التأثير الإسلامي في الفكر الديني اليهودي

د. حفيظ اسليماني


كتاب {التأثير الإسلامي في الفكر الديني اليهودي} دراسة نقدية مقارنة لطائفة اليهود القرائين للدكتور محمد جلاء محمد إدريس، صادر عن مكتبة مدبولي، عدد صفحاته 149 صفحة، وقد قسمه صاحبه إلى ستة فصول، هذا بالإضافة إلى مقدمة تمهيد وخاتمة.



في المقدمة أكد على أنه رغم ثبوت التأثير الخارجي على الفكر الديني اليهودي منذ القدم وباعتراف النصوص اليهودية ذاتها، فإن اليهود يزعمون دائماً بقاء جنسهم ودينهم في مأمن عن التأثر بما أحاط به على مر التاريخ. ومن بين تلك التأثيرات التي يحاول اليهود إنكارها وطمس معالمها تأثيرات الإسلام ديناً وفكراً وفلسفة على طوائف اليهود على العصور، للتقليل من شأن هذا المؤثر من ناحية ولإضفاء مسحة من النقاء على عقائدهم من ناحية أخرى. وقال المؤلف إنه يهدف من خلال هذه الدراسة إلى إبراز جوانب عديدة من التأثير الإسلامي على الفكر اليهودي وذلك من خلال معتقدات وآراء طائفة القرائين التي ظهرت منذ قرابة الألف عام وذلك للوقوف على عوامل الجذب الإسلامي، ولتفنيد ودحض المزاعم القائلة بنقاء الفكر الديني اليهودي.

بعد هذه المقدمة نجده في التمهيد قد ذكر مجموعة من المعطيات، وهي حديثه عن تأثر اليهود بالمسلمين؛ فهذا داود بن إبراهيم الفاسي تأثر في معالجته للمسائل الفقهية اليهودية بثقافات المسلمين في عصره وبخاصة في منهجه في استنباط الأحكام وفي التفسير والذي تأثر بوضوح بمذهب ابن حزم الظاهري، كما كان أول من اتصل بالفلسفة الإسلامية من اليهود سعديا الفيومي الذي اعتنق آراء المتكلمين ووصل إلى آراء أرسطو طاليس عن طريق المصنفات العربية الإسلامية مثل: كتب الغزالي وابن باجة وابن طفيل والرازي والفرابي. أما موسى بن ميمون أعظم فلاسفة اليهود قاطبة، يقول عنه اليهودي إسرائيل ولفنسون: "ولسنا نعلم رجلاً آخر من أبناء جلدتنا غير ابن ميمون قد تأثر بالحضارة الإسلامية تأثراً بالغ الحد حتى بدت آثاره وظهرت صبغته في مدوناته من مصنفات كبيرة ورسائل صغيرة".

ثم انتقال المؤلف إلى الفصول الستة، ففي الفصل الأول الذي وضع له عنوان: نشأة القرائين والأثر الإسلامي فيها. فقد بين فيه أن فرقة القرائين قد نشأت في العراق الإسلامية في وقت كانت فيه هذه البيئة الإسلامية تموج بحركات فكرية نشطة كان أبرزها الفكر الاعتزالي الذي ترك آثاراً واضحة على نشأة القرائين، وذلك في رفض القرائين الأخذ بأحكام التلمود وآراء فقهائه علة نحو ما ذهب بعض أعلام المعتزلة من الحديث، فكما ذهب هؤلاء المعتزلة إلى الاكتفاء بالقرآن، ذهب القراؤون إلى ضرورة الأخذ بالتوراة فقط ورفض ما سواها. وبهذا يرى المؤلف أن القول بتأثير الفكر الشيعي في نشأة القارئين لا يصح البتة، وذلك بعد أن بين موقف الشيعة من الحديث النبوي الشريف إذ لا تشابه البتة بينهم وبين موقف القرائين من التلمود.

وفي الفصل الثاني تناول العقائد الدينية للقرائيين فقد بين وفقاً لمصادر فرقة القرائيين أن هذه الفرقة تؤمن بستة أركان هي: الاعتقاد في الألوهية، والاعتقاد برسالة النبي موسى عليه السلام وبسائر الأنبياء اليهود، والاعتقاد بالتوراة كشريعة منظمة أهداها الله لبني إسرائيل، والاعتقاد بالقبلة المقدسة التي موضوعها بيت المقدس، ثم الاعتقاد بيوم الدين. ويعلق المؤلف قائلاً: "واتضح من عرض هذه الأركان أن القرائين قد أخذوا بها على غرار أركان الإيمان عند المسلمين خاصة في تفاصيل بعض هذه الأركان إذا تبين أنه لا أصل يهودي لها على الاطلاق. كما بين المؤلف بالتفصيل التأثير الإسلامي الواضح في الاعتقاد في يوم الدين عند القرائيين، إذ لا تتضح معالم هذا المعتقد جيداً في الفكر الديني اليهودي. واعتقاد القرائين في هذا اليوم أي يوم الموت والبعث والحساب هو اعتقاد تدعمه أسس إسلامية واضحة.

الفصل الثالث، والمعنون "بأصول الفقه القرائي" فقد أخذ القراؤون بالإضافة إلى النص والاجتهاد بمبدأ القياس كأصل من أصول الفقه مخالفين بذلك إخوانهم الربانيين متأثرين بما عند فقهاء المسلمين، فالقياس لم يكن معروفاً عند اليهود حتى ظهر القراؤون وأخذوا به نقلاً عن المسلمين. يقول المؤلف: "وقد حاول القراؤون تبرير ذلك بما ورد في سفر التثنية (17/8) حيث جاء فيه: "إِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْكُمْ إِصْدَارُ حُكْمٍ فِي قَضِيَّةِ سَفْكِ دَمٍ أَوْ دَعْوَى حَقٍّ أَوِ اعْتِدَاءٍ بِالضَّرْبِ، مِمَّا يَجْرِي مِنْ أُمُورِ الْخُصُومَاتِ فِي مُدُنِكُمْ، فَقُومُوا وَامْضُوا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ إِلَهُكُمْ، وَاحْضُرُوا أَمَامَ الْكَهَنَةِ اللاَّوِيِّينَ وَالْقَاضِي الْقَائِمِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ، وَاسْأَلُوا، فَيُخْبِرُوكُمْ بِحُكْمِ الْقَضَاءِ. يعلق المؤلف على النص قائلا: "والحقيقة أن النص السابق وهو الوحيد لديهم في تبرير الأخذ بالقياس لا يوحي بذلك على الإطلاق؛ لأن تعسر حكم ما والاحتكام إلى أهل الذكر لا يعني القياس؛ وإنما هو سؤال من لهم دراية أكثر بالأحكام مثل الكهنة واللاويين والقاضي. والأمر الذي لا جدال فيه أنه لا يوجد نص توراتي يشير من قريب ولا من بعيد إلى القياس، والتبرير الأكثر قبولاً هو انتقال هذا الأصل من المذاهب الإسلامية إلى القرائية التي نشأت بين أحضان المسلمين على نحو ما بيننا وبتأثير من بعض مذاهب المتكلمين، الأمر الذي جعل علماء الربانيين يهاجمون ذلك الأصل الفقهي، إذ يرى سعديا جاؤن -على سبيل المثال- أن اتباع القرائيين للهوى، والمتمثل في القياس، قد أدى إلى الحياد عن الطريق السليم ومن ثم كثرت الخلافات. ومن أمثلة القياس عند القرائيين حكم الثور النطاح، إذ الحكم عليه بالرجم وعلى صاحبه بالموت إن أُشهد عليه ولم يأخذ الحيطة في منع آذاه عن الناس، يقاس عليه سائر الحيوانات الضارة.

الفصل الرابع خصصه للحديث عن الربانيين والقرائيين والاختلاف بينهم ومن جملة الأمور التي يخالف القراؤون فيها إخوانهم الربانيين وأبرزها، ففي مجال أصول الفقه، اعتمادهم فقط على شرائع التوراة المنزلة على موسى ورفض ما سواها وبالتحديد التلمود، ثم الأخذ بالقياس، كما أن القرائيين يرون أن باب الاجتهاد لا يزال مفتوحاً مخالفين بذلك رأي فرقة الربانيين. وهناك العديد من الاختلافات في كثير من الأمور التعبدية والفقهية يخالف فيها القراؤون الربانيين منها: الإقلال من أكل اللحوم، التشدد في أمر النجاسة والطهارة، الحرص على تشريع العشور حتى يتحول إلى ضريبة عامة، إتمام عملية الختان بالمقص وليس بالسكين.

وأما الفصل الخامس اختار له عنوان: التأثير الإسلامي في مجال العبادات عند القرائيين، قال المؤلف إن هذه الفرقة قد أخذت بما عند المسلمين في مجال العبادات خصوصاً ما يتعلق بالطهارة والصلاة، وهي أمور -حسب المؤلف- لا يمكن تأصيلها في الفكر الديني اليهودي. يقول المؤلف: "الأمر الذي جعلنا نقر بإسلاميتها... فمن خلال هذه الأمور التي توصلنا إليها من خلال ما سقناه في الدراسة تفاصيل الوضوء الإسلامي من غسل للوجه واستنشاق ومضمضة وغسل للرجلين، وكذلك وجوب الصلاة لمن هو فوق السن العاشرة". وبخصوص التوبة فقط اشترط القراؤون شروطاً هي أقرب إلى شروط التوبة عند علماء المسلمين. فمن هذه الشروط: أن لا يرجع بعد التوبة لعمل ما يغضب الله -أن يعاهد نفسه أمام الله بأن لا يعود إلى سيرته الماضية- أن يندم على ما فعل ويلوم نفسه ويحاسب ضميره- أن يطلب الغفران من الله تعالى مع الحسرة والخشوع.

ومن التأثيرات الإسلامية الواضحة التي تشكل ركناً أساسياً من أركان الفكر الديني القرائي أخذُ القرائيين بالتقويم القمري أسوة بما عند المسلمين وخلافاً لما عليه منذ ظهورهم.

الفصل السادس والأخير جاء معنوناً بالتأثير الإسلامي في مجال الأحوال الشخصية، أكد المؤلف بخصوص هذه النقطة أن القرائيين أخذوا الكثير مما عند المسلمين مخالفين بذلك طائفة الربانيين، ومن ذلك أمثلة التأثير الإسلامي ما يتضح في زواج القرائيين، إذ يتشرطون القبول لإتمام الزواج واشترطوا الإشهاد على نحو ما نجده عند المسلمين، فقد جاء في شعار الخضر للأحوال الشخصية للقرائيين عن القبول ما يلي: "القبول لا بد منه وإلا فلا عقد ولا زوجية. وإذا كان لا بد من القبول فهو يقتضي أن يكونا مميزين أي بالغين فإن القبول فرع عن التمييز، وأجمع العلماء كلهم أن قبول الرجل محله بلوغه، وإن الصغير عقده لغو كأن لم يكن. أما المرأة فإذا بلغت فمنهم من قال إن قبولها يتعلق بها وحدها ومنهم من قال بأبيها دونها ومنهم من قال بهما جمعاً، فإذا كانت صغيرة فأبوها وليها".

كما قالوا بضرورة الولي وحددوا درجاته وكرهوا إتمام الزواج دون رؤية الرجل المرأة وانعدام الكفاءة بين الطرفين، وهذا ما هو موجود عند المسلمين وكتب الفقه الإسلامي غنية بخصوص هذا الأمر. بل ذهب القراؤون إلى أبعد من ذلك فأباحوا التعدد واشترطوا له العدل وإذا كان للتعدد أصل توراتي لا يعمل به الربانيون، فإن العدل شرط إسلامي أصيل لا تشير إليه النصوص اليهودية. جاء في شعار الخضر: "تعدد الزوجات جائز بشرط عدم الإضرار بالإقبال على واحدة والإعراض عن الأخرى بل العدل واجب بينهما كما يجب في غير ذلك من نفقة وكسوة". وفيما يتعلق بالمهر قسمه القراؤون إلى مقدم ومؤخر وقد أفاضوا في ذلك على نحو ما هو إسلامي. كما قنن القراؤون الطلاق عندهم بما أخذوه عن المسلمين في كثير من جوانبه. فقد اشترط القراؤون حين الطلاق أن يكون الزوجان بعقلهما وصحوهما وحرية إرادتهما. كما تناولت الأحكام الشرعية للقرائيين موضوع الحضانة وقننته في مواد محددة وواضحة، وهي نفس الشروط التي الموجودة في الفقه الإسلامي.

ويبرز التأثير الإسلامي بوضوح أكثر في أخذ القرائيين ببعض جوانب الميراث في الإسلام، إذ هم يجعلون للذكر مثل حظ الأنثيين بينما تخص الشرائع اليهودية الذكر بالميراث كله وتمنع الأنثى منه.

وهكذا خلص المؤلف إلى تأثر فرقة القرائيين اليهودية بالتشريع الإسلامي سواء في مجال العبادات والأحوال الشخصية والفلسفة وغير ذلك، ويبقى ما طرحه الدكتور محمد جلاء محمد إدريس في كتابه هو بمثابة التنبيه إلى أهمية مثل هذه المواضع التي تفتح آفاقاً للبحث في مجال مقارنة الأديان، من حيث المشترك الديني والاختلافات العقدية والتأثير والتأثر.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها