أو المسرح العلاجي، إحدى صور العلاج بالفن التي انتشرت في السنوات الأخيرة، ولعبت دوراً مهماً في العلاج النفسي، فما السايكودراما؟ وما علاقتها بفن المسرح وأهميتها العلاجية؟ هذا ما سوف نلقي عليه الضوء عبر هذه السطور.

 

السايكودراما "Psychodrama" ما هي؟

السايكودراما أو الدراما النفسية، مصطلح يطلق على نوع من العلاج النفسي، يتألف من مقطعين أساسيين هما السايكو معنى علم النفس، والدراما كنوع من الفنون التي تتضمن الحركة والتعبير بالصوت والجسد واللعب، وأداء الأدوار المختلفة عبر استخدام فن التمثيل المسرحي، حتى يستطيع الشخص إفراغ مشاعره وانفعالاته المختلفة من خلال هذه الأدوار التمثيلية، التي لها علاقة وثيقة بالمواقف التي يعايشها حاضراً أو عاشها في الماضي، أو من الممكن أن يعيشها في المستقبل، حيث يتدرج من حالة إلى أخرى ببساطة وتلقائية، بعد إنشاء أسس ودعائم من الثقة والقوة والطاقة؛ كي يتحرر الجسم والعقل والعواطف من أي انفعالات مدمرة، فهي تعمق استبصار الإنسان لذاته وتساعده على تحقيق استجابات أكثر توافقاً مع نفسه.

السايكودراما والمسرح

والسؤال الذي يطرح نفسه علينا هنا، هل المسرحة النفسية السايكودراما، تعني أننا أمام عرض من العروض المسرحية التي نشاهدها، والإجابة عن هذا السؤال، توضح لنا أن السايكودراما لا تعني أننا أمام عرض مسرحي بالمعنى المتعارف عليه من فنون المسرح، فهي لا تتطلب وجود وحدات العرض المسرحي المعروفة؛ لأنها عمل عفوي تلقائي، البطل فيه المريض الذي يمثل حكايته هو شخصياً، أو حكاية زميل له موجود ضمن حلقة العلاج الجماعي، كما أن الجمهور هو فقط حلقة المتعالجين المرضى، إلى جانب المعالج المرشد فهي عملية توصف بالعفوية والتلقائية من أهم أصولها البعد عن المبالغة والاستعارات، والاقتراب بشفافية وصدق من ذات الإنسان دون محسنات عبر الفعل أو الحركة أو الصورة، بطريقة تلقائية بعيدة عن أي مبالغة مسرحية قد تفقد المهمة العلاجية هدفها، وتخرج إلى التمثيل والمحاكاة المسرحية والمبالغة، الأمر الذي يتنافى مع الفعل الدرامي المقصود من وراء المسرحة النفسية، التي تتطلب من الأشخاص أداء أدوار مسرحية، دون ارتباط بكتابة سابقة أو تحديد لنص، كما أنها تنتقل في الأزمنة لتستحضر مشهداً من الماضي، أو تنتقل لجلبه من المستقبل، أو لتعيد طرح الحاضر بصيغة مغايرة، بطريقة المسرحة البسيطة فخشبة مسرحها، عبارة عن أي مساحة واسعة تسمح بالحركة وتحافظ على الخصوصية، مع عدم الاحتياج لديكور أو ملابس خاصة كما يحدث في العروض المسرحية، ثم المخرج وهو المعالج الذي يخطط مشاهد المسرحية، ويحدد لوحاتها ويشجع الممثلين على تشخيص الأدوار، والتي هي عبارة عن العقد النفسية التي يعيشها المريض، ثم البطل أو الممثل الرئيس وهو المريض نفسه، أو صاحب المشكلة الذي ينصب حوله العمل، ويمثل دوره ارتجالاً بطريقة عفوية، ثم الممثلون المساعدون الذين يشاركون مع الممثل الرئيس في أداء المسرحية وتشخيصها فنياً ونفسياً ويختارهم البطل نفسه، ثم أخيراً المشاهدون الذين يتابعون المسرحية، وهم في الأساس أعضاء بنفس المجموعة العلاجية.
 

نشأة العلاج بالسايكودراما

يرجع بدايات استخدام السايكودراما في العلاج إلى عام 1911م، في فينا على يد العالم النفسي جاكوب ليفي مورينو Jacob L. Moreno، الذي كان محباً للفن المسرحي، وأراد أن يمزج بين المسرح وعلم النفس، ولكن في صورة غير تقليدية عن طريق اعتماده على نموذج من التمثيل الهادف إلى إثارة الإبداع، خاصة أن القصة المسرحية كانت تبتكر بشكل عفوي ودون تحضير مسبق، انطلاقاً من المواضيع الآنية متخطياً مرحلة العلاج التقليدي، ليدخل في تقنيات البحث عن الذات، حيث تأثر بما جاء في الفلسفة، وبخاصة تلك العبارة التي ورددت على لسان أرسطو "إن عمل التراجيديا هو أن نحصل من خلالها على مواقف تعمل على تحررنا من الخوف والشفقة، ومن مثل هذه الانفعالات".

واعتقد مورينو أن معظم المواقف العلاجية التقليدية غير مؤثرة في جانب؛ لأن المريض يعالج منعزلاً عن جميع عناصر البيئة، ويفرض عليه أن يصف مشاعره بكلمات محددة، فليس لديه الفرصة أن يتصرف خارج الأدوار والمواقف الخاصة بحياته، لكن في السايكودراما فإن المريض يطلب منه أن يقف على خشبة المسرح، ويعبر عما يشعر به بكلماته هو، وبذلك يتم القضاء على السطحية في الموقف العلاجي العادي بأن يسمح للمريض باستخدام إيماءاته وحركاته، وأن يقوم بأداء كل الأعمال الخاصة بخبراته التي مر بها من قبل عن طريق تصورها، وبهذا يعيش المريض الخبرة الكاملة عن طريق إحياء أو بعث الأحداث السابقة، وما دام المريض يقوم بتمثيل مناظر درامية مستمدة من حياته؛ فإن لهذا المنهج مميزات تفوق الخبرات الخاصة بالأدوار التي يكتبها المؤلف، وهكذا فلا ضرورة لأن يضحي بعالمه الخاص من أجل القيام بدور وضعه له المؤلف.

أهمية العلاج بالسايكودراما

للعلاج بالسايكودراما أهمية كبيرة، وتأتي هذه الأهمية على عدة مستويات، المستوى الشخصي أو الذاتي، حيث يشجع العلاج بالسايكودراما المريض على التفاعل الشخصي، والمواجهة والتعبير عن المشاعر في حالة من البوح والتفريغ، الذي يقود المتعالج إلى استبصار مشكلته بتلقائية عن طريق المسرحة النفسية للوصول إلى مخازن العقل اللاواعي، وإزالة التجارب والاضطرابات النفسية السلبية في محاولة لاكتساب تجارب بديلة لتعديل المسار غير المرغوب فيه لتجارب سابقة، هذا إلى جانب أن العلاج بالسايكودراما يقدم إمكانيات الغوص عميقاً في تشكيل الشخصية وتشريحها نفسياً في قراءة عفوية على مستوى اللاشعور، مما يحقق حالة من الاستبصار والتطهير، وتغيير نماذج السلوك الخاطئة، فالسايكودراما العلاجية تستخدم لتنمية سلوكيات الأفراد الإيجابية لتقبل الذات والآخر، فهي تزيد من عملية الاستبصار الداخلي للإنسان لذاته؛ كي توصله لعمق التفكير والتدبر الذي يمكنه من الاستجابة بشكل أكثر توافقاً وتكيفاً.

أما على المستوى الاجتماعي، فقد أثبتت السايكودراما أهميتها وفعاليتها في مجالات اجتماعية عدة، منها: الإدمان الذي يعد ظاهرة أو حالة تحتوي على مزيج من الحالات والأمراض والاضطرابات النفسية العضوية، حيث نجحت تجارب السايكودراما في علاج وتعديل سلوك الكثير من المدمنين، كما نجحت أيضاً في إعداد وتأهيل نزلاء السجون؛ لأنها أولت للتربية وإعادة تأهيل الفرد اهتماماً بالغاً جاعلة من المسرحة النفسية والورشات التعبيرية فضاءً للبوح والتصريح عن مكنونات النفس، ثم احتضان وإعادة إنتاج الانفعالات والأفكار، والأفعال الصادرة عن الفرد لتنمية قدراته الذاتية ودفعها نحو الفعل الإيجابي، فقد حرصت السايكودراما على تقديم العون لمثل هذه الفئات ضمن برامج مختلفة تراعي طبيعة الانحراف السلوكي والاضطراب النفسي لكل حالة، بحثاً عن التكيف والتصالح مع الذات والبيئة الاجتماعية، أما على المستوى التعليمي فقد فتحت السايكودراما الطريق أمام بعض الفئات المستهدفة للتعبير عما يختلج في الذات من اضطراب وحيرة وإرهاصات، تقف كعائق أمام التركيز والإبداع والإتقان في الوظائف الذهنية، حيث تحرص السايكودراما على تدريب مثل هذه الفئات على تقنيات جديدة للتخلص من أثار الغضب النفسي والمعوقات التي تمنع الأداء الذهني الدراسي من أن يحرر طاقاته الإبداعية وقدراته الوظيفة، حيث تستخدم السايكودراما في تحسين مهارات التواصل الاجتماعي لدى الأطفال، لعلاجهم من صعوبات التعلم والتلعثم، وخاصة الأطفال المصابين بمتلازمة داون.

خطوات العلاج بالسايكودراما

بداية يؤكد مستخدمو العلاج بالسايكودراما على ضرورة خلق فضاء رحب للجلسات السايكودرامية، بدءاً من المكان مروراً بالتهيئة وانتهاءً بمناقشة المنتج، حيث يعتمد خطوات العلاج بالسايكودراما على تضافر عدة عناصر أساسية، تشكل فيما بينها خطوات العلاج، وهي:

الجماعة: وتعرف بالجماعة العلاجية، وهي عنصر جوهري في عملية العلاج بالسايكودراما، حيث دورها ينصب في تصور الأدوار المطلوبة في عالم المريض والمؤدية للمرض، فهم يشكلون حلقة اتصال بين الطبيب المعالج، والمريض المطلوب علاجه، ويساعدون المريض على أن يبدأ الدراما والقيام بأدوار جميع الأشخاص المقربين منه، لتحديد المشكلة التي يعاني منها.

بطل المسرحية: وهو المريض نفسه الذي تتركز حوله أحداث المسرحة النفسية، حيث يقوم بتمثيل واقع حدث له، فهو مركز الحدث السايكودرامي، الذي يقوم بتمثيل مواقف حقيقية أو خيالية فلا قيود عليه، فهو لا يقوم فقط بتمثيل المواقف التي واجهها في حياته، ولكن يطلب منه أيضاً تمثيل المواقف التي يخاف منها ويحاول تجنبها، وأثناء عملية التمثيل قد يتضح أمام المعالج ما يحاول المريض تجنبه، أو إخفاءه من مناظر أو أدوار غير سارة بالنسبة له، لذلك كان من الضروري توجيهه نحو الأدوار والمناظر التي يجب أن يقوم بتمثيلها مادام يحيا من خلالها خاصة تلك المناظر المؤلمة وغير المرغوب فيها.

الموجه: وهو المعالج، ووظيفته تكمن في اختيار الممثلين ووضع السيناريو، واختيار المكان المناسب للعلاج، مع المحافظة على كامل السرية فيما يحدث في جلسة العلاج، كما تكمن وظيفته أيضاً في ملاحظة التواصل اللفظي وغير اللفظي لأفراد المجموعة، وبطل المسرحية بشكل خاص.

المعالجون المساعدون، وهم امتداد لدور المعالج ووظيفتهم تتمثل في تيسير عملية عرض المشكلة، ثم إعداد وتنظيم الطرق والفنيات التي تتلاءم مع متطلبات الموقف، ومن بين هذه الفنيات العلاجية قلب الأدوار، البديل، مناجاة النفس، الصديق الحميم، المرآة وغيرها من الوسائل الفنية، التي تتمشى مع طبيعة الموقف المراد علاجه.

وفي النهاية نقول: إن هذه الأمور تتطلب قدرات مميزة للمعالج غير الدوائي من خلال نجاحه في قيادة الحوار والنقاش، وتزين الآراء برؤية حكيمة تسهل له عملية الانتقال من مرحلة إلى أخرى، تدفع بالمريض إلى التفاعل مع هذه التجربة العلاجية، التي يتوقف مدى نجاحها على قدرة المعالج والمريض على صياغة عقد ضمني ودي بمد الجسور باتجاه الآخر.


المصادر: 1. أسرار العلاج بالسايكودراما، د. هالة الأبلم، الناشر دار الهدهد للنشر والتوزيع، عام 2006م. / 2. السايكودراما مفهومها وعناصرها واستدعاؤها، عبدالرحمن سيد سليمان، حولية كلية التربية، جامعة قطر العدد 11، 1994م. / 3. العلاج بالفن، ملف خاص، مجلة فنون، العدد (11) الناشر الهيئة المصرية للكتاب، 2018م. / 4. السايكودراما والعلاج النفسي، إبراهيم مصطفى إبراهيم، مجلة العربي، الكويت عدد يوليو، عام 2001م. / 5. السايكودراما والمسرحية النفسية، جويرية بريطل، موقع الباحثون الجزائريون، بتاريخ 11/10/ 2017 نسخة إلكترونية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها