بعض مظاهر الانحراف.. عن هويتنا الثقافية!

د. عبد الله رمضاني

لقد سادت مجتمعاتنا اليوم عادات وسلوكات سلبية وهجينة، كما انتشرت في أوساطنا ثقافات ميتة لا تمت إلى قيمنا وهويتنا بصلة. فصرنا نرى بأم أعيننا ما يقتل فينا الغيرة وحب الأوطان، والنزوع إلى فعل الخيرات. انقلبت الموازين وتبدلت المعايير. تركنا همتنا ونخوتنا وأنفتنا ولبسنا ثوب قوم آخرين. نرى بأعينهم لا بأعيننا، ونعي بعقولهم لا بعقولنا، ونحس بقلوبهم لا بقلوبنا، انفصلت عقولنا وقلوبنا عن أجسادنا، وبعدت الشقة بين أعضاء الجسم الواحد، تحسبه موحداً لكنه مشتتٌ. السليم والصائب ما أتى من غيرنا، والعقيم والفاسد ما صدر من صميم ثقافتنا الأصيلة.


 

هناك العديد من مظاهر الانحراف عن هويتنا الثقافية والتربوية. فالجيل الذي يتربى ويتكون في المدارس والمعاهد والمراكز والجامعات يعيش فراغاً أخلاقياً وقيمياً، وصراعاً في ثقافته وهويته.

جيل يكاد ينسلخ عن أسس ومكونات حضارته. فلغته الأم تنكر لها وأصبح يعتبرها مظهراً من مظاهر التخلف، وأنها قاصرة، لا يمكنها مسايرة ركب التقدم والتطور التكنولوجي. فهي في حسبانه عقيمة ويجب أن يستأصل رحمها، واستبدالها بلسان آخر أعجمي؛ لأن هذه اللغة لم تعد ترقى إلى مستوى اللغات العالمية الأخرى. كما أنها ليست لغة علمية تنافس باقي لغات العالم. إن هذه الانتكاسة التي منيت بها لغتنا اليوم هي نابعة من ذواتنا أولاً، ومن المؤامرة الغربية ثانياً.

إذا كنا نحن من يحاصر لغته ويرجمها بالعقم والتخلف والتأخر؛ فماذا عسانا ننتظر من الآخر إلا الإجهاز والقضاء عليها، ومحاصرتها في كل المنتديات والمحافل الدولية، وكذلك تضييق الخناق عليها في كل البرامج التعليمية من قبل الدول التابعة لها والسائرة في فلكها.

إذا كانت اللغة تمثل وجود الأمة وكينونتها، والرابط الأساس الذي يشد عرى سائر الشعوب الناطقة بها تتعرض للمحاصرة والمضايقة بشتى الطرق والأساليب تارة، وللتنكر لها من بني جلدتها تارة أخرى، إذا كان الأمر كذلك، ترى ما طبيعة الوجود الذاتي الذي نرتضيه لأنفسنا وما شكله ومصدره ومرجعيته؟!

إن اليهود أولوا لغتهم اهتماماً كبيراً قبل وبعد استيطانهم لأراضي فلسطين السليبة واحتلالهم لها. فقد أفرغوا كل ما في وسعهم وطاقتهم من وسائل مادية ومعنوية لترسيخ وتثبيت دعائم وركائز هذه اللغة.

إنهم أدركوا جيدّاً، أن اللغة تعني الوجود، حيث تحولت اللغة في تصورهم ووجدانهم قضية وجود، كأنهم تمثلوا، في هذه المسألة، قولة ديكارت الشهيرة: "أنا أفكر؛ إذن أنا موجود". الوجود الذاتي والحضاري في نظرهم ومعتقدهم مرتبط ارتباطاً وثيقاً بلغتهم ولسانهم العبري. فسرت هذه اللغة في عروق وشرايين ناشئتها وبنيها، واستحالت كريات وجودية تعطيها المناعة والثبات في الوجود. فصعد جيل جديد من الشباب يتمسك بلغته ويقاتل عنها، ويمقت وينبذ ما دونها إلا من ساندها وقوى جانبها الوجودي.

وهذا أيضاً الشعب الياباني العظيم الذي ربى أطفاله وشبيبته على حب وطنه والاعتزاز بلغته وتقديسهما. فاليابانيون رغم انفتاحهم على ثقافة الآخر ولغته لم يسلبهم ذلك هويتهم وروح ثقافتهم. إن المعارف والعلوم التي أخذوها عن غيرهم لم تمنعهم من المحافظة على لغتهم وموروثهم الثقافي والشعبي. فقد كانوا يهضمون شتى العلوم والمعارف الجديدة بلغاتها الأم، ثم يقومون بتحويلها إلى لغتهم الأصلية، بعد ذلك تأتي عملية الإبداع والعطاء والإنتاج، والمشاركة في الإنتاج العالمي بواسطة اللغة الوطنية الرسمية في البلد.
هكذا تربى جيل من الأطفال والشباب على حب اللغة والدفاع عنها والاستماتة من أجلها، وخدمتها، وجعلها قادرة على مجاراة اللغات العالمية الأخرى؛ علماً ومعرفةً وإنتاجاً وإبداعاً وابتكاراً واختراعاً واستكشافاً في شتى حقول المعرفة والعلوم الحديثة، حتى جعلوا الأمم الأخرى تعترف بهم وبقدراتهم الخلاقة، والاستعانة بهم في مجالات وميادين مختلفة وعديدة.

إن الثقافة التربوية التي تشربها الطفل الياباني تبدأ بالاعتزاز بلغته والغيرة على وطنه، والمحافظة على مقدساته، والثقة في نفسه، والتشبث بوجوده، والافتخار بهويته وثقافته وحضارته.

إن هذه العناصر الروحية والنفسية هي التي صنعت هذا الشعب الديناميكي الفعال، وجعلته يرتاد آفاقاً شامخة في العلم والتكنولوجيا الجديدة، وينتقل من طور الاستقبال والأخذ إلى طور آخر يطفح بالعطاء والإنتاج والمردود الإيجابي. هكذا جعلتهم هذه الثقافة التربوية رجالاً يصنعون المستقبل بأفكارهم وأرواحهم وقلوبهم وسواعدهم، الكل يشارك في عملية البناء بإرادة قوية وعزيمة لا تفل، وثبات مكين، وروح متفانية. لقد دخلوا التاريخ من أبوابه الواسعة، وسجلوا حضورهم بحروف ذهبية بارزة، وأثبتوا وجودهم بدمائهم الأبية...

إن هذه العناصر البناءة نكاد نفتقدها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. فإذا لم نحترم لغتنا ولم نعتز بها بإقرارها لغة علمية، وعملية في برامجنا التعليمية ومؤسساتنا الإدارية وغيرها، فكيف سيحترمنا الآخر؟ إذا كنا نحن من يتهجم على لغته ويطاردها فهل سيرحمها غيرنا؟ لقد صدق أحد المستشرقين حينما قال: ما رأيت لغة مظلومة من قبل أهلها مثل اللغة العربية، فقد قسا عليها بنو جلدتها وتنكروا لها، وقذفوها بالعقم والوهن.

إذن؛ فمسألة اللغة تبدو عنصراً أساساً في تكوين شخصية الإنسان العربي. وعليه فلا بد أن نعيد لها الاعتبار، فتأخذ حقها في منظومتنا التربوية والتعليمية، وجميع مؤسساتنا الإدارية وجميع القطاعات الأخرى، وأن نربي أطفالنا على حبها، ونفطمهم على الاعتزاز بها، ونغرس في أذهانهم ووجدانهم قدرتها في مواكبة ركب التقدم العلمي والتكنولوجي، وسائر مجالات الحياة العلمية والمعرفية والثقافية.

ومن مظاهر الانحراف الثقافي أيضاً وجود فراغ نفسي ووجداني نحو الوطن، أو إن صح التعبير أن هناك بروداً عاطفياً تجاه الوطن عند عدد لا يستهان به من أفراد المجتمع العربي، وهذا إحساس موجود بالملموس بين فئات عريضة من الناس، ولعل الواقع المعيش خير دليل وشاهد على هذا. حيث أصبح الوطن في تصورهم يكاد لا يعني شيئاً سوى أن يخدمهم ويوفر لهم العيش الكريم. هكذا صارت تفكر ناشئتنا، لها نزعة برغماتية نفعية لا يهمها إلا نفسها، إذ تمركزت حول ذاتها ولم تعد ترى في الوطن إلا ما يوافق هواها ومآربها الذاتية الخاصة، وإن كان ذلك على حساب حب هذا الوطن. وترتب عن ذلك نتائج خطيرة انعكست سلباً على أفكارنا وواقعنا، وقد تجلى ذلك واضحاً في أنماط سلوكية هجينة ودخيلة لا تمت إلى قيمنا وتقاليدنا بصلة. فأصبحنا نرى انتهاكاً صارخاً للطبيعة، واعتداءً سافراً ومدمراً على البيئة، واستنزافاً بشعاً لمقدرات الأرض وخيراتها، وخرقاً مشوهاً للقوانين العامة المنظمة لحياة الإنسان في شتى المجالات والميادين، وفي كل القطاعات العامة والخاصة.

إن هذا، كان نتيجة حتمية لمقدمات أوصلتنا إلى هذا الوضع السلوكي المزري الشاذ. فعندما فقدنا بعض مقوماتنا الحضارية والثقافية آل الأمر إلى ما نحن عليه الآن.

إن غياب أو تغييب الثقافة التربوية في مجتمع ما سيؤدي، والشواهد من التاريخ كثيرة، حتماً إلى نخر هذا المجتمع من الداخل، وإلقائه إلى التهلكة والضياع. فالجيل الذي لم يفطم على هذه الثقافة، ولم تتحول لديه سلوكاً عملياً ملموساً في الواقع مآله إلى الضياع والتلف، وفقدان صمام القيم.

إن قيمة حب الوطن ثقافة تربوية لها ارتباط وثيق بوجود الإنسان وكينونته. فالمرء يستمد عناصر قوته من أرضه وبيئته وترابه. وهي علاقة جدلية قائمة تؤتي ثمارها طالما استمر هذا الرباط ولم يتوقف هذا الجدل بينهما. فلو وقع خلل في هذه العلاقة كانت النتيجة غير مرضية، ومخيبة للآمال وللآفاق المنتظرة والمنشودة.

إن جيلنا اليوم يحتاج إلى أن ينشأ ويترعرع على مثل هذه الثقافة، حتى تصير دماء تسري في عروقه وشرايين فؤاده.

ومن حبه لوطنه أن يحافظ على طبيعته، ويحرص حرصاً شديداً على عدم تلويث بيئته، ويعمل جاهداً في عدم تبديد مقدراته وخيراته، ويرعى واجبات وحقوق هذا الوطن عليه، وأن يعتز به ويفخر به في المنشط والمكره، وتكون عينه ساهرة في خدمته والدفاع عنه وحمايته بأعزّ ما يملك من كل عدوان داخلي أو خارجي، كيفما كانت طبيعته أو نوعه أو جهته ومصدره.

إن هذا النوع من الثقافة يجب أن يبدأ من النفس أولاً في البيت والمدرسة، ثم ينسحب على كل أفراد المجتمع. فإذا غرست هذه البذرة في النفوس وتمت رعايتها والعناية بها بحرص شديد، أعطت لنا مجتمعاً إنسانياً أصله ثابت وفرعه في السماء.

إن أجدادنا الكرام كان حب أوطانهم لا يفارقهم، بل كان يلازمهم في كل وقت وحين، وأينما حلّوا وارتحلوا، حتى إن أحدهم كان إذا أقدم على الرحيل إلى بلد ما أخذ معه حفنات من تراب أرضه، ووضعها في صرة يشتمها بين الفينة والأخرى، فهي التي تحسسه وتشعره بأصله، ومقام أهله وأحبابه وذويه وعشيرته، وكل ما له صلة بأرضه كلها في كل التخوم والربوع.

إننا حينما نتكلم عن هذه الثقافة التربوية بهذه الكيفية، وبهذا الشكل فنحن لا نتحدث عن عالم مثالي أو خيالي غير قابل للإيجاد. وفي نفس الآن، لا يمكن أن نعول على هذه الثقافة في ذاتها لتوجد لنا ما نصبو ونتطلع إليه، فهذا في نظر العقلاء ضرب من أضغاث الأحلام.

إن هذه الثقافة التربوية لا يمكن أن تعطي ثمارها، وما هو منتظر منها ما لم تجد تربة خِصبةً، وأرضية معطاءة قابلة للإنبات والإزهار، وظروفاً مناخية ملائمة لتحقيق ذلك. ونحن هنا لا نقصد جهة معينة، أو فئة بذاتها تقع عليها مسؤولية إقرار وتفعيل مكونات وصرح هذه الثقافة، لكن المسؤولية تنسحب على الجميع حاكماً ومحكوماً، راعياً ورعية، كل حسب موقعه الاجتماعي والسياسي والعلمي والثقافي، بيد أن هناك تفاوتاً في سلم توزيع وتحمل هذه المهمة الثقيلة التي يكاد يتنصل منها الجميع، ويحمل كل طرف الطرف الآخر مغبة ما يحدث ويجري.

فالعقل والمنطق يقضيان بأن الشق الأول والأكثر خطورة منوط أولاً بمنظومة الدولة، أو الجهاز الحاكم بكل مؤسساته السائرة في فلكه، إذ لا بد من توفر، ابتداءً، إرادة سياسية جريئة وقوية تملك القدرة على التنفيذ، فتقر هذه الثقافة وتعمل على نشرها بكل الوسائل المتاحة، وتسهر على حمايتها وإقرارها وتفعيلها. فالإرادة السياسية القوية هي الخطوة الكبيرة في درب إيجاد مجتمع يحب وطنه ولغته وأفراد مجتمعه. فكل عمل أو فعل تربوي إذا لم يكن مدعوماً ومؤازراً بقرار سياسي مفعل تفعيلاً واقعياً ملموساً، لا يعطي ما ينتظر منه، ويظل حبراً على ورق، وبالتالي تكون الأنظمة التي بيدها زمام الأمور تساهم بشكل كبير في خلق مجتمع ورقي، ويكرس ثقافة لا شيء ولا مسؤولية. وهذا العمل المنتظر من مؤسسة الدولة هو رابطة العقد، وهو الأساس الذي ينبني عليه سائر البناء، وتتجمع فيه كل اللبنات متراصة ومتماسكة في توازن واعتدال.

فإذا توفر هذا الشرط تبقى الشروط الأخرى تبعاً لها، فهي ستسير في فلكها، وستخضع لقوانينها وجاذبيتها. فمردّ الأمر أولاً مرهون بمدى جاهزية الدولة على التغيير، وصدق نيتها في هذا التغيير. فالأنظمة الحاكمة الاتكالية لا تقدر على ترسيخ منظومة القيم والأخلاق داخل مؤسساتها الإدارية والتربوية والتعليمية، ما لم تشمر عن ساعديها بكل ما أوتيت من قوة واستطاعة وصلابة، ورغبة صادقة في الحفاظ على سلامة بنى المجتمع، والحرص الشديد على الهوية الوطنية العربية والإسلامية.

فنحن نريد بناء مجتمع سليم، معافى، غيور، إيجابي، وفعال لا يقف عند حدود الكلمات والسطور، بل يترجم ما تستبطنه من معان وتصورات، وتصرفات عملية محسوسة وملموسة، ولا يكتفي بذلك فحسب؛ وإنما يستحيل لديه كل ذلك اقتناعاً ثقافياً متجذراً ومحفوراً في ذهنه ووجدانه الفردي والجمعي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها