حـوار مع الأستاذ محمد شحاته العمدة

حاوره: فيصل رشدي

كاتب وشاعر وحكواتي، ألهمه التراث الشعبي مادة للبحث، فلم يخيبه أبداً، بل امتطى صهوة جواد الثقافة الشعبية فارساً، محلقاً في سماء التراث، حاملاً في ذاكرته ذكريات قديمة محكية، قدمها بصوته العذب المنبعث من أعماق الذات عبر برنامجه (حكاوي الصعيد)، وعلى موجات راديو (كيميت) بمترو الأنفاق بالقاهرة الكبرى. والحديث هنا عن الشاعر محمد شحاته العمدة، الذي رأى النور في مركز البداري بمحافظة أسيوط جنوب مصر عام 1978، هناك ترعرع وفتح عينيه على بيئة صعيدية مميزة بتراثها الغني. درس حتى مرحلة الدكتوراه التي يعدها الآن حول: رواة الحكايات الشعبية في مدينتي مراكش وتارودانت بالمملكة المغربية.

لمحمد شحاتة العمدة العديد من الإصدارات في مجال التراث أخص منها: كتابه (أغاني النساء في صعيد مصر) الذي صدر عام 2013 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وكتابه (العقيلي واليازية) مربعات مصرية لحكاية عشق إماراتية، والذي صدر عام 2017 عن دار بتانة. إضافة لعشرات المقالات والأبحاث في مجال التراث الشعبي، والمنشورة في مجلات تراث والموروث ومراود الإماراتية.
 

حاصل على جائزة الشارقة للإبداع العربي عن روايته (أم العنادي) عام 2018.
 



مرحباً بك أستاذ محمد شحاته العمدة..


كيف تعرف لنا التراث الشعبي، وما أهم مجالاته؟

بعيدًا عن التعريفات والمصطلحات العلمية والأكاديمية، أرى أن التراث هو هوية كل جماعة من الجماعات الإنسانية، هو قانون حياتها بعيداً عن القوانين الوضعية، فترتب كل جماعة طريقة معيشتها بنفسها وبما يناسب ظروفها البيئية والعقائدية والاجتماعية والثقافية، فترتب العلاقة بين أفرادها حسب النوع أو السن، وتضع قواعد وأعراف للزواج والوفاة والميلاد، وتضع طرقاً لحل المنازعات المختلفة بين أفرادها، وطرق البناء والعمل حسب المواد الخام التي تنتجها البيئة، وتصيغ موروثاً شفاهياً من الأمثال والحكم والحكايات والأغاني، يكون ذلك الموروث الشفاهي منهجاً للحياة ومعبراً عن عاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم.

وتعلمنا في الجامعات وقرأنا في كتب الباحثين في علم الفولكلور، أن التراث له عدة مجالات رئيسة هي:
- الأدب الشعبي بفروعه المتنوعة، من أمثال وحكايات وقصص وسير شعبية وأغان شعبية.
- العادات والتقاليد، ومنها عادات الميلاد والزواج والوفاة.
- المعتقدات والمعارف الشعبية، ومنها الاعتقاد في الجن والغيبيات والأحجار، ومعارف حول الطعام والزراعة وغيرها.
- والثقافة المادية، وتشمل العمارة والحرف الشعبية وأدوات العمل الزراعي وغيرها.

ما الدوافع التي جعلتك تهتم بالتراث الشعبي؟

لقد نشأت في مجتمع زراعي وقرية تتمثل فيها معظم مجالات الحياة التقليدية، فقريتي تتكون من ثلاثة أجزاء: الجزيرة وهي قطعة أرض في وسط نهر النيل، يعمل أهلها بالزراعة شتاء إضافة لصيد الأسماك، ولهم عاداتهم وتقاليدهم التي تناسب تلك البيئة، والبلد، وهي خليط من بيوت القرية المبنية من الطين والطوب، ومساحات من الأراضي الزراعية التي يمارس أهلها الزراعة صيفاً وشتاءً ويزرعون جميع المحاصيل الزراعية والخضراوات والفاكهة، ولهم عاداتهم ومعتقداتهم وأدواتهم التي تناسب تلك البيئة، إضافة لمنطقة المدافن وتقع أسفل سلسلة جبال البحر الأحمر، وتنتشر بها مقابر القرية وبها عدد من السكان يقومون على حفر القبور ودفن الموتى وحراستهم، ولهم عاداتهم ومعتقداتهم أيضاً.
إضافة أنني نشأت في ظل معتقد شعبي، فقد كنت توأماً لأخت توفاها الله، واعتقد أهل قريتي أن المولود التوأم يتحول ليلاً إلى قط، يتجول في بيوت القرية فيأكل الأطعمة المطهية ويشرب اللبن، ولما كبرت تغيرت نظرتي للقرية، فرأيتها برؤية الباحث عن الحقيقة والمتأمل في تلك العادات والمعتقدات وأسبابها وتاريخها، فدرست الفولكلور في معهد الفنون الشعبية بأكاديمية الفنون، ودرست الماجستير والدكتوراه في قسم الأنثروبولوجيا بكلية الدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة، وكتبت العديد من الكتب والأبحاث عن تراث قريتي، الذي عاصرته بنفسي وسمعته من أهلي وأقاربي طوال سنوات عمري وحتى الآن، فجمعته ووثقته وكتبت عنه.

ما الأشياء التي يحاول أن يوصلها التراث الشعبي للناس؟

يهدف التراث إلى تعريف الناس بتاريخهم الشعبي القديم وعاداتهم وتقاليدهم، ويهدف جامعو التراث لحفظه وتوثيقه لتتعرف الأجيال القادمة على طريقة تفكير من سبقهم، ونظرتهم للحياة من حولهم وكيفية تنظيم علاقاتهم، كما أنه يرسخ لهوية الشعوب والجماعات الإنسانية، ويميز بعضها عن بعض بعناصر التراث الخاصة بها.

هل الحكومة المصرية لها سياسة في حفظ التراث وصونه؟

تعمل المؤسسات الرسمية التابعة لوزارة الثقافة، على جمع وتوثيق التراث الشعبي وحفظه، من خلال المطبوعات التي تصدر في مصر ومن أهما: مجلة الفنون الشعبية، وسلسلة الثقافة الشعبية بالهيئة المصرية العامة للكتاب، وسلسلة الدراسات الشعبية بهيئة قصور الثقافة، وتلك السلاسل تنشر دراسات الباحثين ورسائل الماجستير والدكتوراه التي تدور في فلك التراث الشعبي، إضافة لمشروع كان قائماً من عدة سنوات وهو (أرشيف المأثورات الشعبية) وقد جمع هذا المشروع التراث من جميع محافظات مصر، من خلال الباحثين الذين حصلوا على تدريب في هذا المشروع، وتم جمع وتوثيق عناصر التراث الشعبي من خلالهم بالصوت والصورة وملفات الفيديو، وتم تصنيفها وتوثيقها من قبل الأرشيف وما زالت حبيسة الأجهزة تنتظر مشروعاً أكبر للاستفادة بها ونشرها وتعريف العالم بالثقافة الشعبية المصرية، إضافة لمؤسسات تعليمية تدرس الفولكلور والتراث مثل المعهد العالي للفنون الشعبية التابع لأكاديمية الفنون، وقسم الأنثروبولوجيا بكلية الدراسات الإفريقية، وأقسام الأدب الشعبي المنتشرة في كليات الآداب بالجامعات المصرية، والتي تناقش كل عام عشرات من رسائل الماجستير والدكتوراه في هذا المجال.

وضعت كتاباً مهماً حول حكاية عشق إماراتية العقيلي واليازية. كيف جاءتك فكرة دراسة الحكاية. وما هي الأشياء التي أضفتها فيما يخص المربعات الشعرية؟

العقيلي واليازية هي حكاية شعبية إماراتية بصيغة النثر، جمعها الباحث الإماراتي الدكتور راشد المزروعي، ونشرت في مجلة تراث الإماراتية وكتب عنها الباحثون العديد من المقالات، وعندما طلب مني الكتابة عنها، لم أجد سوى المربعات الشعرية للتعبير عنها، فأعدت كتابتها بصيغة الشعر الشعبي المصري المتمثل في المربع، والذي تغنى به السيرة الهلالية في مصر ومعظم السير والحكايات الشعبية، فكتبت الحكاية كاملة بهذا النمط، وتم نشرها في دار بتانة، وتم عمل حفل توقيع لها بمعرض أبوظبي للكتاب، وتم عمل حفل لها بملتقى الراوي الدولي بالشارقة، وجربت فيها طريقة الحكي من خلال المربع وكيف يمكن للمربع أن يقوم مقام السرد ولا يؤثر على سير الحكاية وتفاصيلها، بل يضيف لها جمالاً متمثلاً في الوزن الشعري والموسيقى والغناء، تجعل المتلقي يتقبل الحكاية ويحفظها ويستمتع بها.

عقدت مقارنة بين طقوس الأعراس بين الأعراس في صعيد مصر والأعراس جنوب المغرب منطقة وادنون. ترى ما أوجه التشابه والاختلاف؟

لقد كانت رسالتي في الماجستير عن (أثر التغير الثقافي على عادات العرس في المجتمع الحساني بمنطقة كلميم وادنون)، ونجحت في جمع تلك العادات من خلال الأعراس التي رصدتها في مجتمع البحث والعادات والمعتقدات المرتبطة بها، ووجدت أن المجتمع الحساني رغم ما طرأ عليه من تغير ثقافي، ما يزال يحتفظ بعاداته المرتبطة بالعرس، والمتمثلة في طقس الطحين والهدايا التي يقدمها الجيران للعروس، وصندوق الهدايا الذي يحمله العريس لعروسه يوم الزفاف والجمل الذي يتقدم تلك الهدايا، وطقوس الغناء في جميع مراحل العرس والمتمثلة في الترواح وغيره، وطقس الحناء والتسمين واللبن والتمر والكصعة وخطف العروس، وما زالت عادات العرس في قرى صعيد مصر لم يطلها التغيير أيضاً سوى في شكل المنزل وتحول شكل العائلة من ممتدة إلى نواة، غير أن تلك العادات لن تصمد أمام التغيرات المتسارعة في المجتمعات التقليدية والتي صارت مسخاً من المدينة، ولا شك أننا في المستقبل القريب سنفقد العديد من تلك العادات، غير أني لم أجد اختلافاً واضحاً بين طقوس العرس الحساني والصعيدي، فكلاهما يرفع من قدر المرأة ويحتفي بها، ويرفع من قيمة المهر الذي يعبر عن قيمة العروس ونسبها، وما يزال الزواج القرابي يأخذ النصيب الأكبر من نسبة الزيجات في تلك المجتمعات، وما تزال أغاني العرس يترنم بها الكبير والصغير وخاصة النسوة المسنات، ولا يزال الرقص الشعبي يمارس في تلك الأعراس بشكل يعيدنا أحياناً لعشرات السنين التي مضت، وكانت فيها العادات في قمتها وزهوتها.

أنت أيضاً كاتب، كيف تصف شعورك لدى حصولك على جائزة الشارقة للإبداع المركز الثاني صنف الرواية؟

رغم أنها أول جائزة أحصل عليها من عملي في الأدب، غير أني أعتبرها جائزة العمر، ومهما حصلت على جوائز أخرى ستظل تلك الجائزة التي ارتبطت بأول عمل روائي لي وهي رواية (أم العنادي) هي الجائزة الأهم والفرحة الأكبر، فلم أكن أتوقع وأنا لا زلت أحبو في مجال الرواية أن تجد روايتي كل هذا الصدى والاحتفاء، وتحصل على جائزة دولية كبرى مثل جائزة الشارقة، فقد كانت تلك الجائزة إقراراً من النقاد بتميزي وتميز ما أكتب في ذلك المجال، الأمر الذي كان محفزاً لي على مواصلة الكتابة في مجال الرواية، وقد كانت أم العنادي لها خصوصية لأني سردت من خلالها حياتي في قريتي، والعادات والمعتقدات التي تميزها، فلم تكن كتابتي في مجال الأدب بعيداً عن اهتماماتي بالتراث الشعبي؛ لأن أم العنادي تمثلت فيها معظم عناصر التراث بشكل سردي ومحكي أكثر متعة من البحث أو الدراسة.

ما الإكراهات التي يعانيها الباحث في التراث؟

لا شك أن مجال التراث الشعبي يعاني الآن أكثر من أي وقت مضى، فكل من هب ودب يكتب الآن في هذا المجال بلا معايير أو خبرة أو دراسة، فأصبحت الكتابات مسخاً ومشوهة بيد غير المتخصصين الدخلاء على ذلك المجال، وهذا التحدي خطير تقع سلبياته على المؤسسات التي تنشر الكتب أو الأبحاث المتعلقة بالتراث؛ لأنها لا تهتم بتاريخ هؤلاء الباحثين وخبراتهم ومؤهلاتهم، مما أدى لتفريخ أشباه باحثين يسيئون للتراث أكثر مما يفيدونه وصار وجدوهم خطراً على التراث والعاملين به.
ناهيك عن ندرة المؤسسات الثقافية التي تعنى بهذا المجال، وندرة المؤسسات التعليمية الأمر الذي نجد معه المئات من الباحثين الحاصلين على درجات علمية ولا يجدون عملاً يناسب مؤهلاتهم العلمية، فصار الباحث يستجدي من هنا وهناك وينتظر مقابلاً لبحث أو دراسة أو كتاب أو ندوة، رغم ما يقوم به من جهد في مجال شاق وهام، يهدف للحفاظ على هُوية الشعوب ويميز بعضها عن بعض، إضافة لأمر خطير لا بد أن ينتبه له القائمون على هذا المجال، وهو التراث الشفاهي والذي ينتهي ويموت بموت الحفظة، ويحتاج لجهد لجمعه من ألسنتهم سواء كان أمثالاً أو حكايات أو أغاني شعبية، ويحتاج لجهود متسارعة من المؤسسات الرسمية الثقافية والعلمية، إضافة للسرقات التي تتعرض لها عناصر التراث الشعبية.

حدثني عن مشاركتك الأخيرة في مهرجان مغرب الحكايات؟

أنا حكواتي بالأساس، وأمارس الحكي الشعبي مع الأطفال كل عام في معرض القاهرة الدولي للكتاب ومعرض الإسكندرية للكتاب، ومعرض فيصل الذي يقام في شهر رمضان، وأجد في الحكي للأطفال متعة كبيرة وخاصة عندما أجد منهم الاهتمام والانتباه وعشق الحكي، ولم أجرب الحكي أمام الكبار إلا من خلال الإذاعة، وكانت تجربة المشاركة في مغرب الحكايات تجربة فريدة ولها خصوصية، فلأول مرة أجرب الحكي أمام جمهور متنوع من الصغار والكبار ومن جنسيات مختلفة، وأشكر الدكتورة/ نجيمة طايطاي رئيسة المهرجان على تلك الفرصة التي أتاحتها لي، فجعلتني أتعرف على تجربة رائدة في الوطن العربي، تحافظ على أهم عناصر التراث وهو التراث الشفاهي المتمثل في الحكايات الشعبية، مما زاد في إصراري على متابعة مشروعي في الحكي للأطفال، وأن لا يقتصر على المعارض فقط ولكن يمتد إلى المدارس أيضاً، وأتمنى أن تستجيب وزارة التربية والتعليم وتدعم مشروعي، لننشئ جيلاً يعرف تاريخه وتراثه وهويته ويعتز بها.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها