التقنية.. وسيلة أم خطر؟

عبد الصمد زهور

يتضمن مفهوم التقنية دلالة الوسيلة، لكن التقنية ليست مجرد وسيلة، إذ بالاشتغال الفلسفي على هذا المفهوم اتسعت طاقته الاستيعابية لتصير حمولته الدلالية متعددة وفياضة. لقد كانت التقنية باعتبارها مجالاً ومفهوماً، موضوعاً للدراسة من قبل فلاسفة ومفكرين وسوسيولوجين كثر، أمثال: كارل ماركس Karl Marx، ماكس فيبرMax Weber، هربرت ماركوز Herbert Marcuse، مارتن هيدغر Martin Heidegger، يورغن هابرماس Jürgen Habermas وغيرهم، وهو ما قاد إلى اتساع دلالة هذا المفهوم حتى صار دالاً على المتناقضات التي تتأرجح بين الوسيلة والخطر.


 

التقنية باعتبارها أداة ووسيلة

 يشير مفهوم التقنية إلى دلالة الأداة والوسيلة، لذلك نجده حسب أندريه لالاند André Lalande يتحدد لدى الكثيرين في كونه يقع في مقابل المعرفة النظرية، فالتقنية أداة مرتبطة بما هو عملي تطبيقي، ولا تحيل على ما هو فلسفي تنظيري، وهو ما يعززه قوله: بأن التقنية طرق محددة بدقة توصل إلى نتائج معينة، وبكونها مناهج أو أساليب. ففي كل هذه المعاني إحالة على البعد الوسائلي للتقنية.

إن التقنية إحالة على ظاهرة مُتمثلة في الاستعمال والإنتاج المكثف لمختلف التقنيات التي تلعب دور الوسيط بين الإنسان والطبيعة، بين الإنسان والإنسان، نصطلح عليها بالظاهرة التقنية، التي تميزت بها الحضارة الغربية، منذ مطلع القرن الثامن عشر الميلادي حسب جاك إليل Ellul Jacques، حيث فُتح الباب خلال هذه المرحلة لتعم التقنية مجالات وميادين مختلفة اتباعاً، ولتطبع بذلك التاريخ، في مختلف الميادين: المواد الأولية، الإجراءات والآلات الخاصة بالعيش والسكن، الرعاية الصحية، الإضاءة والتدفئة، الأدوات والآليات، وهي صيرورة متواصلة مثلتها الثورات الصناعية المتلاحقة، التي بلغت اليوم مبلغاً يشهد على قوته سؤال: هل الآلة تفكر؟ وهل يمكن تعويض العقل الإنساني بالحاسوب؟

 إن التقنية إذن، منظور إليها كوسيلة وكأداة، تعبير عن مجموع التقنيات التي توسلت بها الدول المصنعة لبسط سيطرتها على الطبيعة، ومن أجل تحقيق التوسط بين الإنسان والإنسان، كما هو الحال مع تقنيات الاتصال التي من خلال فهمنا لها كوسائل تؤمن هذا التوسط لتصير وسيطاً. هكذا إذن على حد تعبير جاك إليل في كتابه النظام التقني Le système Technicien، يحتفظ مفهوم التقنية بدلالة كونه وسيلة للفعل تُمكن الإنسان من عمل ما لا يمكن إنجازه بوسائله الخاصة. لكن هناك ما هو أكثر أهمية من هذا، فقد صارت هذه الوسائل وسيطاً بين الإنسان والوسط الطبيعي.
 

التقنية باعتبارها وسطاً

 يؤكد جاك إليل على وجود دلالة تعقب تاريخياً فهم التقنية كأداة وكوسيلة، وهي دلالة التقنية باعتبارها وسطاً La technique comme milieu. حيث يتضمن هذا المعنى تسليماً بوجود نوع من الخارجية والقهرية تتجاوز به التقنية حدود إرادة الإنسان، وهو ما عبر عنه على سبيل المثال ماك لوهان McLuhan في كتابه من أجل فهم الميديا pour comprendre des média، عندما قال إن الوسيط صار هو الرسالة، فلقد تخطى دور الوساطة ليصير وسطاً وبيئة، محددة للسلوك الإنساني داخل المجتمع، لكنه وسط مستحب Un milieu agréable، رغم أن كونه كذلك لا يلغي خارجيته وقهريته المتحدث عنها سلفاً، ونحن ندرك ذلك عندما نحاول التخلص منه فلا نجد لدينا قدرة على ذلك. إن طبيعة التعليم والتربية والاقتصاد والثقافة السائدة في مجتمع اليوم، انعكاس لمدى حضور التقنية باعتبارها وسطاً، فالإنسان الذي يحيا في وسط تقني يصعب عليه التفكير خارج حدود التقنية، ومن ثم تنقلب التقنية من وسيلة إلى وسط وعنصر محدد.

التقنية باعتبارها نظاماً

 إن الاستقلالية التي ميزت التقنية وجعلت منها وسطاً، يدفعنا إلى رؤيتها كذلك كنظام Système محدد بعدة خصائص منها: الاستقلالية autonomie، الوحدة unité، الكونية universalité، الشمولية totalisation. فما يميز النظام التقني عن الأنظمة الأخرى؛ سياسية كانت، أو اقتصادية، أو اجتماعية، هو أنه ليس بنظام مغلق، بل نظام مُنفتح على باقي الأنظمة الأخرى ومُتحكم فيها. فالأنظمة الأخرى تحتاج إليه في الوقت الذي لا يحتاج هو إليها. من ثم بإمكان وقوع خلل في هذا النظام، أن يتسبب في عرقلة السير العادي لباقي الأنظمة الأخرى، فالتغير السريع الذي يتميز به النظام التقني ينعكس على باقي الأنظمة الأخرى، مثلما انعكس تعويض اليد العاملة بالآلة على النظامين الاقتصادي والاجتماعي، عبر ضمان السرعة في الإنتاج وتفاقم مشكل البطالة.

 إن النظام حسب جاك إليل له قوانين مركبة، والنظام التقني يُقدم نفسه كنظام متغير، بتغيره تحقق الوعي بكون التقنية ليست مجرد وسيلة فقط، ولا مجرد وسط فقط؛ وإنما هو نظام يعلو على تجسداته الظاهرة. وهذا يقود إلى الوقوف على دلالة أعمق وأخطر من تجسد التقنية كوسيلة وكوسط وكنظام، تلك هي الدلالة التي تتجسد بمقتضاها التقنية كماهية على حد تعبير هيدغر في مقاله السؤال عن التقنية، فالتقنية حسبه صارت تعوض الإنسان في كل المواقع، معيدة بذلك تشكيل مفهوم الشغل ومعايير النجاعة في العمل، فالتطور التقني يحد من الإبداعية الفردية، وهو بذلك يتحدد كخطر حتى لو كانت له نتائج اقتصادية محمودة.

التقنية باعتبارها خطراً

 أكد هيدغر أننا نستسلم للتقنية بأسوأ كيفية عندما نعتبرها شيئاً محايداً، ذلك أن هذا التصور الذي يحظى اليوم بمكانة خاصة، يجعلنا عاجزين تماماً عن رؤية ماهية التقنية. فليست التقنية منظوراً إليها أداتياً باعتبارها وسيلة تعبيراً عن ماهية التقنية.

إن التصور الأداتي الرائج عن التقنية حسب هيدغر صائب، لكنه ليس بحقيقي. يجب علينا إذن أن نبحث من داخل الصائب عن الحقيقي، حيث الصائب هو ما يحدث أمامنا والحقيقي هو الماهية الغير مرئية. فهيدغر لا يتوانى في محاولة رصده للحقيقي على فتح حوارات مع فلاسفة متعددين وحقب متباعدة. عبر استحضاره أفلاطون Platon أتبث وجود تلازم كلاسيكي بين التقنية والعلم. هذا التلازم الذي من شأنه الإفصاح عن ماهية التقنية، حيث يقول: "ترتبط كلمة Téchne منذ وقت مبكر إلى زمن أفلاطون مع كلمة epistéme: العلم، وتدل الكلمتان على المعرفة بالمعنى الأوسع... [التقنية] تكشف ما لا يخرج هو ذاته، وما لا يوجد بعد".

إن ماهية التقنية على هذا الأساس تتحدد ككيفية للكشف، وإذا ما كان هذا الكشف قديماً يتجلى كإخراج، حيث التقنية مساعدة للإنسان في إحداث الأسباب التي تجعل -كما قد لا تجعل- الطبيعة تجود بخيراتها، فإن الكشف الذي يرسم ملامح التقنية الحديثة -زمن استفحال التقنيات وظفرها الكامل- هو عبارة عن استثارة. يقول هيدغر: "إلا أن الكشف الذي يُهيمن في التقنية الحديثة لا يتحقق في الإخراج بمعنى (Poisesis)، إن الكشف الذي يسود في التقنية الحديثة هو استثارة Heraufordern تفرض على الطبيعة تسليم الطاقة التي يمكن استخراجها وتخزينها هي كذلك".

إن ماهية التقنية الحديثة تتجلى كسلطة وككشف له طابع الإيقاف بمعنى الاستثارة؛ إنها تفرض على الطبيعة تسليم الطاقة الكامنة فيها رُغماً عنها. هذا الفرض يتحقق كما سبقت الإشارة إلى ذلك بتلازم التقنية بالعلم، فــ"الفيزياء وبالضبط كنظرية محضة توقف الطبيعة، لأن تقدم ذاتها كحصيلة من القوى القابلة مسبقاً للحساب، فإنه يتم استحضار التجريب، وذلك للاستخبار عما إذا كانت الطبيعة التي تم إيقافها بهذا الشكل ستعلن عن ذاتها، وعن الكيفية التي ستعلن بها عن ذاتها".

إن التقنية من هذا المنطلق، لا تكون مجرد وسيلة في يد الإنسان، بل تتجسد كخطر مُحدق به، تفرض نفسها عليه فرضاً، بحيث يستحيل معها إلى رصيد يمكن تعبئته كلما دعت الحاجة إلى ذلك من طرف التقنية؛ وكأنه ريشة في مهب الريح. فـ"الكشف المستحضر لا يمكن أن يحدث إلا بقدر ما يكون الإنسان بدوره مستثاراً لاستخراج الطاقات الطبيعية". إننا نعتقد خطأ أن كل ما يتبدى أمامنا هو من صنع الإنسان، والحال أن الإنسان اليوم صار من صنع مصنوعه. أبرز تجسيد لذلك هو الذي تمثله اليوم الهواتف الذكية في حياة الإنسان.

على هذا النحو نختم مع هيدغر بقوله: إن التقنية "هي قدر عصرنا، حيث يعني القدر المسار المحتم الذي لا محيد عنه... التمرد عليها تمرد من لا حيلة له، ولعنها كرجس من عمل الشيطان. وعلى العكس من ذلك عندما ننفتح قصداً لماهية التقنية نجد فجأة أنفسنا وقد استحوذ علينا نداء محرر"، وهنا يستحضر شيئاً من شعر هولدرلين فيقول: حيثما يكون الخطر ينمو المنقذ أيضاً.

إذن؛ يتوجب علينا فهم التقنية بدلالة الجمع لا المفرد. فالتقنية تحيل على حمولة دلالية فياضة بالمعاني، باعتبارها وسيلة ووسطاً ونظاماً وماهيةً. كل دلالة من هذه الدلالات مساهمة في رسم حقيقة التقنية، وليست كذلك إذا ما ردت كل التقنية إلى معنى واحد من هذه المعاني.


المصادر
1 - Ellul, Jacques, Le système Technicien, Imprimé en France, Calmamm- lévy, 1977
2 - Mc Luhan, Marshall, pour comprendre des média, Traduit de l’anglais par Jean Paré, Seuil, éditions Mame, 1968
3 - لالاند، أندريه، الموسوعة الفلسفية، المجلد الثاني H. Q، تعريب خليل أحمد خليل، إشراف أحمد عويدات، الطبعة الثانية، بيروت- باريس منشورت عويدات، 2001
​​​4 - هايدغر، مارتن، كتابات أساسية (الجزء الثاني)، ترجمة إسماعيل المصدق، المجلس الأعلى للثقافة، 2003

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها