النّساءُ في أدب الجاحظ

د. عوض الغباري

الجاحظ أديب عربي متفرد، له مؤلفاته الموسوعية الرائدة، وأسلوبه الفني الذي صاغ به خصائص النثر العربي، واستمر أثره البلاغي والفكري والأدبي ممثلاً الثقافة العربية والحضارة الإسلامية حتى عصرنا هذا.
 

وللجاحظ رسائل رائعة حققها "عبد السلام هارون" في أربعة أجزاء، طاف بها في أفلاك متنوعة من المعارف والفلسفات والآداب والفنون مجسدة الحياة الإنسانية، ووقائعها الاجتماعية في عصره. وقد عرك الجاحظ الحياة، وصوَّر تجارِبه الذاتية في أدبه، وقدم مؤلفاته الأدبية والعلمية بفلسفة عميقة، وفكر مستنير.

ومن رسائله البديعة رسالة في "النساء" تعد وثيقة فريدة في مكانة المرأة العربية، وتستحق أن تكون دستورًا حضاريًا ممثلاً لدورها المهم في بناء المجتمع الإنساني في كل زمان ومكان.

وقد ربط "الجاحظ" بين النساء وبين الحب والعشق والهوى، مؤكدًا أن للنساء الوجود المتعمق في الحياة وبهجتها. فالحب أصل الهوى، ويتفرع منه العشق الذي يهيم به الإنسان1.

ويتميز "الجاحظ"، فيلسوفًا، بالعقلانية، ومفكرًا، بالثقافة الواسعة، وأديبًا بالأسلوب البلاغي المتميز. يذكر "الجاحظ" ما يتشعب عن أصل الحب من الرقة والرحمة، وأنه جماع الخير؛ وكأنه يدخل هذا المدخل اللطيف في موضوعه عن النساء من منطلق نفسي أصيل، يربط الحب والخير بالمرأة.

ويؤكد "الجاحظ" رؤيته للحب من أنه نعيم الدنيا، بل "أكبر نعيمها، وأكمل لذاتها"، متمثلاً في ظَفَر المحب بحبيبته، وما يكون من سرور العاشق وسعادته وبهجته، وقد رسخ العشق بقلبه، وفاز بلذته. وربما جاد الفضلاء بالمال، ولكنهم يستأثرون بالحبيبة، ويهدونها أجمل الأشياء، ويتوخون رعايتها. ويختص العشق بالنساء، وقد يصل الوجد بعشقهن إلى ما يودي بحياة العاشق.

وقد قال الله تعالى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ}2.

يقول الجاحظ": "فقد ذكر تبارك وتعالى جملة أصناف ما خوَّلهم من كرامته، ومَنَّ عليهم من نعمته، ولم نر الناس وجدوا بشيء من هذه الأصناف وجدهم بالنساء. ولقد قدم ذكر هن في هذه الآية على قدر تقدمهن في قلوبهم"3.

والاستمتاع بالغناء والطرب لا تعلو لذته على لذة الحب. فالعشق مقيم في قلب العاشق، والطرب غير ثابت. والعاشق ينشغل بما يصدر عن محبوبته، فإن كان الغناء، فالغناء "الحسن من الوجه الحسن والبدن الحسن أحسن"4.

ويرى "الجاحظ" أن النساء بالغناء أخص من الرجال، إذ " الرجال دخلاء على النساء في الغناء". والجاحظ بارع في المناظرة، وقد دعاه إليها "هنا" رأي ذهب إلى أن الرجل يخرج عن وقاره بما يجد من لذة الطرب، فأخذ الجاحظ –كدأبه– يفند المقارنة بين لذة الحب ولذة الغناء، وأيهما يسيطر على قلب الرجل، ليثبت رأيه في سطوة العشق على العاشق، وغلبة الحب على غيره من متع الدنيا.

ثم يقول: "فأيهما أحسن وأملح، وأشهى وأغنج، أن يغنيك فحل ملتف اللحية... أم تغنيك جارية كأنها طاقة نرجس، أو كأنها ياسمينة".

وهنا يرتبط الجمال والغناء بالمرأة التي ينتصر لها "الجاحظ" ويختصها بغناء شعر الغزل، ويجعله من حقوقها، فيقول: "وإنما ينبغي أن تغنِّي بأشعار الغزل... والعشق والصبابة بالنساء اللواتي فيهن نطقت تلك الأشعار"5.

وللحب لغته الخاصة التي تجري بين المحبين، وتكتسب بلاغتها على قدر تمكن الغزل منهم. ويعدد الجاحظ الأمور التي تجعل المرأة أرفع حالا من الرجل، منها: "أنها التي تُخطب وتُراد"6. بل الحب سلطان للمرأة على الرجل، فالهوى "يعمي ويصُم" كما ورد في المثل السائر.

ويمضي "الجاحظ" في ذكر تعظيم الرجل لشأن النساء، فالمرأة أم الولد "وليس شيء مما يُحدث الله لعباده من أصناف نعمته، وضروب فوائده، أبقى ذكرًا، ولا أجل خطرًا من أن يكون للرجل ابن"7 يخلفه من بعده.

وتتضح بلاغة الجاحظ في تصويره لأواصر القربي والنسب، وذلك في قوله: "إن تباغض الأقرباء عارض دخيل، وتحابهم واطد أصيل، والسلامة من ذلك أعم، والتناصر أظهر، والتصادق في المودة أكثر".

والسجع أبرز ظواهر النثر العربي، ودوره –خاصة– في أدب الحاجظ عظيم الأثر بنغمه وإيقاعه الموسيقي، إضافة إلى فكره العميق وسيلة وغاية إلى الإمتاع والإقناع، وتحقيق مقصد الأدب الرفيع في الوصول إلى قلب المتلقي وعقله.

وقد صور أهمية الأواصر القوية بين الأقرباء، وأنه لا يريد أن يقول إن النساء أفضل من الرجال، ولكنه أراد أن يُعلم من احتقر المرأة حقيقة أهميتها، وأن يذكر حقوقها لمن بخسها، ويؤكد ذلك بقوله: "وإن من العجز أن يكون الرجل لا يستطيع توفير حقوق الآباء والأعمام إلا بأن ينكر حقوق الأمهات والأخوال، فلذلك ذكرنا جملة ما للنساء من المحاسن".

وهذا إنصاف جميل للنساء من الجاحظ الذي يربط –بحق– بين حقوق الرجال والنساء بدليل واضح، وبرهان ساطع. كذلك مما دعا الجاحظ إلى تقديم هذه الرسالة الجميلة تصحيح ما دار في خلد البعض من أن حب النساء ضعف من الرجل. بل إن "ناسًا يفخرون بالجلد وقوة المُنَّة" لانصرافهم عن حب النساء.

ويضع "الجاحظ" الرجال والنساء وفق الطبيعة البشرية، بما هو محمود أو مذموم منها، ثم "يجمع بين المحاسن منها والمساوئ حتى يستبين لقارئ الكتاب نقصان المفضول من رجحان الفاضل، بما جاء في ذلك من الكتاب الناطق، والخبر الصادق، والشاهد العدل، والمثل السائر".

والحقيقة أن ما ذكره الجاحظ هنا هو ما تختص به مؤلفاته من تحري الصدق والموضوعية في تناوله للقضايا التي يتطرق إليها، وقد جنح إلى الحق والعدالة، وتوسل إلى ذلك بالفصاحة والبلاغة والمثل السائر، وما تميز به من أسلوب فني نادر.

وبهذه الشروط العلمية الإنسانية الرحبة يصف "الحاجظ" مؤلفه هذا –وهو رسالة النساء– بالاستقصاء والشمول، وهذا ما يحبه في مؤلفاته، ويحرص عليه. يقول: "كما نحب أن يخرج هذا الكتاب تامًا، ويكون للأشكال الداخلة فيه جامعًا".

ثم يضيف أمرًا آخر مهماً وهو تجنبه للتعقيد والزيف والهوى: "حتى يُجتنب فيه العويص والطرق المستنكرة"8.

ورسالة "النساء" كما قدمها "الجاحظ" لا تبحث في الفرق بين الرجل والمرأة، بل تعمد إلى ذكر التكامل بينهما، وحاجة كليهما إلى الآخر دون تحيز لأحدهما دون الآخر.

ثم يمضي "الجاحظ" إلى دستور الكتابة، وهو إمتاع المتلقي "على ما لا يبلغ بالمستمع إلى السآمة، وبالمألوف إلى مجاوزة القدر". فالجاحظ يحرص على رشاقة الأسلوب، وجذب القارئ دون إثقال عليه.

ورسالة "النساء" مثال لمنهج الجاحظ في التأليف من هذا المنطلق بالإضافة إلى الموازنة بين الجد والهزل، يقول: "وليس ينبغي لكتب الآداب والرياضات أن يحمل أصحابها على الجد الصرف، وعلى العقل المحض... وللصبر غاية وللاحتمال نهاية".

فالنفس لا تحتمل الجد دون ترويح، بل "ساعة وساعة" كما في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم. والفكاهة فلسفة لها عمقها النفسي في التوازن الإنساني. وهي ظاهرة في مؤلفات الجاحظ من هذا المنطلق. وفي ذلك يقول الجاحظ: "ولا بأس بأن يكون موشحاً ببعض الهزل، وعلى أن الكتاب إذا كثر هزله سخف، كما أنه إذا كثر جده ثقل".

فالوسطية مطلوبة، والاعتدال مهم، وخير الأمور أوساطها. واستمالة القارئ مهمة لدى الجاحظ الذي يرى أن يكون في الكتاب بعض ما ينشط المتلقي "على جهة الاستدعاء لقلبه، والاستمالة لسمعه وبصره"9.

وفي العشق رجلان لا يعشقان عشق الأعراب، كما يقول الجاحظ: "أحدهما الفقير المدقع، فإن قلبه يُشغل عن التوغل فيه وبلوغ أقصاه، والملك الضخم الشأن؛ لأن في الرياسة الكبرى، وفي جواز الأمر ونفاذ النهي، وفي ملك رقاب الأمم ما يشغل شطر قوى العقل عن التوغل في الحب، والاحتراق في العشق".

ويحذر "الجاحظ" العاشق من تقلبات الحب، داعياً إلى الصبر على سُلوِ الحبيبة، والتريث حال غضبها؛ لأنه إذا تركها فسيندم على ذلك، "فليحذر الحازم الفترة في حب حبيب، والغضبة التي تنسيه عواقب أمره"10.

ويؤكد "الجاحظ" حقوق المرأة بقوله: "ونحن وإن رأينا أنّ فضل الرجل على المرأة، في جملة القول في الرجال والنساء، أكثر وأظهر، فليس ينبغي لنا أن نقصر في حقوق المرأة، وليس ينبغي لمن عظَّم حقوق الآباء أن يصغِّر حقوق الأمهات، وكذلك الإخوة والأخوات، والبنون والبنات. وأنا وإن كنت أرى أن حق هذا أعظم؛ فإن هذه أرحم"11.

وتلك رؤية منصفة ثاقبة رحيمة إنسانية، تقيم ميزان العدل والإحسان في الحقوق الواجبة للرجل والمرأة.

ويطرح "الجاحظ" قضية طريفة هي أن الرجال أبصر من النساء للنساء، فالمرأة "تعرف من المرأة ظاهر الصفة، وأما الخصائص التي تقع بموافقة الرجال؛ فإنها لا تعرف ذلك".

فالحب خاصة نفسية، والجمال –وحده– وإن كان مهماً، ليس الفيصل في الحب. وأتى "الجاحظ" بكثير من الأمثلة في وصف المرأة الجميلة، لكنه –وهذا نادر– رأى أنها أوصاف جرت على ألسنة الناس والشعراء والأدباء – مصورة البلاغة التي لا تعبر عن الجمال وضروبه "من الحسن الغريب، والتركيب العجيب، لا يوفيه مثل كأنها الشمس، وكأنها القمر، مثلاً12.

وعرض الجاحظ لرأي بعض "البصراء بجواهر النساء" من تفضيلهم للمرأة "المجدولة"؛ بين السمينة والممشوقة، وأن "التثني في مشيها أحسن ما فيها"، ووصفوا "المجدولة" بالكلام المنثور، فقالوا: " أعلاها قضيب، وأسفلها كثيب"13.

وما هذه إلا قطوف من أدب الجاحظ في النساء نراها نابضة بالحيوية والحياة.


الهوامش: 1. الجاحظ، الرسائل، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، الجزء الثالث، الطبعة الأولى، مصر، 1979، ص: 139. ┆ 2. آل عمران / 14. ┆3. رسائل الجاحظ / ص: 142. ┆4. المصدر السابق، ص: 144. ┆5. المصدر السابق، ص: 145. ┆6. المصدر السابق، ص: 146. ┆7. المصدر السابق، ص: 148. ┆8. المصدر السابق، ص: 152. ┆9. المصدر السابق، ص: 153. ┆10. المصدر السابق، ص: 154. ┆11. المصدر السابق، ص: 157. ┆12. المصدر السابق، ص: 158. ┆13. المصدر السابق، ص: 159.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها