العَالمُ عن بُعد؟!

دراما وثائقية تتحدى الوباء

عرض وترجمة: شيرين ماهر

"2020".. عام استثنائي؛ أمكنه تغيير وجه العالم، ليعلو فيه صوت الوباء فوق كل شيء، ولكن يبقى صوت الحياة هو "الأقوى"... هكذا استعرض الفيلم الألماني الوثائقي "العالم عن بُعد/ Welt auf Abstand"، الذي جرى عرضه الأول في التاسع من ديسمبر 2020، الجائحة بصورة تحمل الكثير من الإيجابية التي لم تخلُ أيضاً من فجاجة الواقع، حيث قدم دراما وثائقية، سجلت انطباعات وانفعالات مواطنين من جميع أنحاء العالم حول الوباء، بدافع التنقيب عن كل ملمح إنساني إيجابي، يصلُح أن يكون لقاحاً "للروح" في ظل استمرار الجائحة.

الفيلم من إخراج "Cristina Trebbi" و"Jobst Knigge". أما الموسيقى التصويرية فمن تأليف "ماكس ريختر"، وهو توزيع جديد لأغنية "فور سيزونز" لـ"فيفالدي"، والتي سجلها عازف الكمان الشهير "دانيال هوب". والواقع أن الفيلم لا يقدم سجلًا لمسار الوباء، بقدر ما يعرض تكويناً بصرياً مذهلاً، والتقاطات حية لمجموعة من القصص الشخصية من مختلف أنحاء العالم؛ أستراليا، جنوب إفريقيا، كولومبيا، الهند، الولايات المتحدة، البرازيل، الأرجنتين، اليابان، فرنسا، إسبانيا وألمانيا.

قام صُنّاع العمل بجولة اسثنائية خلال عام كامل، ينقبون في بقاع متفرقة من قارات مختلفة في عوالم مختلفة، كي يسجلوا كيف تعاملت فئات متباينة من البشر مع الوباء، على اختلاف أوضاعهم الاجتماعية والثقافية ونظرتهم للحياة، وإذا ما كانت هناك أشياء إيجابية يمكن الاستفادة منها خلال هذا العام القاسي؟
 

اعتمد الفيلم على لقاءات تحضيرية عبر تطبيقات "زووم/سكايب"، وتسجيلات عبر الهواتف الذكية، فضلاً عن البحث عن مخرجين ومصورين يروون قصصهم الخاصة في بلدانهم، ويصطحبون المشاهدين إلى بلدانهم التي لن يستطيعوا زيارتها في ظل هذا التباعد، فيما لعبت الموسيقى المصاحبة لهذه اليوميات دوراً كبيراً فى خلق حالة من المشاركة الوجدانية، خاصة وأنها معايشات لا تختلف كثيراً عما عايشناه جميعاً، حيث بدا صوت البيانو والكمان كـ"نبرة" تعلو وتخفُت وفق منحنى تعجيزي يرسمه "الوباء"، يرافقها تساؤلات الطيور عن اختفاء البشر، بمصاحبة هدير الماء المتهادي في بحيرات لا يعبث بها المارة، وحفيف أوراق الشجر التي أخذت شهيقها وزفيرها على مهل.

يبدأ الفيلم بمشهد انطباعي صامت مدته أربع دقائق مركزة، عبارةً عن لقطات متواترة سجلت "صدمة الوباء" الأولى، حيث اصطفت صور العزلة عاكسة الكثير من التناقضات: فينيسيا بلا سائحين، شارع الشانزليزيه الفارغ، الرياح المتعاركة في بهو ساحة دار الأوبرا في فيينا، صوت الخُطى البشرية المتسللة خلسة، وهي تدوي في الميادين كطلقات النيران، بينما تتابع الكاميرا عربات مترو الأنفاق التي تفتح أبوابها لتجد فراغاً بالخارج وخواءً بالداخل، وكأن البشر قد تآكلوا وذهبوا إلى غير رجعة، فيما تقف الحمَامَات وحيدة في الساحات لا تستقبل أحداً ولا يودعها أحد.. عازف ساكس يجلس وحيداً في قلب الطرقات الساكنة يناجي من يسمعون عزفه عن بُعد، ويتجاوبون معه دون ردة فعل مرئية؛ وكأنها اهتزازات خاصة يستقبلها العالم على موجة خفية تختبئ من الوباء، فيما تقف الأبنية والمساكن وحيدة وسط الطرقات كـ"سجون" عصرية، فلا أحد يملك سوى النافذة؛ كي يسترق منها نظرة، عن بُعد، على هذا العالم المُكبل.

هكذا بدا الإغلاق الأول؛ حالة من الانعزالية لا هوادة فيها، فقد هيمنت العزلة وحدها بوحشتها وخشونتها على كل شيء في بداية الجائحة. ولكن إلى جوار هذه اللقطات المركزة، يتبدل إيقاع الموسيقى بصورة مفاجئة ويبدو راقصاً، في استعراض للإضاءات التي لملمها صُناع العمل من قصص أبطاله، جامعاً لنقاط الضوء والأمل وسط هذه الصورة القاتمة؛ كي يُظهِر كيف يعيد الناس ترتيب حياتهم من جديد، ويلملمون ذواتهم على طريقتهم الخاصة، رغم استمرار الأزمة؟

يستعرض الفيلم أيضاً النقاش المجتمعي عبر تجارِب شخصية مع الوباء من كل أنحاء العالم. فعلى ما يبدو أن البُعد الحقيقي لأزمة كورونا يكمن في اضطراب "غير المرضى"، وما طرأ على واقعهم الحياتي. ليس المصابون بكورونا وحدهم ضحايا "الوباء"، لكنه أصاب ضحايا آخرين عن بُعد. فقد قرر البعض أن يتقبل إشراقة الحياة بوجه جديد؛ وجه يقاتل الوباء، ويقف على مسافة من الحذر: هناك يوميات المُفكر الفرنسي، والكاتب الأمريكي، وراقصة التانغو من بوينس آيرس، ومخرجة الأفلام من بنغالور، ومدير المدرسة من هامبورغ، وكاهن المعبد من اليابان، وغيرهم كثير.

المحطة الأولى كانت مع الكولومبية "هيلينا هينستروزا"؛ سيدة بسيطة تغني للحيتان بصوت مُفعم بالحياة على متن قارب صيد متواضع، يتراقص على صفحة البحر الهائج. تقول "هيلينا": "تبدو الطبيعة وكأنها أخذت قسطاً من الراحة عندما بقينا نحن البشر في منازلنا، ولكن الواقع أننا نعاني أيضاً". فيما يروي "كيفين باول" من نيويورك كيف انفصلت عنه زوجته عبر تطبيق "زووم"، في منتصف فترة الإغلاق الأول، وكم كان وحيداً ويائساً. ولكن بحكم عمله ككاتب، واعتياده قضاء الكثير من الوقت بمفرده، قرر أن يحطم كل مشاعر وحدته على صخرة الكتابة.

يتذكر المفكر الفرنسي "مارك لامبرون" الإغلاق الأول، قائلاً: "بدت لي لحظة غريبة يعيشها الكون: الكوكب كله ينبض بنفس الإيقاع كما لم يحدث من قبل، بينما على الجانب الآخر تستعيد الطبيعة فضاءاتها. أينما دوى ضجيج الطائرات، يُمكنك سماع تصدُع الرياح وتلاطُم الأمواج". لقد أسماها "شاعرية الصمت". كان يراه أمراً رائعاً ومخيفاً في نفس الوقت، وفترة للتأمل والتدبُر بكل المقاييس.

من بنغالور في الهند، تساءلت المخرجة الشابة "روبا راو": كم تزن جميع فيروسات كورونا؟ ربما بضعة غرامات؟ ولكن، هل أوصلت العالم بالفعل إلى طريق مسدود؟ "روبا راو" مفتونة بهذه الفكرة - حتى لو لم تكن هناك إجابة على تساؤلاتها؛ إنها تتفهم حالة الجمود التي يعيشها العالم كتجربة جديدة، وتبحث عن الجمال في ظل الفوضى التي جلبها فيروس كورونا حول العالم. لم يُخرجها من مشاعر الوحدة سوى ممارسة الرياضة وتمارين اليوغا على أعلى منزلها في الهواء الطلق، حيث تستشعر دبيب الحياة من جديد، وقد ولج إلى رئتيها مع كل شهيق وزفير.

في هامبورغ أُغلِقت أغلب المدارس.. "بيورن لينجوينوس"، مدير إحدى المدارس في هامبورغ- دولسبرغ، يرمق، بحزن بالغ، أبواب مدرسته الموصدة.. يتجول بأركانها، ويطوف بالفصول المدرسية الخاوية. يعيد ترتيب فوضى الفصول.. يطالع لوحاتهم المعلقة على الجدران، ويضبط ما تمايل منها بفعل زلزال "كورونا".. يمتطي الأرجوحة في حديقة المدرسة تارة، ويقاوم مشاعر الافتقاد والوحدة تارة أخرى. لكنه قرر أن يعيد إلى المدرسة روحها رغم الإغلاق، حيث أنتج عرضاً مصوراً لطلابه في المنازل، وأطلق عليه اسم "ملعبًا رقميًا". كان يتضمن هذا العرض مقاطع فيديو، يُعلِق فيها الطُلاب على حياتهم في وضع الإغلاق.

وهناك مُدرِبة التانغو الأرجنتينية "كورينا هيريرا"، التي تُراقِص إحدى طالباتها مع ارتداء الأقنعة في قاعة غمرتها أشعة الشمس في "بوينس آيرس"، وهو مشهد يعكس مدى التوق إلى التقارب البشري. "لا أحد يستطيع التنازل عن عالمه السابق"، هكذا تقول "هيريرا". بالنسبة لها، التانغو والتواصل الحركي المباشر مع الآخرين هو همزة الوصل مع الحياة. تقول "هيريرا": "التانغو وسيلة للاستشفاء من مارد العزلة". ورغم أنها تتابع دروسها مع طلابها عبر تطبيق زووم، إلا أنها اشتاقت للمحاكاة الحية.. كانت تَسحق، في رقصتها الخوف، وتستجدي من كل التفاتة نقطة أمل وسط المحيط الضيق.. تزيح مع كل حركة برودة الوحدة وجمود الإغلاق.. تقول: "هذا ما يخلقه إيقاع الموسيقى مع حركة الجسد المُنفعل"، مؤكدة أننا "الأقوى والأبقى".

"دينا توماس" من ملبورن في أستراليا، تنغمس مع أسرتها الصغيرة وسط معايشات يومية دافئة، تبتعد فيها عن العالم الخارجي دون أن يضجرها ذلك، حيث تقضي مع شريكها "مات"، وطفليها حالة طوارئ هادئة ومستقرة، ما بين التعلم المنزلي وترفيه الأطفال. ظلت مدينتها "ملبورن" قيد الحجر الصحي الصارم لما يقرب من ثمانية أشهر. بينما يحتفل كلا الطفلين بـ"عيد ميلادهما" خلال هذه الفترة، ولا يمكن لجدتهما حضوره إلا عبر تطبيقات الإنترنت. "ولكن على الأقل، كان هناك سبيل للقاء"، بحسب قولها. لقد اختارت أن تَخلد إلى هذا العالم الأكثر هدوءًا وراحةً، حتى تنجلي الأزمة.

أما كاهن الشنتو "سون فوجيو"، من اليابان، يحاول تقليل توتر طلابه من خلال تأملات يُجريها معهم عبر الإنترنت، حيث يدعوهم إلى التواصل مع الطبيعة أثناء متابعتهم السير. فهو يؤمن، أن الناسَ قادرون أن يصنعوا أيضاً جائحة من اللطف والحب والاهتمام، داعياً إلى تعضيد الصلات الإنسانية ليس فقط في اليابان؛ وإنما في العالم كله، لما لذلك من أثر بالغ في التخفيف من وطأة التبعات النفسية القاسية للعزلة التي فرضها الوباء. ينصح أيضاً بالسير ببطء والتنفس بعمق، والتأمل في تفاصيل الكون ورحابته.

"كورونا لا يصيب سوى أصحاب البشرة البيضاء".. هكذا اعتقد "غودمان ماكاندا"، من مدينة "كيب تاون" في جنوب إفريقيا، أن "كورونا" فيروس يصيب أصحاب البشرة البيضاء فقط، لكنه اكتشف عكس ذلك بعد أن شعر بأعراض الفيروس تخترق أنحاء جسده. "ماكاندا" ناج من مرض السل، ولم يتبق له سوى رئة واحدة. وعندما أصيب بكورونا، لم يكن يعرف إلى أين يذهب؟ لا يريد أن يموت وحده في المشفى. ولا يمكنه إخبار الآخرين في البلدة، حتى لا يخافوا ويهربوا منه. لقد أخبر "ماكاندا" أخيه فحسب، ثم عزل نفسه في منزله، وقرر أن يخوض التجربة وحده بعيداً عن الجميع.

على مدارِ تسعينَ دقيقةً استعرض الفيلم قصص هؤلاء، ليختتم عرضه الوثائقي الشيق بـ"لقطات أرشيفية" لأطقم طبية يصطحبون مرضاهم، لبضعة دقائق، لمشاهدة شاطئ البحر، وارتشاف رذاذ الحياة.. بطاقات شكر للأطباء مُعلقة على الشُرفات كرسائل حب موصولة رغم العزلة.. بالونات ملونة تغازل الأطفال المعزولين داخل المنازل؛ كهدايا مجهولة، ورسائل طمأنة من رسول الحياة. ألعاب نارية تَسخر من الوباء وترسم في السماء صور المُتحابين بالأقنعة، كأحد أشكال التحدي والإصرار على النجاة.. ثم يعود الفيلم مرة أخرى إلى محطته الأولى مع السيدة الكولومبية "هيلينا هينيستروزا"، التي واصلت غناءها العذب في عرض البحر للحيتان النادرة، التي تزايدت أعدادها أكثر مما كانت عليه منذ سنوات عديدة، حيث تتجاوب معها الحيتان بأغنية موازية، أعدها صُناع الفيلم عبر مونتاج يتضمن أصواتاً حقيقية للحيتان؛ وكأنها رسالة امتنان من الطبيعة للبشرية.

هكذا سعى صُنّاعُ الفيلم؛ للاحتفاء بمحاولات البعض التعاطي مع الأوضاع مهما كانت درجة قسوتها، فيما حاولت الكاميرا أن تُعيد الحنين إلى مزيد من التقارب الحذر، عبر المساحات الفارغة المحيطة بنا، بعد أن صار العالم يتخذ مسافته من كل الأشياء، بينما يحاول البعض أن يعلو صوت الحياة فوق صوت الوباء، وعدم الموت قبل الموت، فالحياة جديرة بمزيد من المحاولات لإنقاذها من تعاسة إجبارية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها