التُّراث.. يخلص القصيدة من النزعة المادية

حـوار مع الشاعر السيد الجزايرلي

حاوره: الأمير كمال فرج

السيد الجزايرلي صاحب تجرِبة شعرية مهمة، في قصيدته يستفيد من الآفاق التي وفرتها الحداثة، ولكن في الوقت نفسه لا يتخلى عن التراث، والذي يرى أنه يخلص القصيدة من نزعتها المادية.
 


صدرت له عدة مجموعات شعرية منها: (سِيرَةُ العَطَشْ" عام 2011م، و"أبْجَديَّةُ الوَجَعْ" عام 2014، و"مِسْكُ الغِيَابْ" عام 2016، و"حَصَادُ المِلْحِ والرِّيحْ" عام 2018م.


حصل على عدد من الجوائز وشهادات التقدير منها: جائزة المجلس الأعلى للثقافة للشعراء الشباب عام 1993م، والجائزة المركزية للهيئة العامة لقصور الثقافة عام 1995م، ودرع التميز الثقافي من وزارة التعليم العالي المصرية عام 2009م.


تم تكريمه من قبل "حوار آرت" تقديراً لدوره في إثراء النقد التشكيلي بالسعودية عام 2009م، كما تم تكريمه من قبل الجمعية السعودية للثقافة والفنون عن مسرحيته "عودة هاملت"، التي عرضت بمهرجان المسرح السعودي عام 2012م.


يرى الجزايرلي في حـوار مع "الرافـد" أن الإنترنت خدم الشعر، وأسهم في إعادة إحياء الجزء المشرق من الذاكرة الشعرية العربية، وأن الشعر أصبح أكثر انحيازاً للفن والجمال، مؤكداً أن التجريب هو المسلك الأهم في عملية الإبداع.



مهمة الشعر؛ بعد ظهور أنماط جديدة من الثقافة في عصر الإنترنت، هل تغيرت مهمة الشعر؟

مهمة الشعر بدأت في التغير التدريجي قبل عصر الإنترنت بعقود، ولكن إيقاع التغيير أسرع وأكثر وضوحاً في عصر الإنترنت، ومهمة الشعر في العصر الحديث أصبحت أكثر انحيازاً للفني والجمالي، ففي السابق كان الخطاب الشعري محملا بعبء ثقيل من شروط الخطاب الإعلامي المباشر، حيث كان الشاعر صوت قومه ولسان قبيلته، وكانت تُملى عليه رسائل خطابية محددة ليقوم -كوسيط إعلامي أو إخباري- بتوظيفها في سياقات شعرية لتحقيق أغراض لها بُعدها القبلي الذي يبعدها كثيراً عن جماليات الشعر والإبداع، لذلك نجد في تراثنا العربي الكثير من شعر الفخر والمديح والهجاء لا يرقى إلى المرتبة الشعرية.

وفي اعتقادي أن عصر الإنترنت خدم الشعر، وأسهم في إعادة إحياء الجزء المشرق من الذاكرة الشعرية العربية، صحيح أن نسبة كبيرة من بين ما ينشر عبر شبكة الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي تُعد من الغث الفقير إلى شروط الشعرية، وأن هذه القنوات الإلكترونية أتاحت المجال لظهور وانتشار أصوات هشة وهزيلة، إلا أنها في المقابل خلقت مناخاً جيداً للتعريف بتجارب جادة من مختلف البلدان العربية، ومنحت هؤلاء الجادين فرصاً للتواصل والتفاعل والانتشار أيضاً.

ولذلك أرى أن مهمة الشعر تغيرت لصالح الشعر؛ لأن مهمة الشاعر نفسه تغيرت، وتخلصت من عبئها الخطابي الإعلامي الثقيل، كما أن تنوع أنماط الثقافة لا يأخذ من حصة الشعر بقدر ما يعطيها؛ لأن روح الشعر موجودة بصورة أو بأخرى في كل تلك الأنماط الثقافية.

توظيف التراث.. استفدت من قراءاتك للتراث الديني والعربي، كيف وظفت هذا التراث في أعمالك الشعرية الحداثية؟

الاتكاء على تراثنا الديني والعربي أحد أهم العوامل التي تجعل حداثة الشعرية العربية حداثة متصالحة مع هويتنا وموروثنا الثقافي؛ لأنه يمنح القصيدة العربية قدرة -ولو نسبية– على التخلص من النزعة العقلانية المادية التي تحكم مصطلح الحداثة بمفهومه الغربي الجائر -في كثير من أهدافه وأدواته- على القيم الإنسانية والأخلاقية، حتى وإن ادَّعى عكس ذلك بسن قوانين وأنظمة لحماية الإنسان والحيوان والطبيعة.

والحداثة الفكرية التي تنضوي تحتها الآداب والفنون هي الملمح الأكثر طيبة في وجه الحداثة بمفهومها الواسع، فإذا كانت فكرة الحداثة نفسها تنتصر في معظم شروطها الغربية للنزعة المادية التي توظف التكنولوجيا عبر مسارات عقلانية تتسم بالجدية والتجهم والبرغماتية أيضاً، فإن الفنون والآداب التي لا يمكن فصلها عن منظومة الحداثة وأدواتها، تُعد الرافد الأكثر قدرة على تحقيق التوزان بين ما هو مادي جامد يرهق الإنسان بصرامته، وما هو حسي رحيم يخفف من وطأة الشروط القاسية للحضارة المادية، وهذه من أبرز السمات التي يوفرها التراث الديني في مختلف الثقافات، ويوفرها موروث الثقافة العربية بنسبة كبيرة.

وبهذا المفهوم أعمل على توظيف التراث الديني والعربي في شعري لإعطاء قصيدتي بعض سمات الحداثة العربية، التي ترى التراث والهوية سنداً قوياً يمكنه الوقوف أمام طوفان الحداثات الغربية والحوار معها، في الوقت الذي تستخدم فيه كل شيء لتكرِّس شروطها بدءاً من الوجبات السريعة وصولا إلى أسلحة الدمار الشامل.

العطش.. الوجع.. الغيابْ الملح، مفردات فرضت نفسها على عناوين دواوينك، أين يقع الحزن في تجربتك الشعرية؟

أنا ابن المرحلة الزمنية التي شهدت الكثير من الانكسارات العربية، حيث ولدت بعد أربعة أشهر فقط من هزيمة 1967م، وأنا -كذلك- ابن التراث الذي تغلغل فيه الحزن منذ مرحلة ما بعد صدر الإسلام وحتى اللحظة الراهنة، وأنا ابن القراءات التراثية العميقة في التاريخ العربي الممتلئ بالحروب والنزاعات والخيانات والخيبات المتتالية.
لذلك تجد الحزن والفقد والوجع والغياب وكل ما يتصل بالحقول الدلالية لهذه المفردات واضحاً في تجربتي الشعرية، حيث أسعى دائماً لأن تكون قصيدتي مرتبطة ارتباطاً عميقاً بالتاريخ الجمعي للإنسان العربي ومحيطه الإسلامي، وهو تاريخ على كثرة ما فيه من صفحات مضيئة إلا أن الصفحات المعتمة والمحزنة أكثر.
وهذا الحزن -بالمناسبة- يتقاطع ويتشابك في آن مع اهتمامي وانشغالي بالتاريخ الإنساني، وكذلك مع الواقع المشابه لواقعنا الذي شكلته الهيمنة الغربية في العصر الحديث.

مع تعدد الأشكال الشعرية، ما موقفك من القديم والجديد، وهل تؤيد التجريب في القصيدة؟

التجريب هو المسلك الأهم في عملية الكشف والخلق الإبداعي، وأنا من المشغولين بالتجريب بمفهومه الحقيقي الباحث عن الدهشة والابتكار، وليس بالمفهوم العشوائي الذي لا يقود صاحبه لأي شيء، فالتجريب ليس خبطاً في الهواء، بل عملية بحث متصل عن أماكن ومكونات جديدة في أرض موجودة وقائمة.

هناك أسس للتجريب في الشعر والأدب والتشكيل والفنون بشكل عام، وهذه الأسس تقوم على أدوات معرفية وجمالية تحدد نقاط الانطلاق من السائد المألوف إلى الجديد المدهش، وهذا يتحقق في الشعر مثلما يتحقق في الفنون الأخرى إن كان التجريب له مرجعية معرفية وجمالية.

ومن كان يؤمن -مثلي- بالتجريب الشعري لا يمكنه أن يكفر بتعدد الأشكال الشعرية، ولذلك ليس لدي أي موقف عدائي من تعدد الأشكال سواء كانت قديمة أم حديثة، وأكتب مجرِّباً في كل الأشكال المطروحة، وأرى أنها تتجاور ولا تتنافر، وتتكامل بما يتوفر بينها من العوامل الجمالية والفنية المشتركة، وأتصور أن من يتخذون مواقف عدائية من الأشكال لديهم مشكلة في مفهومهم للشعر.

ما أسباب اختفاء المسرح الشعري الآن؟

أتصور أن السبب الرئيس في اختفاء المسرح الشعري هو عدم وجود محفزات أو محرضات إيجابية تدفع الشعراء لخوض تجارب من هذا النوع، فالمسرح الشعري ليس سهلاً، وغياب الاهتمام به يحبط الشعراء ويقصيهم عن الاستمرار أو التجريب فيه، ربما لأن تراجع الوعي العام، والإيقاع السريع للحياة، وانكفاء الإنسان العربي على شؤون حياته وانشغاله برغيف الخبز عن غيره، جعل الجمهور أكثر ميلاً إلى الأعمال الترفيهية الخفيفة التي يسرق من خلالها بعض اللحظات السعيدة التي يكافئ بها نفسه وسط زحام ومتطلبات الحياة الضاغطة.
ومع ذلك هناك أعمال جيدة في المسرح الشعري تنتظر مبادرات من جهات جادة تحولها إلى عروض مسرحية مناسبة للجمهور، وإلى أن يتحقق ذلك، سيظل المسرح الشعري غائباً عن صالات العرض، ومستسلماً للعزلة التي فُرضت عليه.

الاغتراب الشعري.. ذُقتَ كالكثير من المبدعين طعم الغربة والاغتراب، كيف كان تأثير ذلك على تجربتك الشعرية؟

الغربة مصطلح متصل بالأثر النفسي لجغرافية المكان، والاغتراب مصطلح متصل بعمق النفس البشرية ذاتها، والمؤكد أن الجمع بينهما في ذات الشاعر يشكل عبئاً بالغ الثقل والصعوبة، فكثير من الشعراء وأنا منهم وظفوا مشاعر الاغتراب في شعرهم وهم لم يغادروا أوطانهم، ولدي قصائد كتبتها قبل سفري من يقرأها الآن قد لا يصدق أنها كتبت قبل خوض تجربة الغربة، وهذا هو الاغتراب بمفهومه النفسي العميق.
وبعدما خضت تجربة الغربة بمفهومها المكاني/ الجغرافي تضاعفت هذه المشاعر، وأصبحت ملمحاً بارزاً في تجربتي الشعرية، ولكني أتصور أن هذه المشاعر أصبحت جزءاً من مكونات الشخصية العربية بشكل عام، وليست مقصورة على الشعراء أو المبدعين وحدهم، وقد نتجت عن أوضاع حياتية متقلبة وغير مستقرة بسبب القضايا الشائكة التي تشغل الجميع، وقد يشعر المبدع في أي مجال بوقعها أكثر من غيره، ويوظفها بصورة مختلفة عن غيره، ولذلك نلمسها ونستدل عليها في الكتابات والفنون.

مع بروز الذكاء الاصطناعي ودخوله العديد من المهام والوظائف من بينها الصحافة.. هل يتراجع الشعر؟

الشعر لن يتراجع؛ لأنه أحد الاحتياجات الإنسانية المستمرة، ولأنه أحد المقومات التي تبرز جماليات ومدلولات وتعبيرات اللغة بوصفها جزءاً أصيلاً من مكونات الهُوية، وحتى إن ظل نخبوياً ومقصوراً –من حيث التلقي- على فئة محددة من الناس سيبقى ما بقيت هذه الفئة.
وتفسيري لمشاعر الخوف التي تنتاب المهمومين والمشغولين بالشعر هو تعدد روافد الفنون، فالجمهور الذي كان في السابق يرى الشعر ديوان العرب أصبح موزعاً بين فنون مختلفة كالرواية والموسيقى والدراما والسينما والمسرح والتشكيل، وغيرها من الفنون والخيارات الترفيهية، وربما يكون استسهال كتابة الشعر ورداءة بعض التجارِب من أسباب تراجع جمهوره، لكن الذكاء الاصطناعي في اعتقادي لا يشكل خطراً حقيقياً على الشعر، بل يمكن توظيفه على نحو أفضل لتوسيع دوائر الاهتمام والاتصال بالتجارب الناضجة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها