الفنان التشكيلي إبراهيم الحَيْسن

اشتغل جماليّاً على تيمة الترحال

حاوره: فيصل رشدي

غيَّر الفن معالم حضارات بأكملها، وجعلها حضارات منتجة للمعرفة والقيم، ولنأخذ على سبيل المثال أوروبا، حيث أحدث الفن تغيراً كبيراً على جميع المستويات، من خلال دوره الكبير في تحرير العقول من سلطة الكنيسة ورجال الدين. فظهرت مدارس فنية لتدريس الفن، وبالموازاة مع ذلك ظهر فنانون كبار، رسموا لوحات ظلت راسخة في الوجدان الإنساني الخالد.
 

حوارنا مع الفنان التشكيلي جمع بين الإبداع والنقد، ساعده في ذلك تكوينه العلمي، وأغناه فهمه العميق للعادات والتقاليد الصحراوية التي شكلت تيماته الرئيسة، يتعلق الأمر بالأستاذ إبراهيم الحَيْسن، من مواليد 1967 بالطنطان (جنوب المغرب)، فنان وناقد تشكيلي وكاتب باتحاد كتاب المغرب فرع العيون. باحث في التراث الأدبي والجمالي الصحراوي ورئيس تحرير مجلة "ثقافة الصحراء" (فصلية متخصِّصة). له عدة إصدارات حول الثقافة الشعبية المحلية والتربية الجمالية والفنون التشكيلية، آخرها كتاب حول "الاستشراق الفني في المغرب: أيقونوغرافيا مغايرة".

حاصل على جائزة الشارقة في البحث النقدي التشكيلي بالشارقة (إ. ع. م.) ثلاث مرات: 2009، 2010، 2017، وجائزة المغرب للكتاب، صنف الدراسات الأدبية والفنية واللغوية (دورة 2019).


 

نلاحظ في دول العالم المتقدم اهتماماً كبيراً بالفن في الحياة، وفي المدرسة، بخلاف الواقع في دولنا المتخلفة ما رأيك في هذه المسألة؟

يرتبط الاهتمام بالفنون في البلدان المتقدمة بالوعي المبكر بأهمية الفنون داخل المجتمع واعتبار الإبداع بشكل عام رافداً من روافد الرقي والتنمية المجتمعية؛ لذلك تأسس هذا الوعي وتكرَّس ضمن مشاريع وبرامج التنشئة الاجتماعية انطلاقاً من البيت والمدرسة مروراً بالمؤسسات الفنية التوعوية والتثقيفية، كالمتاحف والمسارح وصالات العرض الفني والبصري وغيرها.
أما في تجربتنا العربية، فإن الفن لم يلج الحياة العامة بشكل مقنِع ومؤثر لعدة أسباب تتعلق بالموقف من الفن لدى شرائح كثيرة من المجتمع، زد على ذلك قلة الاهتمام وضعف البنيات الفنية التحتية وخواء مناهج وبرامج الدرس الجمالي في مدارسنا العربية، مع استثناءات قليلة لبعض الأقطار العربية التي أضحت تولي الاهتمام بالفنون والاعتراف بأهمية الإبداع في تشكيل فكرنا الاجتماعي والثقافي.

ثمة مقولة أثيرة مفادها أن الفنان ابن بيئته، كيف أثرت البيئة الصحراوية على تجربتك الفنية؟

بحكم انتمائنا للصحراء، فقد شكلت هذه الأخيرة دائماً بالنسبة لنا سنداً إبداعيّاً وفضاءً واسعاً مغريّاً، بصَمته وعزلته، وممتداً نستقي منه عناصر التعبير والإبداع، الصحراء كمجال ممتد في المطلق وكثقافة وكتاريخ. يتسع هذا الأمر بفعل استفادتنا من الأبحاث والدراسات المتنوِّعة التي أنجزناها طيلة سنوات، وبالخصوص الطقوس والعادات الشعبية وأشكال التواصل الثقافي والرمزي في الصحراء، إلى جانب الأدب الشعبي والتعبيرات الشفاهية التي نجد صداها في هذه التجربة الفنية ولو بطريقة غير مباشرة.
إن الصحراء هي -بلا شك- فضاءٌ جغرافي ضارب في أعماق المدى، ومجال بيئي شاسع يحتضن الإنسان الصحراوي في رحلته الأبدية وسط هبوب الرياح. هي أيضاً متاهاتٌ لا حدود لها، أو هي فضاءٌ سانحٌ لتخضيب الحواس كما يقول أندريه جيد André Gide.. ففي الصحراء يحلو الإبداع على إيقاع رخاء الرِّياح وتهادي الإبل في خطواتها بكبرياء مستحق.. والشمس الحارقة ترسل أشعة العطش التي لا ترتوي.

إلى أيِّ حَدِّ تقرِّبون المتلقي من الخصائص الفنية والتعبيرية لهذه التّجرِبة والارتباط الإبداعي بعالم الصحراء؟

امتداداً لاشتغالات فنية سابقة؛ فإننا نواصل إبداع لوحات صباغية تمتاح خاصيتها الإبداعية من التراث الثقافي والجمالي في الصحراء، من خلال إيقاع خطوات الإبل ودقات أوتاد الخيمة وحركات الكثبان الرملية وأصوات الرِّياح، وكذا الصبغات البادية في الرداء واللباس التقليدي، لاسيما ملاحف النساء الصحراويات بألوانها الشاعرية البهية والمعبِّرة، فضلاً عن الرموز والعلامات المختزلة والأشكال التجريدية المعتمدة في تنميق الأعمال اليدوية المحلية. ويتضمَّن المعرض قطعاً فنية متنوِّعة (أقمشة وورقيات، تركيبات فوتوغرافية، إرساءات ومجسَّمات..)، تبحث في دلالة الأثر ومفاوز المادة وتحوُّلاتها البصرية، بمقدار اختفائها وانطفائها موشاة بترسُّبات وتطاريز لونية ملمسية تمنحها أبعاداً مرئية متحوِّلة.

إلى جانب ذلك، يُلاحظ توظيفكم لمواد وخامات مختلفة مع إدماج ملحوظ للقماش المحلي المصبوغ داخل السند. ما هي المبرِّرات الإبداعية لهذا التوظيف لاسيما وأنه يمتاح خصوصيته الجمالية من ثقافة الصحراء؟

بالفعل، يبدو جليّاً للمتلقي أن مجموعة من اللوحات التي أنجزناها تتضمَّن قطعاً قماشية مدمجة مع ورق "الكرافت"، في انسجام جمالي مع الأحبار الملوّنة ومسحوق الجوز وصبغات الأكريليك، وهو أمر مقصود بالنظر لجمالية اللباس التقليدي النسائي "ملاحف الصحراء"، الذي شكل بالنسبة لنا في هذه التجربة حقلاً دلاليّاً بصريّاً نستعير منه المفردات التعبيرية والرمزية، ذلك أن إعداد هذا الرداء النسائي يقوم بالأساس على تقنيات صباغية خاصة ومتفرِّدة، أبرزها تقنية "الصَّرْ" التي تماثل تقنية تشكيلية عالمية، هي تقنية الباتيك Batik، التي تعني تشميع وتجعيد القماش ووضعه داخل الصباغة (بكيفية التغميس) بشكل عفوي، مثلما ترتبط بفن الباتشورك، أو "القماش المضاف" وهو من الفنون الحديثة كان ظهر في أواخر القرن الماضي، وأول تظاهرة فنية جمعت رواد هذا الاتجاه كانت في منتصف الثمانينات في بينالي الباتشوورك الذي دعت إليه السيدة "يورغن أش فينتر"، حيث تم عرض الأعمال في متحف النسيج الذي أسسه" ماكس بيرك" منذ سنة 1978 في مدينة هايدلبرغ الألمانية. وقد تطرَّقت الباحثة الفرنسية ألين توزان A. Tauzin المختصة في إبداعات نساء البيظان Maures إلى تقنية مماثلة لما ذكر تستعملها النسوة الصحراويات اللواتي يحترفن صباغة الملاحف.
ثمَّ هناك تقنية التريتيك Tritik التي تقوم على استعمال خيوط بشكل متواز ضمن خياطة مؤقتة بغرض ترك بصمات جمالية متنوِّعة تنتج عن صبِّ الأصباغ على القماش المُخاطِ والمتضمّن لطيَّات وتكميشات صغيرة ذات نتوءات صغيرة تتلاعب فيها الألوان المسكوبة وفق رؤية جمالية وتشكيلية بالغة الرَّوعة.

تشتغلون جماليّاً على تيمة الترحال.. كيف يبدو ذلك في أعمالكم الصباغية؟

ينهض التوظيف التشكيلي لمفهوم الترحال في لوحاتنا على دلالات كثيرة -حاضرة ومؤجلة- ترسم (بمعنى جمالي ما)، نمط العيش السائد لدى رُحّلِ الصحراء والقائم بالأساس على البداوة والتيه والتقشف وتدبير الندرة Rareté.. نجد هذه الدلالات تتمثل في الآثار المتولدة عن تطبيقات لونية محلية ناتجة عن استعمال خامات صحراوية خالصة، متعاضدة أهمها النيلة Indigo والحَمِّيرَة، وغيرها من المواد والخامات التي تحيا وتعيش وتتصادم داخل نسق إستتيقي يدعو المتلقي إلى استيعاب سؤال الهوية والخصوصية في الثقافة الصحراوية.
في عمق هذه اللوحات تتبدَّى العديد من المفردات البصرية وتنبعث وتتحوَّل في تلاؤم مستمر مع دينامية الترحال التي تميِّز ثقافة الإنسان الصحراوي، الذي ترتهن حياته وبقاؤه بديمومة الترحال وضرورته، كما في تعبيرهم الشعبي "الحَيْ حَارَكْ، والميِّتْ بَارَكْ".
بمعنى آخر، إن هذه اللوحات تنطق بثقافة بدوية أصيلة مهدَّدة بالاندثار، لكنَّها، مع ذلك تظل راسخة في المخيلة والذاكرة الجماعية التي شيَّدها الأسلاف وأسَّسوها على قيم مجتمعية وإنسانية نبيلة وفاضلة، لم تعد اليوم كما كانت بفعل عنف التمُّدن والانخراط في الحياة العصرية.

كفنان وكناقد تشكيلي، كيف تزاوجون بين الممارسة والتنظير؟

كثيراً ما طُرح علينا هذا السؤال.. وفي الواقع ليس الأمر سهلاً الجمع بين حقلين إبداعيين واسعين رغم التقائهما وحاجة كل منها إلى الآخر. لا نخفي -وهذا مبرِّر غيابنا لفترة غير قصيرة عن المعارض الفردية- أن الكتابة النقدية في الفن التشكيلي أخذت منا وقتاً طويلاً ومتعباً، لكنه تُوِّجَ بإنجاز مجموعة من المقاربات والدراسات الفنية التي وجدت طريقها إلى النشر والتداول، منها ثلاثة أبحاث نالت جائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي بالشارقة ثلاث مرات، وهي: "أوهام الحداثة في الفن التشكيلي المغربي (2009)، "الهوية.. والسيمولاكر- عن تجربة الأنستليشن العربي" (2010)، و"التشكيل العربي المعاصر في ضوء كارتوغرافيا الفن الرَّاهن" (2017). فضلاً عن حصولنا العام الماضي على جائزة المغرب للكتاب- صنف الدراسات الأدبية والفنية واللغوية عن دراسة بعنوان "الكاريكاتير في المغرب- السخرية على محك الممنوع".
مجال الكتابة النقدية في الفن متاهات عديدة ومغامرة إبداعية كبيرة تقتضي المعرفة الحصيفة بتاريخ الفن وفلسفته وتاريخيته، وأيضاً الخبرة التقنية الوافية إلى جانب التوفر على لغة تعبيرية متخصِّصة. الكتابة التزام، والإبداع التشكيلي التزام كذلك، فلا بُدَّ لهما من تهييء الوقت الكافي والاهتمام اللازم لتبليغ الرسالة على نحو فاعل ومؤثر.

تقيمون بمدينة الطنطان معرضاً تشكيليّاً سنويّاً يجمع فناني الصحراء. ماذا عن هذا المعرض؟ وما المغزى من تنظيمه؟

يتعلق الأمر بمعرض تشكيلي جماعي تنظمه كل سنة جمعية أصدقاء متحف الطَّنطان للتراث والتنمية الثقافية، يهدف بالأساس إلى تثمين جماليات رحل الصحراء وتوظيفها في الإبداع التشكيلي. وقد أبرزت النسخ الثلاث من هذا المعرض أن الفن في الصحراء يسير بخطوات ملحوظة من الممكن استثمارها على نحو إبداعي أفضل بالنظر لما أظهره الفنانون المشاركون من مهارات وإمكانيات فنية معبِّرة عن الموروث الثقافي المحلي وإن تنوَّعت الأساليب الفنية وصيغ المعالجة، ما يجعلنا نقتنع بأن الشروط الإبداعية أضحت متوفرة (ولو نسبياً) للتأسيس لخطاب جمالي متقدِّم في الصحراء شريطة مراكمة التجربة وتعميق البحث بجدّ وتعزيز البنيات الثقافية التحتية الفنية واستثمار المؤهلات السياحية المحلية بشكل إبداعي يتلاءم مع ما تكتنزه المنطقة الصحراوية من كنوز وذخائر ونفائس ومأثورات شعبية وشواهد مادية كثيرة ضاربة في أعماق الحضارة والتاريخ.
وموازاة مع عرض الأعمال والقطع التشكيلية، يتمُّ تنظيم ورشات فنية لفائدة أطفال وشباب المدينة المولعين بالرسم والتلوين، إلى جانب تكريمات وندوات تداولية حول قضايا تشكيلية راهنية بمشاركة نقاد وباحثين متخصِّصين.
 


ما جديدكم في مجال الكتابة والنشر؟

صدر لنا قبل أيام كتاب موسوم بـ"شعرية الأثر في الفن التشكيلي المغربي" تمت طباعته بدعم من وزارة الثقافة، وهو دراسة تبحث في صيغ توظيف الأثر في اللوحة الصباغية بالمغرب ومدى استطاعة التشكيليين المغاربة على المادة وتطويعها واستغلال تحوُّلاتها البصرية فوق السند. ويُبرز الكتاب أن الأثر يظهر في تجارب الكثير من هؤلاء التشكيليين في شكل شخبطات وتواقيع غرافيكية سريعة التنفيذ تعتريها سيُولات لونية متدفِّقة إلى جانب أخرى خاثرة، مثقلة بصبغات كثيفة ومتعجِّنة موسومة بحياكات Textures ونتوءات متنوِّعة، ترسم مسارات الأثر ومتاهات اللون وانسيابية الشكل، على إيقاع خرائط متنوِّعة تمتد لتداعيات الفكر وانفعالات الجسد.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها