تستور.. مدينة المورسكيين والجذور الأندلسية

عبدالله بن محمد



تستور مدينة تونسية من معمارها يفوح عبق الأندلس، وروح التسامح، وذكرى المورسكيين. تقع المدينة على حافة أحد منحنيات نهر مجردة، وقد أقيمت عند نشأتها على أنقاض بلدة تشيلا الرومانية القديمة. موقعها محصّن يحميه من الشمال نهر مجردة، ومن الشرق والجنوب منحدر شديد الانحدار، ومن الغرب بقايا سور روماني قديم.


إثر قرار الطرد الصادر عن ملك إسبانيا فيليب الثالث سنة 1609، حملت السفن الإسبانية مئات الآلاف من الأندلسيين المسلمين من شواطئ إسبانيا، وقذفت بهم على شواطئ المغرب العربي في بلاد الإسلام. نزل بعضهم ضيوفاً على البلاد التونسية، وتوزعوا على المدن والقرى كلّ حسب تخصصاته، وحسب ما تعودوا عليه من أساليب الحياة. فاستوطن بعضهم المدن وخاصة تونس العاصمة، بينما أسّس آخرون قرى فلاحية هنا وهناك. كانوا يحملون مظاهر حضارة راقية طبعوا بها حضارة البلاد التونسية في مستقرهم الجديد، قبل أن تختلط عناصر التأثير بعناصر أخرى من الشرق والغرب، فجعلت من التمييز بينهما أمراً ليس بالهين.

يطغى على التخطيط المعماري لمدينة تستور الطراز الأندلسي، الموطن الأصلي لسكّان المدينة الجدد، فالأحياء جميعها منظّمة ومتناسقة، وتحيل الزائر على قرطبة، وإشبيلية، وغرناطة وغيرها. أما المنازل فيعلوها حجر القرمود على الطريقة الأندلسية، وفيها مخازن للمؤونة في الأعلى، وأماكن لإيواء الدواب في الأسفل، وغرف تطل على ساحة واسعة في الوسط. ومنذ البداية اعتمد المستوطنون الجدد على أنفسهم لتهيئة مدينتهم الناشئة، فأقاموا مجموعة من الأفران لصنع الياجور والقرمود، والجبس والجير، وهي أول مرحلة في إقامة البلدة ضمن تخطيط شطرنجي الشكل، يحاكي نماذج تخطيط مدنهم في وطنهم الأم إسبانيا.

ويتوسط المدينة جامع كبير بناه مهندس من أصول أندلسية محمد تغارينو سنة 1830م، وهو يكشف عن إرث أندلسي عريق، وهندسة بقواعد علمية فريدة، يتسع لحوالي ألف مصل. وقد استعمل الحجر الجيري، والقرمود والرخام الإسباني، والخزف الملون في تشييده وزخرفته. يتميّز الجامع بمئذنته الشاهقة، والتي يبلغ ارتفاعها 23 متراً، وهي تشبه أبراج الأجراس الأراغونية في جنوب إسبانيا، وتعتبر بذلك الأولى من نوعها في العالم الإسلامي من حيث تصميمها ووظائفها.
 

وتتكون المئذنة من قسمين: قسم سفلي مربّع على الطراز السّني المالكي، وقسم مثمّن على الطراز الحنفي. وإلى جانب الهلال، رمز الإسلام، عُلقت نجمة داود وثالوث اليهودية، رمزاً للتسامح والتعايش بين الديانات. وإلى جانب المئذنة التي تحمل بوصلة وساعة، وآلة المرياح (لقياس سرعة الريح)، يتميز الجامع أيضاً بمنبر متحرّك على سكة حديدية سهلة الاستخدام، أضيفت له منذ سنة 1680.
ومن أعلى مئذنة الجامع الكبير تظهر ساعة ميكانيكية فريدة من نوعها، تدور عقاربها بالمعكوس من اليمين إلى اليسار، رغم أنها تعتمد نفس ترتيب الأرقام للساعات المألوفة. وقد صمّمت هذه الساعة الغريبة التي تحاكي الأرض في دورانها، على يد المهندس محمد تغرينو سنة 1630 ميلادي.

وهناك تفسيرات كثيرة سيقت في شرح سرّ هذه الساعة التي تأبى عقاربها إلا أن تعود إلى الخلف. فمنهم من يقول بأن المهندس الذي بناها أراد أن يمنحها طابعاً عربياً إسلامياً، آخذاً في الاعتبار الطواف حول الكعبة الذي يتم من اليمين، وكذلك أسوة بلغة الضاد، فيما يرجح آخرون بأن مهندسها الأندلسي، أرادها أن تشير دائماً إلى الجهة التي جاء منها خلف جبل طارق. وتذهب إحدى الروايات إلى القول بأنّ دوران عقارب الساعة الأندلسية في اتجاه الوقت المعكوس، يعود إلى رغبة الأندلسيين الذين استقروا بالبلاد التونسية في العودة إلى الزمن الماضي، أو رفض التسليم بالحاضر.

وفي جانب آخر تشتهر مدينة تستور بالحرف اليدوية المتنوعة على غرار الصناعات التقليدية والملابس، ومن أهمها "المرقوم الإسباني"، و"القشابية"، و"الشاشية"، وهي سلع مكّنت سكان تستور وسائر القرى الأندلسية التونسية من الانفتاح على محيطهم الجديد، وعلى سكان البلاد الأصليين. ثم أصبحت بعد حلول المهاجرين بوقت قصير أهم الصناعات التقليدية إلى وقت غير بعيد، وأكمل صورة عن التأثير الأندلسي في مدينة تستور.

ولعل أكثر ما تفتخر به تستور إلى جانب طابعها المعماري الأندلسي وحرفها المتنوّعة، الفلاحة السقوية التي استفادت من التقنيات الأندلسية المتقدمة، بما في ذلك استخدام "الناعورة" (لنقل الماء)، فكانت المحاصيل وفيرة ومتنوّعة، وخاصة الرمان. وإلى جانب الاستفادة من الموروث الأندلسي المتطور في مجال الزراعة، طوّرت المدينة زراعات سقوية بفضل موروث التونسيين القديم، حيث عرفت قرطاج نهضة زراعية تطورت فيها العلوم الفلاحية على يد المهندس ماغون، الذي برع مبكراً في علم الجينات، واستفاد لاحقاً الرومان من علومه، وطوروها قبل تعميمها على سائر مستعمراتهم. كما تنتشر في تستور بساتين الأشجار المثمرة، لخصوبة الأرض وقربها من منابع المياه، فأغلب المناطق التي سكنها الأندلسيون في تونس تتميز بخصوبة أراضيها، وخاصة القريبة منها من نهر مجردة.

وفي مجال الموسيقى والفنون ما تزال تستور ترتبط إلى اليوم ارتباطاً وثيقاً بفن المالوف الأندلسي، وهو عبارة عن تراث موسيقي وغنائي أندلسي، يجمع بين المواضيع الدينية والدنيوية، توارثته الأجيال المتعاقبة، وتنظّم له المهرجانات السنوية. وتؤدى الموشحات الأندلسية، أو المالوف عن طريق مجموعة صوتية، وآلات إيقاعية ووترية في الزوايا والمحافل عبر قصائد وموشحات هي إشبيلية في الأصل، لقيت عناية لدى الموريسكيين باعتبارها عنواناً للتحضر، وتعبيراً عن الحنين إلى موطنهم المفقود.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها