سفرٌ بالوجدان!

أحمد الوارث

رغم أني كنت متعباً نهار البارحة، جفاني النوم، وصرت أتقلب على الفراش كأن به شوكاً. حاولت أن أضع رأسي تحت الفراش كما في الصغر للهروب من صور الأشباح التي يرسمها الظلام، لكني شعرت بالاختناق. ظللت أنظر في الفراغ الأسود.. أشرب ثم أسرع للحمام.. وأقضي حاجتي بهدوء.. لماذا الآن، يا ربي؟

ربما هالتني الخطوط والتجاعيد التي انزرعت في وجهي، وأنا أستحم بعد العشاء. أو لعل حديث البدوييْن في الشريط التلفزي ليلاً هو السبب؛ قال الأول، ساخراً من حال نفسه: مذ وعيت وأنا أجري وأجري، لا أستريح إلا لأقوم من جديد فأجري، وراء لقمة العيش، فلما أدركتها وجدت أن أسناني وقعت مني. فرد عليه صديقه بكلام صاعق، قال: إن الطحان، يا سيدي، لما يستعد لطحن الزيتون يضع الشَّكِيمَة في رأس البغلة، ويربطها في يد الصاري، ثم يلصق غطاء واقياً جهة عينها الموالية للرحى، حتى لا تحس بالدوران. وما دامت مستسلمة، وتدور فهو مسرور.. هل فهمت قصدي؟ لا أظن.

تفاعلت مع قولهما، حقاً، وأنا أبحث عن جواب لعلامات الشيخوخة المبكرة في أوراق أيامي الماضية.. فتطاير غبار القهر من كل ناحية، كلما قلبت المواجع أزداد كثافة، حتى إني كنت أجد أصابعي في فمي، أتفقد بها أسناني وأضراسي دون قصد مني.

وكلما مر الوقت، شعرت بالتوتر، فيهرب النوم مني أكثر فأكثر... حتى لقد انتابني الخوف من أن يهلّل هلّال الفجر وأنا على هذه الحال. هل وجد أحدكم يوما ًنفسه في هذه الدوامة؟

عددت الأرقام حتى تعبت. استغفرت الله مائة مرة أو أكثر. لعنت الشيطان مراراً، أقول لنفسي: هذه مجرد ذكريات، الأيام كفيلة بها... لكنها أبت إلا أن تلومني. في الأخير، تغلبتُ عليها، وحملتها معي بعيداً جداً؛ إلى فضاء فسيح أو ربما هي التي غلبتني وفعلت بي ما فعلَت. مهما كان، والحق يقال، شعرت بالأمان، وقصدت شخصاً انتبذ مكاناً قصياً: ما اسم هذا المكان يا سيدي؟ ضحك وقال: ما بك كالفأر المذعور، ألق التحية أولاً، إنه مأوى الهاربين من الضجيج؟

فعلاً، لم أكن أسمع سوى ما يريح سمعي. وقد عظمت دهشتي حينما رأيت أناساً أعرفهم جيداً، كانوا يمرون بالقرب مني، دون أن يعيروني اهتماماً. أخذت بتلابيب رجل من الجيران، فبادرني بالقول: لا تفعل هذا.. لكن لا بأس، لعلك من العناصر الجديدة؟ مرحباً وهنيئاً لك؟

كانت ثمة امرأة تستمع إلى حديثنا، سألتها: بالله عليك، ماذا يفعل هؤلاء الناس هنا في هذا الوقت؟ قالت: لكل منا نهاره، ولكل منا ليله، أو قل ظلامه... هنا، وفي فضاءات مماثلة، يجد المُرهقون ضالتهم يلتقون مع أنفسهم قبل غيرهم... ومنهم من يسعى إلى لقاءات خاصة؛ بعضهم فقدوا أنفسهم الناطقة... وبعضهم مرضى يبحثون عن أسباب الحياة، والنائمون الذين لا يدركون السبات العميق.. هنا يكشفون عما يقض مضاجعهم، دون خجل ولا نفاق. انظر إلى تلك الفتاة التي تجري يحسبها من يخالطها حمقاء وهي مسرورة بلقاء حبيبها هنا، قلت: لقد ماتت من زمان؛ أعرفها جيداً. قالت: ليس هناك موت في روضة العشق يا سيدي... على كل حال الجميع، هنا، يبحثون عن راحة البال... لقد أرهقهم الملل...

 ماذا تقولين؟

 نعم الملل، إنه سبب كثير من العلل، هو مصنع الخطوط والتجاعيد التي تنزرع في الوجوه، وسبب هروب النوم من الجفون في عز الليل، وسبب الشيخوخة المبكرة ... كتمت تنهيدة، ثم التفتُ إلى المرأة: هكذا إذن؟

نظرت بقوة حتى أثارني فعلها، وردت: ألم أقل لك، إنهم كالبحر في غموضه؟ يعتقد من يراهم أنهم لم يتعثروا يوماً، بل لا أحد يعرف إلى أي مدى أنهم مُتعبون، مادام ظاهرهم منظم وأنيق، وتفاصيلهم هادئة لا تشير بمقدار التعب الذي يضمرونه، ولأنهم يبتسمون كثيراً ويضحكون، لن يشعر بعلتهم أحد... يظلون يتجرعون الصبر حتى يبلغ بهم قمة الملل... إنها حقاً لكارثة أن يجتمع عقل ناضج وقلب عاطفي في جسد واحد.

إذن أنا هنا لأني منهم؟ صدقيني أكره نفسي حين أصمت. تكاد الكلمات تخرج من عيني... لكن لا يقرأها أحد، ولا يفهمها من يقرأها... وإذا فهمها تجاهلها أو استغلها... رغم المعارك المرهقة مع نفسي لم أستطع أن أتغير... وأحياناً أقف مشدوها منها كيف لها بكل هذا الجبن لتتغابى.. نعم تتغابى

قالت: وهكذا، تنتج التعاسة لك ولنفسك يا رجل؟

فما الدواء؟ أيتها الحكيمة. ما الدواء؟

قالت: الأمر بسيط جداً؛ اعلم، أنّ أعمارنا تتغير، مرات في اليوم، تبعاً للأشخاص الذين نعاشرهم أو نعيش معهم.

قالت هذا الكلام وانصرفت تريد اللحاق برجل كان يلوح إليها وهي تستبطئه. كان لقائي بها من غرائب هذه الحياة، أقول هذا الكلام لأن الأقدار تسوق إليك أحياناً أشخاصاً يمرون مروراً عابراً في حياتك لكنهم يتركون في نفسك أثراً طيباً، ويعسر أن تتجاوز روحهم الطيبة وعمقهم الإنساني، لكنه بالضد من ذلك يعيش معك أشخاص آخرون العمر الطويل دون أن يتركوا لك إلا ما يؤلمك.

وقفت مشدوهاً أنظر إليها، وقد عانقت رجلاً من حيّنا، أعرفه جيداً. غير بعيد عنهما، امرأة أخرى أعرفها، يأتيها بعلها كل مساء إلى مقر عملنا، فتقبّله، كلما صعدت السيارة، ثم تدور نحو أبنائهما تسلم عليهم، قبل أن ينصرفوا جميعاً، هي هنا تأخذ بيد رجل غريب وهي سعيدة للغاية...

في ذات الوقت، رأيتها تقترب، نعم، كانت سعيدة جداً، إنها هي؛ حبيبة العمر كله؛ تعانقنا بحرارة، ثم غبنا عن الأنظار. قالت، وهي تداعب ما ابيض من شعري: لماذا ترهق نفسك... اعلم، أني في حاجة إليك... ثم بدأت تتسلل من بين يدي. فلما انسحب، لم أعد أرى شيئاً، فصرت أصرخ: إلى أين، انتظري... ارجعي.

التفتتْ وقالت مبتسمة: أرأيت إياك أن تصدق أنك كبرت في السن، ما الجسد إلا وعاء نضع فيه أرواحنا... والروح لا تشيب ولا تشيخ قط...؟ أما أنا فلم أكف عن الصراخ، في ذات الوقت، بادرني صوت مألوف جداً: أحمد ... أحمد: هيا... قم، نحتاج حليباً وقهوة للفطور.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها