الأنتلجنسيا "أزمة الفلسفة"

سُؤال قديم مُتجدّد

هاني بكري


للفلسفة تعريفاتٌ كثيرة، وبغضّ النظر عن عشرات التعريفات قديماً وحديثاً؛ فإن فعل التفلسف ذاته بمعنى الانتقال من "المادي إلى المجرد" هو فعل كامِن في جين الإنسان العاقل منتصب القامة، وهو فعل ملازم أيضاً لسيّاقات النشاط البشري، سواء الحديثة أو القروسطية وحتى البدائية والطوطمية، في رحلة بحثها عن منابع الوجود واستكناه أسراره، ومحاولة تفسير الظواهر الغامضة المحيرة لعقل الإنسان.
 

التفكير الديني نفسه لم يعدم ضرباً من التّأملِ الفلسفي في سبيل فرض المدونات السلوكية والأخلاقية، لذلك استخدمت الأدبيات الدينية المُكوّن الأسطوري والحكائي والغرائبي والرمزي -وهو ما يَتناصُّ مع الفلسفة- وضفّرَتْهُ في سياق الإحالات والرموز والسرديات العقائدية.

الأزمة الفلسفية المرجعية الكبرى كَمنتْ تاريخياً في وجود طريقين مختلفين؛ الدين؛ في مواجهة التفكير الفلسفي، هذه الأزمة كانت مُمْتدة عبر التاريخ الفلسفي الشرق أوسطي، وفي دول حوض البحر المتوسط (وحدها فلسفات الشرق الأقصى هي من نجتْ من هذا السياق التلاسُنيّ؛ لأنها تحرّرَتْ من الماورائيات، وسعت إلى استكناهِ حقيقة الكون ذاتِه، وليس ما وراء الكون! وألّفَتْ فيما بينهما عن طريق التّناغُم الجدلي لا التّضاد الهيغلي).

لقد ورِثتْ الفلسفة الإسلامية تركة الفلسفة اليونانية بجدلياتها التي دائماً ما أفْضَت إلى الصّراعِ مع الدين؛ سواء اليهودي، أو المسيحي، أو الإسلامي؛ والذي كان ينظر لاهوتيا في عصور التأسيس المسيحي للفلسفة بوصفها نشاطاً تجديفياً يُبرّر سحل فاعله في الشوارع، كما حدث مع الفيلسوفة الهيلستية "هيباتيا"، وكان ينظر إليه فقهياً في منظومة العلوم الشرعية الإسلامية على أنه نشاط كُفريّ يستوجب الملاحقة والاستتابة والنَّفْيَ خارج الوطن، كما حدث مع أبي الوليد بن رشد الحفيد.

لذلك؛ كانت معضلة الفلاسفة المسلمين الدائمة هي محاولات التوفيق بين الدين والفلسفة، بَدْءاً من الفارابي والكندي مروراً بابن سينا، وليس انتهاءً بابن رشد.

الفارابي دفع بعملية التوفيق إلى أقصى مداها؛ إذ حاول ليس فقط الجمع بين الفلسفة والشريعة؛ وإنما أيضاً بين الفيلسوف والنبي، كما جمع بين الفلسفات المتضادة ذاتها "فلسفة أرسطو وأفلاطون"، وبدا في توفيقه بين المتناقضات وكأنه يؤسس ليوتوبيا فكرية، توازي اليوتوبيا السياسية التي طالما حلم بها، وتوهم حدوثها ذات فترة زمنية في حلب تحت حكم "أبي فراس الحمداني".

أما الكندي فقد مارس عملية التوفيق هذه عملياً في كتاباته؛ إذ كان دائمَ الاستشهاد بآيات القرآن في سياقات البرهان الفلسفي، وذلك في تضمين عميق ينفي التضاد بينهما.

ولابن رشد الحفيد المجهودَ الأضخم في هذا المِضْمار؛ إذْ كانت آلياته منطلقة من الدفاع عن الفلسفة إزاء الهجوم الغزالي عليها "أبو حامد الغزالي"، الذي شن حرباً على الفلاسفة والتفلسف لينتهي بنتيجة مفزعة في كتابه "تهافت الفلاسفة" بأن: "القول بكفرهم -أي الفلاسفة- واجب"، مِمّا أو جب دفاعاً وهجوماً مُضاداً حمل لواءه ابن رشد في كتابيْه "تهافت التهافت" و"فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، الذي بدأ مقدمته بالدفاع عن الفلسفة ومصادرها اليونانية مُستشهداً بوحدة العقل البشري كفرضية منطقيّة، وبأن النظر في كتبهم واجب لاستخدام المنطق كآلية للتفكير أولاً، وثانياً لتحصيل ما لديهم من علوم نافعة، وتمحيص ما عندهم من تعارض، ثم ينطلق بعد ذلك لبيان عدم تعارض الدين مع الفلسفة، مشتبكاً مع النقاط الخلافية الكبرى بين الفلاسفة والفقهاء، مثل القول بقدم العالم، ومعنوية البعث والحساب، وعلم الله تعالى للجزيئات، موضحاً عدم تعارض المعنى مع الشرع، ولم ينسَ أيضاً الاستدلال بأقوال الغزالي نفسه في سياق هذه النقاط الخلافية، مذكراً إيّاه بأنه متعدد الخطابات؛ إذْ يصفه بأنه: (مع الأشاعرة أشعري، ومع الصوفية صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف).

جريرة التركة

من جريرة التركة الفلسفية اليونانية الثقيلة، وجريرة التلاسن الفقهي الفلسفي هذا، ومحاولات فلاسفة المسلمين دفع التعارض بين الفلسفة والشرع، نشأ ما يمكن تسميته "بالتقية الفلسفية"، وهي تقية جعلت من التفلسف علماً نخبوياً بحتاً، لا يسمح بتداوله سوى داخل أروقة البحث المهتمة بهذا الأمر فقط.

تقية جعلت الفلاسفة يتواصون فيما بينهم على عدم البوح بما فُتِح عليهم من معارِفَ وعلومٍ، في إشكالية ضخمة، ألقتْ بظلالها على غالب المنجز الفكري العربي والإسلامي بعد ذلك.

يقول ابن رشد في عبارة دالّةٍ على هذا الأمر في كتابه "فصل المقال": (وأما المُصرِّحُ بهذه التأويلات لغير أهلها -أي للجمهور- فكافر).

ويقول ابن سينا في كتابه "منطق المشرقيين": (وما جمعنا هذا الكتاب لنظهره إلا لأنفسنا؛ أعنى الذين يقومون مقام أنفسنا، وأما العامة، من مزاولي هذا الشأن، فقد أعطيناهم في كتاب الشفاء ما هو كثير).

أما الغزالي نفسه فيقول في كتابه "مشكاة الأنوار": (ليس كل سر يكشف ويفشى، ولا كل حقيقة تعرض وتُجلَى).

هذه السرية الابستيمولوجية تحمل في تضاعيفها وثناياها عدم تسرب المعرفة من أعلى السلم الفكري إلى أدناه، وتقطع حبال الوصل العقلية بين الفيلسوف وبين الجمهور، مما يستحيل معه صنع قاعدة جماهيرية حاملة لأسس التفلسف والتنوير. قاعدة جماهيرية لازمة كحاضنة شعبية تضفي حصانة ما على هذا الخطاب. هذه السرية العلمية صنعت أزمة في سلم التطور الحضاري الإسلامي كان فلاسفة المسلمون أنفسهم أحد أسبابها. فما الجدوى من علم دائري مغلق يدور داخل أنتلجنسيا معرفية محدودة؟

وذلك على عكس فلاسفة عصور النهضة الأوروبية الذين خالفوا تماماً هذه الفرضية، ووقفت الرشدية كتيّارٍ صلبٍ إزاءَ مُهاجميها، مِمّا خلق تنوعاً كمياً أدى إلى تغيرٍ كيفيٍّ على أرض الواقع، واستهدفتْ شريحة جماهيرية عريضة اتخذتها كركيزةٍ لدعائم التنوير، وأضحت حاضنة شعبية لهم، وذلك على عكس ما حدث في العالم الإسلامي الذي تكلست فيه حقول المعرفة، وظلّت تدور في إطار دائري جامد لتنتهي آخر الأمر بغلق باب الاجتهاد بمعناه الواسع، وتَخثّرتْ شرايينه المغذية له، فنشأت الحواشي لقرون طويلة كشروحات على المتن وهوامش على شروحات المتن، سردَبتْ أُفق الاجتهاد والتفكير في الحضارة الإسلامية.

كان يمكن الخروج من هذه الأزمة معرفياً عن طريق فرضيات بسيطة، بوصف الفلسفة تحمل في النهاية قيماً عابرةً متعاليةً (الحق، الخير، العدل، الجمال)، وهي في النهاية نفس القيم التي تحظى بدعم الدين ورعايته، كما أن الفقهاء الذين مارسوا نقداً للفسلفة والمنطق انطلقوا من أرضية فلسفية تستوعبها فروع التفلسف بلا حرج، كالغزالي، وابن تيمية، وابن حزم الظاهري.

وكان ينبغي على الفلاسفة المسلمين أن يساهموا في تفكيك ثنائية النخبة والعوام، لا إلى تكريسها فكرياً أكثر ممّا كانت مُكرّسة كثنائية سياسية.

هذا التّفكيك كان سيحرق مسافات –ولقرون- في الريادة الفكرية والحضارية، التي كانت ستفضي بلا شك لريادة ولديمومة علمية وعملية وهو ما لم يحدث للأسف الشديد.

 


 

 

قَولٌ على قولٍ

كتب: المحرر الثقافي

يتوقفُ الكاتب أمام مقولةٍ طالما شكّلتْ مفصلاً سجالياً منذُ التطورات التاريخية التي أعقبت ترسُّخ علم الكلام في العالم الإسلامي، وكانت الفلسفة من المباحث الجدلية في ذلك الزمن، بل كانت مقارنة الأديان بالفلسفة واحدةً من مركزيّات الكلام التأويلي الفكري، وقد أجمع علماء تلك اللحظة التاريخية على التواصل والتفاصل بين الدين والفلسفة، من حيث إنّ الدين ليس في مُجابهة الفلسفة، طالما كانت الفضيلة هي الرافعة الجامعة لكلا المجالين، لكن الأهم من هذا وذاك أن نفي البُعد الماورائي عن الفلسفة بدا كما لو أنه اغتيّالٌ ضمني للفكر الفلسفي ذاته، فالفلسفة ليست في جوهرها إلا سؤالاً وجودياً لا إجابة له، فيما يعبر ذلك العجز عن الإجابة الشافية الوافية، عن إدراك ضمني لمعنى "الما وراء" بوصفه الحاملَ الأكبر للحقيقة الوجودية، ومن هنا جاءت مأثرة ابن رشد الرائية، في مقاربته الهامة بعنوان: "فصل المقال فيما يبن الحكمة والشريعة من الاتصال"، والتي شكَّلت المقدمة الزلزالية لابنثاق الإصلاح الكنسي الأوروبي على يد الراهب البروتستانتي مارتن لوثر الأول.

ما جرى بعد تلك النازلة الفكرية المقرونة بالرشدية وقع في حبائل التاريخ ونواميس السلطان، فقد اعتدَّ الفكر البرهاني الأوروبي بالعلم المحض "الابستمولوجيا"، ليصل إلى طريق مسدود؛ لأن محدودية المعرفة العلمية لا يمكنها أن تطال لانهائية الغيوب، وبالمقابل تداعى الفكر العربي الإسلامي مع الميتافيزيقا حد الثمالة، فانساب مع التجريد وأهمل الأسباب، وتخلَّى عن نواميس المُدافعة الوجودية، فوقعنا معاً "شرقاً وغرباً" في ذات المأزق.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها