طريق الحج المغاربي في خرائط العصور الوسطى!

الأطلس الكتالوني نموذجاً

د. محمود أحمد هدية

يُجسد رسم الخرائط في العصور الوسطى صورة للعالم المعروف آنذاك، فقد حُددت عليها أزمانه المتعاقبة، ومناطقه المختلفة وأجناسه التي تعيش عليه، فكان لرسم الخرائط بوصفه فنًا وعلمًا وأسلوبًا لتمثيل الكرة الأرضية؛ تأثير هائل في التاريخ الإنساني، وقد اكتشفت أوائل الرسوم الجغرافية والخرائط في اليونان قبل أربعة قرون من ميلاد السيد المسيح، حتى جاء المسلمون واستفاضوا في العلم بداية من البيروني (362هـ-440هـ) الذي قدم دراسات حول شكل الأرض ومساحتها، والإدريسي (ق 6هـ) الذي ساهم في وضع خريطة أولية للأرض، وبفضل السيادة الإسلامية على العديد من المناطق في آسيا وأفريقيا وأوروبا وسفر الناس على نطاق واسع عن طريق البر والبحر، فضلاً عن الإبداع الإسلامي في دراسة علم الفلك واختراع وتطوير الأسطرلاب والمعرفة الدقيقة للأجرام السماوية؛ والذي ساهم بدوره في توفير المعلومات الضرورية لتشكيل خريطة جديدة أكثر دقة للعالم اعتمادًا على النموذج اليوناني، لذا فالثقافات الدينية الثلاثة في العصور الوسطى ساهمت بجزء من هذا التطور، فأضاف المسلمون المعرفة العلمية والبحرية والجغرافية، وساهم المسيحيون في تمويل هذا المشروع بشكل كبير، بينها كان اليهود بإعداد هذه الكنوز الخرائطية التي هي على قدر كبير من الجمال والدقة.


 

أهمية الخرائط الملاحية

تمحورت جُل الخرائط في العصور الوسطى حول البحر المتوسط لأهميته التجارية بين قارات العالم القديم، لذا صُممت للأمور الملاحية في بدايتها ولكن سرعان ما اهتم المستكشفون بمعرفة طبيعة المناطق الداخلية، فبدأ التوسع في استخدام الخرائط الأرضية في نفس الوقت، وازدهر إنتاج تلك الخرائط الملاحية في مدن بحرية عدة كميورقة وجنوا ولشبونة وإشبيلية، حيث عُدت ميورقة في القرن الرابع عشر الميلادي مركزًا مزدهرًا ومشهورًا بصنع الخرائط، كما كانت برشلونة مركزًا تجاريًا هامًا فعبرها –أي برشلونة- نقلت معظم الخرائط الملاحية، فعمل رسامو الخرائط بمختلف أنواعهم على مزاولة أعمالهم التجارية هناك.
فكان حتمًا على السّفُن عند الإبحار الالتزام بحمل الخرائط للمساعدة في اجتياز العوائق المائية والمساعدة في تحديد المواقع الملاحية للسُفُن وتعيين الاتجاهات وضبط المسافات، والمنعرجات الساحلية والخلجان والرؤوس الشاخصة وهو أسلوب ملاحي اتبعته السُفُن والمراكب الصغيرة غير القادرة على الابتعاد عن السواحل لحاجتها للاحتماء من أهوال البحر بقربها منها لكي لا تتيه في البحر أثناء التقلبات الجوية، أو أثناء الإبحار الليلي، إضافة للالتزام بالإرشادات وفقًا لتعليمات قادة السُفُن والتي من شأنها اجتياز الطرق والتقاطعات البحرية بسهولة ويُسر.
لهذا مَنحت الخرائط الملاحية إمكانية وجود خط ملاحة متواز مع خطوط الطول، وهو نتيجة واضحة للتطوير المستمر في المعرفة الجغرافية والتقنيات الهندسية والفلكية فأدت في النهاية لظهور البوصلة والتي ساعدت في الإبحار الآمن، في الوقت الذي تعرضت فيه السُفُن لفقد الوجه البحرية وضلال الطريق، لهذا سعى الحكام لإصدار تعليماتهم بضرورة حمل الخرائط الملاحية أثناء الإبحار لاحتوائها على جميع الخصائص الجغرافية التي يُعنى بها رُبّان السَفِينَة أثناء رحلتهم، ومهمتها هي المساعدة في تحديد موقع السّفِينَة الملاحي بتعيين الاتجاهات وضبط المسافات. واختلفت الخرائط المستخدمة في البحار عنها في المحيطات، حيث أصدر الملك بيتر الثاني عام 755هـ/1354م مرسومًا إلزاميًا يفرض على كل سَفِينَة شراعية بحرية حمل خريطتين على الأقل لتأمين الملاحة، وما أشار إليه ابن خلدون عن وجود ما يُعرَّف بـ(الكنباص)، وهي صحيفة استرشاديه لرُبّان السَفِينَة يعتمد عليها أثناء سفره وإبحاره بقوله "مكتوبة كلها في صحيفة على شكل ما هي عليه في الوجود، وفي وضعها في سواحل البحر على ترتيبها ومهاب الرياح وممراتها على اختلافها مرسوم معها في تلك الصحيفة، ويسمونها الكنباص وعليها يعتمدون في أسفارهم وهذا كله غير موجود في البحر المحيط، فلذلك لا تلج فيه السُفُن لأنها إن غابت عن مرأى السواحل فقل أن تهتدي إلى الرجوع إليها، مع ما ينعقد في جو هذا البحر وعلى سطح مائه من الأبخرة الممانعة للسُفُن في مسيرها وهي لبعدها".

الأطلس الكتالوني

يعتبر الأطلس الكتالوني واحدًا من أهم الخرائط في العصور الوسطى، وأحد الأمثلة القليلة الدالة على الإبداع في رسم الخرائط آنذاك، فهو في الأساس خريطة مرجعية وشكل هذا النوع من الخرائط أساسًا لرسم الخرائط البحرية الحديثة بشكل غير مباشر؛ فاحتوى على مقتطفات من حسابات السفر وبعض الأساطير، ونبذة عن تطور الدراسات الفلكية، فهو مصمم بشكل يغطي مساحة تمتد من المحيط الأطلسي إلى الصين، ومن الدول الاسكندنافية إلى مناطق ووسط وشمال أفريقيا. خُصص الأطلس في بدايته للمكتبة والوثائق الملكية التابعة لملوك أراجون بيدرو الرابع (1336- 1387م)، وخوان الأول (1387- 1396م)، حيث رغب الأخيرة عام 1373 قبل تولية الحكم في رسم خريطة بحرية كاملة تظهر كل شيء بين "بلاد الشام والغرب"، إضافة إلى جميع الطرق في بلاد المغرب الإسلامي، فأسند الأمر إلى رسام الخرائط الأشهر والأهم أبرهام كريسك Abraham Cresques (1325-1387)، رسام الخرائط الميورقي اليهودي الذي خدم في بلاط ملك أراجون خلال القرن الرابع عشر الميلادي، فضلاً عن ابنه جافودا كريسك Jafuda Cresques وهما من أهم معدي الخرائط فحظيا بتقدير ملكي.

والأطلس عبارة عن ستة أوراق مطوية إلى نصفين، كل واحدة ملصقة على لوح خشبي مغطى بالرق، تبلغ أبعاد كل ورقة 65 × 50 سم، مما يمنحها طول جناحيها 65 × 300 سم، مقسم إلى ستة ألواح خشبية، تضم اللوحة الأولى (شكل رقم [2]) نصوصًا ورسومات فلكية وكونية ومخططين دائريين، وتتألف اللوحة الثانية (شكل رقم [3]) من دائرة كبيرة ممثل عليها التقويمات الشمسية والقمرية، محاطة بمواسم السنة الأربعة، وعليها العناصر الأساسية للأرض بالإضافة إلى الكواكب والأبراج، بينما تظهر اللوحة الثالثة أوروبا الغربية وغرب البحر الأبيض المتوسط ​​وشمال غرب أفريقيا، كما توضح اللوحة الرابعة أوروبا الشرقية وشرق البحر المتوسط ​​والبحر الأسود وشمال شرق أفريقيا والشرق الأدنى، في حين تظهر اللوحة الخامسة غرب آسيا وبحر قزوين، بلاد فارس، وبلاد ما بين النهرين، شبه الجزيرة العربية والمناطق الشرقية من الهند، كما تغطي اللوحة السادسة شرق آسيا والمنطقة الواقعة بين شرق الهند والصين ومناطق شرق آسيا غير المعروفة والمأهولة.

ويقدم الأطلس العديد من المعلومات الخرائطية لعددٍ من الأماكن من أبرزها جزر الكناري بالإضافة لرسومات وتخطيطات جديدة تعود دقتها لتلك الحملات الكتالونية والميورقية، فالميورقيين هم أوائل من اكتشفوا حدود الساحل الأطلسي لأفريقيا في القرن الرابع عشر الميلادي.
ولعل من الملحوظات الأولية على الأطلس هي عدم مطابقة المواضع والأماكن للخرائط الحديثة، فنرى بعض المدن مخالفة في مواضعها ونرى أخرى خارج حدودها الحالية رغم الإشارة إليها، وعلى الرغم من ذلك منحت الأسماء الموضعية للأماكن والمواقع مصدرًا تاريخيًا رئيساً لها، كما يقدم الأطلس بعض التعليقات لعددٍ من الأماكن والمواضع المهمة وشرح طبيعتها، هذا وتؤكد العناصر الزخرفية المدرجة على الأطلس أنها من عمل فنانين متخصصين بإدراج أشكال الحيوانات والسفن والأسماك والأعلام والأشجار، فضلا عن استخدام نجمة من ثمانية رؤوس تشير إلى الشمال. ومع بداية القرن الرابع عشر الميلادي ظهرت عناصر رسومية جديدة على الخرائط توضح الأسماء الطبوغرافية لتوضح المناطق الموصوفة والشعوب والحيوانات والنباتات، هذه المفردات الرسومية تمثل البحار والأنهار والجبال والمدن والجزر بألوان مختلفة لتمييزها عن بعضها البعض.

طريق الحج المغاربي

يقدم الأطلس تعليقات حول رغبة المسلمين في السفر إلى مكة من جميع البلدان، وخاصة في الغرب الإسلامي لتأدية فريضة الحج، وخاصة في القرنين السابع والثامن الهجريين اللذين مثلا أزهى مراحل رحلات الحج، وهو ما يتضح عند تمثيل بعض المناطق في بلاد المغرب خاصة الطريق البحري والبري بمحاذة الساحل الشمالي لبلاد المغرب، لما فرضه القرب الجغرافي والعلاقات التجارية بين ميورقة –موضع تصميم الأطلس- ومنطقة الغرب الإسلامي والتي ساهمت في إبراز أهم الطرق والمدن الموجودة. لهذا تتركز الدراسة على اللوحات (الثالثة، الرابعة، الخامسة)، والتي يظهر فيهما خط سير رحلة الحج المغاربي إلى بلاد الحجاز.
 


اللوحة الثالثة

كان لأداء فريضة الحج عند مسلمي الغرب الإسلامي أهمية دينية ومنسك مقدس، لذا ارتبط تأدية تلك الفريضة بعدة أمور وإشكاليات، على رأسها رحلة السفر عبر البحر والبر للمغاربة والأندلسيين لأدائها، لما وصل إليه الغرب الإسلامي من مراحل متطورة من الرقي الفكري والثقافي والعلمي ومحاولة منهم في زيادة علومهم والاستفادة من علماء المشرق الإسلامي، وانطلقت أغلب تلك الرحلات على سفن تابعة للغرب المسيحي خاصة السفن الإيطالية (جنوة – بيزا – البندقية)، في الوقت الذي لعبت فيه البحرية الإسلامية دور الوسيط في تلك الرحلات البحرية، ولم تكن السفن الإسلامية بعيدة كل البعد عن عملية النقل والسفر البحري، إذ تواجدت خلال رحلات الحج أو للسفر وإن قلت في مجملها، فلم يكن الأسطول التجاري الإسلامي بالقليل أو الهين في كثير من الأوقات.
وأول شيء يلفت النظر في تلك الخريطة أن الأسماء الجغرافية مكتوبة بشكل متعمد فيما يتعلق بساحل المتوسط، فنجد أسماء المدن في نصف الكرة الجنوبي مكتوبة في اتجاه واحد وأسماء الشمال في اتجاه آخر، وتختلف المدن المسيحية عن المدن الإسلامية بوجود الصليب في أعلاها أما المدن الإسلامية فيعلوها قبة، والاستثناء الوحيد هو غرناطة يعلوها الصليب وعلمًا يحمل نقوشًا عربية، في إشارة ضمنية لضعف بني الأحمر آخر ملوك الأندلس ورضوخهم إلى تاج آراجون. (شكل رقم [5])

فنجد أن معظم المدن متشابه في نمط البناء كما هو موضح، وتم تمثيل المدن بصورة دائرية على الأطلس وتظهر منها أبراج، وتختلف هذه الأبراج في حالة المدن الإسلامية فتعلوها قبة، بينما في الأبراج المسيحية ينتهي بها برج بصليب وهو ما يظهر في بعض الخرائط الأخرى التي أعبقت الأطلس الكتالوني، وهذا التمايز نجده في أوروبا فيما يتعلق بالمدن التي يعلوها صليب، بينما في مناطق الغرب الإسلامي والجزيرة العربية وبعض المناطق في الشرق الأقصى يختفى ذلك الصليب وتظهر القبب، في حين يظهر الصليب في مناطق أسفل النيل مرة أخرى.
أما عن البحر المتوسط وهو محور عملية السفر والإبحار، فنجد أنه استحوذ على نصيب وافر من الدقة في التمثيل الجغرافي؛ لأنه انعكاس لحركة المرور البحرية المكثفة لتاج أراجون في تلك الفترة ولمجتمعات العصور الوسطى بصفة عامة، فتظهر العديد من التعرجات في ساحله بالإضافة للمدن الواقعة عليه، فضلاً عن الجزر المنشرة به كقبرص ورودس وكريت فمُيزت باللون الذهبي والنقاط الزرقاء والتي تعكس أهمية وقيمة تلك الجزر، بالإضافة لدرة الجزر للتاج الأراجوني وهي ميورقة فمُيزت باللون الذهبي والأحمر والعلم الممزوج بالذهبي والأزرق والأحمر. (شكل رقم [6])

كما يعرض الأطلس العديد من المدن الإسلامية الواقعة على ساحل المتوسط والتي خرجت منها رحلات الحج المغربية باتجاه الشرق، فنجد أن المدن ذات المكانة التاريخية والدينية مكتوبة باللون الأحمر، أما باقي المدن فمكتوبة باللون الأسود، أما العواصم والمدن ذات الأهمية فأشير إليها برمز المدينة، وتبدأ المدن غرباً بمدينة آسفي، الرباط، فاس، وهران.
ويظهر لنا الأطلس عددًا من الأعلام والرايات الموجودة لدول الغرب الإسلامي، منها: راية الدولة الموحدية والتي تظهر أقصى الغرب باللون الأحمر يتوسطها مربعات سوداء وبيضاء (شكل رقم [7])، وراية الدولة الحفصية في منطقة تونس باللون الذهبي يتوسطها هلال (شكل رقم [8]).

ويتضح لنا الطريق البري الموازي للطريق البحري، والإشارة لسلسلة جبال أطلس والممتدة من الغرب إلى الشرق والتي لا تستمر أبعد من برقة شرقًا، وهو من العلامات المميزة لتلك المنطقة والفاصلة بين الشمال الإفريقي وإفريقيا جنوب الصحراء، فتم وضع العلامات والإشارات للعديد من المدن الإسلامية الواقعة حوله، وتسمح جبال الأطلس في إفريقيا لرسامي الخرائط بتمييز شمال إفريقيا عن باقي الصحراء ومناطقها الجنوبية، غير أن رسامي الخرائط أصروا على الإشارة للخصوصية الجيوسياسية للأطلس، بعدم وجود "السلطة المركزية" بين المدن الواقعة أعلى وأسفل الأطلس في إشارة منهم لكثرة الحروب الدائرة بسبب بالصراعات الداخلية، وذلك بوضع تمثيلات لعدد كبير من المدن والقلاع في تلك المنطقة. (شكل رقم [9])


اللوحة الرابعة

بانتهاء جبال أطلس شرقًا يظهر نص مكتوب باللغة الكتالونية حول جبال تيبستي – الواقعة وسط الصحراء الكبرى في شمال تشاد وأقصى جنوب ليبيا حاليا- بأنه من تلك المنطقة يستعد الحجاج المغاربة بالمرور عبر هذا الجبل إلى مصر في طريقهم إلى مكة وبلاد الحجاز، وفي هذا إشارة إلى تجمع الحجيج المغربي للانضمام إلى ركب الحجيج المصري والانطلاق برًا عبر صحراء سيناء أو بحرًا عبر البحر الأحمر وعيذاب. (شكل رقم [11])

وكما ذكرنا ففي مصر تتجمع رحلات الحج المغربية، وعُد طريق الحج المصري البري للأراضي الحجازية الأكثر استعمالاً طيلة فترات طويلة مرورًا بصحراء سيناء والتي من أهم المحطات في طريق الحج البري ومدخله الوحيد إلى الحجاز، أما ما يتعلق بالحج البحري فهو عبر عيذاب، التي اشتهرت بأهميتها التجارية والدينية باعتبارها الميناء الأهم للحج، وصار الحجيج لا يتوجهون إلى مكة إلا من صحراء عيذاب، فيركبون النيل من ساحل مدينة مصر (الفسطاط) إلى قوص ثم يركبون الإبل من قوص ويعبرون الصحراء إلى ميناء عيذاب ومنه بالمراكب إلى جدة، فاعتبرت تلك الرحلة من الرحلات الشاقة والمتبعة وهو ما أكده العديد من الرحالة.

هذا ويُظهر الأطلس سلطان مصر أو كما ذكرتها الخريطة Aquest soldà de Babillònia بهيئة عظيمة وقوية ووقورة بين حكام وسلاطين المسلمين، ولعله هو التجسيد الوحيد لحكام المسلمين في هذه الخريطة، فيظهر في وضعية الجلوس برداء أزرق داكن اللون مطعم باللون الأزرق في أكمامه، ومعطف أحمر، وعمامة بيضاء، ويطعم أحد الطيور، وهو يحمل دليلاً على حكمته وسيطرته على العديد من المناطق حيث يظهر بالقرب منه العديد من المدن والقلاع. (شكل رقم [12])

كما يبرز الأطلس وجود رايتين لمصر المملوكية، الأولى في الناحية الغربية والثانية في أعلى مدينة القاهرة، وهي باللون الذهبي يتوسطها هلال وهي قريبة الشكل من راية الدولة الحفصية، بينما تظهر راية الثانية باللون الذهبي أيضاً يتوسطها نمر في إطار أسود اللون، وهي الراية التي اتخذها السلطان ببيرس البندقداري (شكل رقم [13])، وقد تم تمييز المدن الساحلية المصرية كالإسكندرية وفوة ودمياط على ساحل البحر المتوسط باللون الأحمر، هذا بخلاف باقي المدن الأخرى والتي أشير إليها على ساحل المتوسط، وفي الجنوب تظهر أرض النوبة وهي أرض عظيمة كما أُشير إليها.


وعبر الطريق البري تظهر سيناء والتي هي المعبر البري لبلاد الحجاز وتمت الإشارة إليها بأنها دفن بها جسد العذراء القديسة كاترين (شكل رقم [14])، ومنها عبر بنو إسرائيل عند خروجهم من مصر (شكل رقم [15])، وبها أيضاً جبل طور سيناء والذي كلم الله عليه نبيه موسى عليه السلام، وتوضح الخريطة أيضاً بحر القلزم متخذًا اللون الأحمر وهو إشارة إلى لون قاعه. إضافة لبعض التعليقات الأخرى حول أهمية البحر الأحمر، فذكر أنه من خلاله تمر معظم البضائع القادمة من الهند إلى القاهرة والإسكندرية عبر القصير والتي ذكرت بالخريطة بأنها عبر مدينة تنقل التوابل من الهند إلى مصر، كما يظهر ميناء عيذاب (aydip)، والذي يظهر في المنطقة الشمالية من البحر وهو من بين مواقع غير دقيقة التمثيل على الخريطة، وقد اعتبر ميناء عيذاب كما ذكرنها من أهم الموانئ لاستقبال الحجيج القادمين من الغرب الإسلامي وإفريقيا في طريقه لبلاد الحجاز. (شكل رقم [16])


اللوحة الخامسة

توضح اللوحة الخامسة شبه الجزيرة العربية ففي المنطقة الجنوبية وأسفل اللوحة يوجد رسم تخيلي للملكة بلقيس ملكة سبأ، وتظهر جالسة على عرشها مرتدية تاجها وبيدها كرة ذهبية وهي إشارة إلى عظمتها وسلطانها، وتعليق يشير لكثرة خيرات تلك المنطقة من البخور والذهب والفضة والأحجار الكريمة، كما يظهر ميناء عدن أهم الموانئ في الجزيرة العربية والذي استقبل وفود الحجيج الأفارقة. (شكل رقم [18])

ولم يقدم الأطلس الكتالوني الوصف التفصيلي لمكة فلم يشر إليها بأنها البيت الحرام –الكعبة- بل إنه أشار إليه بمكة (mecha)، كمنطقة، كما أنه ذكر في التعليقات المرافقة أنه بمكة دفن محمد (صلى الله عليه وسلم)، على الرغم من ذكر المدينة النبوية بالأطلس –المدينة-. فعن الرسم التوضيحي لمخطط مكة المكرمة، والتي تبرز عن بقية المواضع الموضحة في الأطلس حيث نرى أن حجمها مختلف عن حجم باقي المدن من حيث التخطيط فهي بارزة واضحة، بالإضافة إلى تعدد المآذن الموجودة –الأبراج-، ويظهر الجزء الداخلي منها باللون الأزرق، على النقيض من باقي المواضع المشار إليها في الأطلس والتي اتخذت اللون الأحمر، ويتوسط ذلك المخطط بقعة ذات لون ذهبي مستطيلة الشكل غير واضحة، ويمكن رؤية بعض الدعامات الصغيرة في قاعدتها، ولعل تلك البقة ذهبية اللون هي تمثيل لمجسم الكعبة ولكنها غير واضحة. (شكل رقم [19])

ويظهر نص بجوار المخطط كُتب باللغة الكتالونية يشرح أهمية مكة، نصُّه: (مكة: في هذه المدينة يوجد قبر محمد نبي المسلمين، الذين يأتون إلى هنا من جميع المناطق لرؤيته، ويقولون إنه بعد رؤية قبره لم يعودوا يستحقوا رؤية أي شيء آخر، ويغمضون أعينهم تكريماً لمحمد)، وهنا خلط بين موضع دفن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الواقع في المدينة، وبين الكعبة المكرمة؛ لأن إبراهم كريسك يهودي، وقد جانبه الصواب وبدأ يخلط بين مكة والمدينة فهو يعتقد أن قبر محمد في مكة وليس المدينة. (شكل رقم [20])

ويشير الأطلس الكاتالوني لشخص يركع أمام مكة ويديه معًا في وضع أشبه بوضع الدعاء وهي دليل على أداء الصلاة الإسلامية، ويرتدي لباساً أزرق مع إزار أبيض وهو إشارة إلى لباس الإحرام، ويرتدي مرة أخرى عمامة تسقط على كتفيه، حافي القدمين. (شكل رقم [21])

غير أن الأطلس الكاتالوني يقدم الرسم التوضيحي لمخطط المدينة المنورة مدونة باللغة الكتالونية (almedina)، وبجوارها تعليق بأنها مدينة من المدن الإسلامية العظيمة في شبه الجزيرة العربية، وتم الإشارة إلى المدينة المنورة وفقًا للمخطط التقليدي للمدن الموضحة في هذه الخريطة ولا يميزها شيء عنها، فتظهر على جدار مفصلية مبنية على أبراج ذات أقسام مربعة مرافقة، ينبثق منها برج مربع مماثل في المركز، مثل العديد من المدن الأخرى. (شكل رقم [22])

وفي الختام؛ نجد أن خرائط العصور الوسطى أبرزت أهمية الحج بالنسبة للمسلمين وخاصة عند مسلمي الغرب الإسلامي، نظرًا للتقارب الجغرافي بين أوروبا الغربية ومنطقة الغرب الإسلامي، وتجسيدها لأهم الطرق والمسالك لبلاد الحجاز لتأدية فريضة الحج، وعلى الرغم من الخلط وعدم الدقة في تمثيل بعض المواضع وغياب المعرفة الدينية لبعض الأماكن الأخرى، إلا أن الأطلس الكتالوني يُعد من أوائل الخرائط المرجعية، وأساساً للخرائط الحديثة.


المصادر والمراجع:
 .1Abraham Cresques ? Atlas de cartes marines, dit [Atlas catalan], Source gallica.bnf.fr / Bibliothèque nationale de France. Département des Manuscrits. Espagnol 30
 .2Agustín Hernando: El Atlas Catalàn de 1375: una representación del mundo en la Mallorca de la Baja Edad Media, Paratge: quaderns d'estudis de genealogia, heràldica, sigil·lografia i nobiliària, ISSN 1130-3395, Nº.25-26 31, 2018.
 .3Jaume Riera i Sans : Cresques Abraham, Jew of Majorca, Master of Mappaemundi and Compassesi, cresquesproject, 2011.
 .4Sandra Sáenz-Lápez Pérez: La Peregrinación A La Meca En La Edad Media A Tra Vés De La Cartografía Occidental, Revista de poética medieval , 19 (2007).
 .5Vicenç M. Rosselló I Verger: Marees I Atles Català [1375], Departament de Geogra a. Universitat de València, Cuad. De Geogr. 86 , 165 - 182 , València, 2009
 6Yoro K. Fall: L'Afrique à la naissance de la cartographie moderne: les cartes majorquines, XIVe-XVe siècles, Karthala Editions, 1982.
7. ابن خلدون: المقدمة، الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، 2007م.
8. جون كلود هوكت: العلاقات الملاحية والبحرية في البحر المتوسط في القرن الرابع عشر، ترجمة : لمياء الأيوبي، ضمن كتاب "ابن خلدون البحر المتوسط في القرن الرابع عشر قيام وسقوط إمبراطوريات"، مكتبة الإسكندرية، الإسكندرية – مصر، 2007م
9. مرثي كوميز: الخرائط في أواخر العصور الوسطى، ضمن كتاب "بن خلدون البحر المتوسط في القرن الرابع عشر قيام وسقوط إمبراطوريات"، مكتبة الإسكندرية، الإسكندرية – مصر، 2007م.
10. عيسى أحمد بويوزان: فضل الحج على العلم في الغرب الإسلامي من خلال رحلات الحج من القرن الخامس إلى القرن التاسع الهجري، بحث مقدم إلى ندوة مكة المكرمة عاصمة الثقافة الإسلامية، 1426هـ.
https://es.wikipedia.org/wiki/Atlas_Catal٪C3٪A1n         https://marinacatalana.wordpress.com/category/cresques-abraham

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها