آندرويْد في السينما

الحدود الفاصلة بين الإنسان والآلة

مروى بن مسعود


كان الذكاء الاصطناعي، ولا يزال، يحمل أحلاماً عديدة من بينها خلق آلة لا يمكن التمييز بينها وبين صانعها في قدراتها وتصرفاتها. وهذا تحديداً ما سعى لتحقيقه آلان تورينج الذي كان يطمح لخلق "آلة تفكير"، تكون قادرة على خداع الإنسان على أنها من جنسه في محادثة قصيرة عبر واجهة نصية. وفي هوليوود تعكس بعض الأعمال السينمائية هذه الحدود المرنة بين الإنسان والروبوتات.
 

سعت هوليوود خلف ذكاء اصطناعي أكثر جاذبية، على الأقل منذ الفيلم الصامت "متروبوليس" (1927)، بطلته شابة مثالية تدعى ماريا تكافح من أجل تحسين ظروف عمّال المصانع والتغلّب على الفوارق الطبقية بينهم وبين حكّام المدينة. لذلك يبتكر عالم مجنون يُدعى روتوانغ روبوتًا جذّابا. لكن حاكم مدينة ميتروبوليس يطلب منه استخدام الروبوت لزعزعة الثقة بين ماريا وأتباعها من العمّال، فوجد طريقة لمحاكاة صورة ماريا تصرفاتها وإضافتها إلى خصائص الروبوت. هنا نرى بعض إمكانيات الذكاء الاصطناعي: الروبوت ماريا هو أداة للخداع والتحرّر، وموضوع للحب والاشمئزاز بنفس القدر.
 

منذ "متروبوليس"، تطوّرت الصور السينمائية للروبوتات مع تطوّر أساليب إنتاج الأفلام. وكذلك الروبوتات المشحونة بالتعقيدات العاطفية للممثلين. وقد تطوّرت صورة الروبوتات المعروضة على الشاشة بواسطة الممثلين على مستويات متعددة: ممثّل بشري يقوم بدور آلة فيتقنه بشكل لا يمكن تمييزه عن البشر - توصيفان متزامنان، تفصل بينهما الهوة بين ما هو طبيعي وما هو تكنولوجي. وقد تطوّرت هذه الفكرة الدقيقة عن "إنسان في دور روبوت يسعى دوماً أن يظل إنسانًا"، انطلاقاً من المفهوم السينمائي الأصلي للروبوتات باعتبارها مجرد شخصيات بشرية من المعدن. ويبدو أن زمن الروبوتات الجامدة التي تفتقر للتعابير، بحركتها القاسية، أو الروبوتات المتحدثة بشكل رتيب قد انتهى. إنها فكرة تنتمي لمدرسة قديمة جداً.
 

يعتبر مايكل فاسبندر أحد الممثّلين الذي برز في الأفلام الحديثة متنقلاً بسلاسة بين الطبيعي والاصطناعي كما تتطلبه شخصية أندرويد. لم يتقمص دور الروبوت في عدة أفلام فحسب، بل أتقن دور روبوتات متعددة في نفس الفيلم. والأهم من ذلك، أنه صوّر الروبوت المخادع (ديفيد) في فيلم "بروميثيوس" عام 2012 لريدلي سكوت، وهي نسخة أولى من الرعب الخيالي "فضائي" Alien. وأعاد فاسبندر تقمّص دور ديفيد في نفس الفيلم في نسخته الجديدة بعنوان فضائي: العهد Covenant: Alien (2017)، من خلال دور الروبوت الثاني (والتر). يكشف الروبوت ديفيد عن مشاعر إنسانية، تمت إضافتها إلى برمجته في بروميثيوس، لكن (والتر) المتّزن كان جامداً بلا عاطفة أساسًا. وقد رغب فاسبندر في أن يكون والتر شبيهاً أكثر ما يمكن بــ (سبوك)، وأن يتجرّد من الصفات البشرية أو الجوانب العاطفية التي تمت برمجتها في (ديفيد).

أنتوني دانيلز ممثل آخر متعوّد على تقمّص أدوار الروبوت، وظهر في دور الرجل الآلي C3PO في سلسلة "حرب النجوم" بين 1977-2019. رغم أن شخصيته شكّلت رمزاً سينمائياً، إلا أن دانيلز كان قادراً على التجوّل في أي شارع من العالم دون أن يعرفه أحد، لأنه على الشاشة كان مغطى كليّاً بالغلاف الذهبي اللامع لروبوت البروتوكول المهذّب. كان عبارة عن روبوت "مرتدّ"، ميكانيكي بالكامل، مع حركات قوية وأرجل صلبة، ومع ذلك ظل شبيهًا بالبشر في حركاته وتنقلاته.

لقد أصبح الموضوع الذي تحاول من خلاله أندرويد أو سايبورغ الاندماج مع البشر منتشراً على نطاق واسع. يعرض فيلم ريدلي سكوت "بليد رنر" Blade Runner (1982) أربعة نسخ متماثلة وهاربة - بشرية خارقة واصطناعية تمت هندستها حيوياً وتحميلها بذكريات مزيّفة، ولكنها لا تعمّر أكثر من أربع سنوات. تهرب النسخ المتماثلة من المستعمرات خارج العالم، حيث يتم استخدامها في أدوار مختلفة أشبه بالعبيد للعودة إلى الأرض البائسة سعياً لإطالة أمد حياتها من خالقها. يتم تكليف الشرطي المحترق ريك ديكارد (هاريسون فورد) بتحديد أمكانها والقضاء عليها. مهمّة يقبل بها متردّداً، مدركًا لدرجة الذكاء (الاصطناعي) المتقدم لفريسته، وبراعتها الجسدية وعواطفها البشرية. ويتقمّص روتجر هاور دور روي باتي، القائد المهيب والعنيف للنسخ المتماثلة بمزيج من التهديد والألم.

وقد وصف هاور، الذي توفي في عام 2019 فيلم "بليد رنر" بأنه الأفضل من بين الأفلام التي شارك فيها. كان يقوم بدوره الآلي بشكل رائع. من ناحية، هو لا يعرف الخوف، مما يجعله في كل مرة العدو المروّع؛ ومن ناحية أخرى، كان "إنسانا" بوعي متناقض، ينهي مشهد قتال ممطر على السطح بعرض غير متوقّع للإنسانية.

ولئن كان الروبوت HAL في فيلم "أوديسا الفضاء" ((1968 عبارة عن جهاز كمبيوتر مركزي وليس رجلاً آلياً؛ فإن شخصيته كانت في غاية الوضوح، بكل ما تحمله من فظاظة وتردّد وخوف وندم ورهبة، فكان أشبه بإنسان عاقل.

كان صوته - اللطيف، والنزيه، والعنيد، والهادئ – ميزته الأساسية. وكل ذلك جعل تهديده وخداعه أكثر إزعاجًا. وصف نيل جينزلنجر شخصية HAL بأنها "تجسّد الحداثة التي انحرفت، والوعاء المناسب لقلقنا الجماعي من المواجهة التطورية الحاسمة ضد إبداعاتنا الشخصية".

وتظل الفروق الدقيقة في أندرويد السينمائية محدّدة فقط بخيال ودهاء مبدعيها في جميع المستويات. ومع ذلك، من الواضح أن صورة الروبوتات ظلّت تتقدم بثبات باتجاه اعتماد الحيل البارعة.

ربما بدأت أجهزة أندرويد في السينما بتحريك القلوب والعقول، لكنها أصبحت الآن تعرض بانتظام أدوات لمحاكاة البيولوجيا التركيبية. وفي نفس الوقت، أصبحت توصيفات أندرويد في الأفلام أكثر دقة، وما أثاره ذلك من إشكالية الفصل بين الطبيعي والاصطناعي الذي يبدو معزّزًا في مصطلح "الذكاء الاصطناعي" بحد ذاته. ومع استمرار هذه العروض في التطوّر، سيظل دور السينما كما تعودنا دائمًا: مرآة مظلمة تعكس مزيجًا مما نحن عليه، وما قد نصبح عليه.

 

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها