الكفاحُ بالقصِّ.. وتطوير الحياة بالتجديد في لغة السرد

جولة في "بجوارك بينما تمطر"

سفيان صلاح هلال

 

اللغة في القصة القصيرة هي لغة ملكية: مكثفة، موحية، منجزة... ورغم الكم الهائل من المنشورات تحت مسمى القصة القصيرة، فالنموذج المتميز يجذب النظر إليه دون عناء، والقصة البديعة تحديداً، هي وردة جميلة الشكل فواحة بأريج المعنى آسرة بما تمنح من وجدانيات تسعى للحكمة وتفعيل التعايش وتطوير جماليات الوجود. ومن المبدعين الملفتين المبدع محمد عبد المنعم زهران. والذي نال عدة جوائز عربية تؤكد موهبته بداية من جائزة الشارقة عن أول إصداراته، وحتى جائزة المجلس الأعلى للثقافة عن مجموعته الأخيرة.
 

مع دهشة التلقي الأول أحسست أنني أمام قاص يميل للفانتازيا في أسلوبه، لكن القراءة المتأنية جعلتني أكتشف أن المسافة بينه وبينها بعيدة جدّاً، وأنه يميل للواقعية السحرية بتصرف شديد، وله باع في توظيف الضمائر واستخدام الجمل القصيرة المتتابعة مما يجعل المتلقي يظن أنه أمام فنتازياً، الحقيقة كانت فنتازيا الواقع حين يدخل عالم الكاتب ويتأرجح بين الحقيقة والتخييل، بين الملموس والحلم، بين رصد القاص بعينيه، واستعانته بتوظيف خبراته التي تحركها مساحة من الإنسانية في شتى تحولاتها وصراعاتها.

في مجموعته (بجوارك بينما تمطر) الصادرة عن دار كيان للنشر والتوزيع 2022، والتي قرأتها في يسر واستمتاع مستكشفاً عالم القاص، أدركت أنني أمام باقة من المسرودات جمعها بستاني الكلمات ونسقها في مزهرية المجموعة بطريقة تمتع الناظر المتأمل، وتثري بأريجها عشاق الروائح خبراء التجربة.

تتكون المجموعة من اثنتي عشرة قصة، تبدو كل قصة مطاردة بين البطل وحلم ما ... وتمتازُ الأحلام بتنوعها، فمنها ما هو حلم شخصي كحلم بطل قصة (هناك يا صاحبي)، الذي ظل مربوطاً أمام التيليفون منتظراً مكالمة من جهة وظيفية، حتى إنه خاف أن يتركه لشراء سكر، بل لأبعد من هذا.. لقد خاف من وقت دخوله الحمام (.. حتى لو حملت الهاتف معك إلى الحمام، ولكن السلك تقاصر فوقفت تفكر، ولأن أمعاءك كانت تواصل الضغط عليك، فهكذا إذاً جرى أمرك الغريزي على نحو سريع:

أنزلت البنطال وأنت واقف بجوار الهاتف، واندفعت إلى الحمام، واستغرقت سبعاً وأربعين ثانية كانت كفيلة بإفراغ ما يجب إفراغه، وأتاحت لك مؤقتاً الحياة دون تقلصات خانقة، ثم خرجت في النهاية مندفعاً لاهثاً، ببنطال ساقط على قدميك). ومنها ما هو حلم للغير، كما في (المتجول في الأحلام) فالبطل صار لا يرى المحيطين به في معاناتهم اليومية، لكن يراهم كما يحلمون لأنفسهم، بل يعاملهم كما يراهم في أحلامهم، ويراهم يعاملونه كما يحب أن يراهم، وهنا يتم تبادل المعاني الإنسانية، لكن في خيال البطل... فها هو يرى ساكن السطوح الفقير متسوقاً للعشاء يحمل ما لذَّ وطاب، ويعامله كباشا، ويرى سائق التاكسي التعيس سيء المعاملة رجلاً في منتهى الذوق والإنسانية بسيارته اللائقة بإنسان.

و(بحثت عن المرأة التي تبيع السجائر على الرصيف بجوار محطة المترو، ولم تجدها واندهشت. وقررت العبور إلى الاتجاه الآخر من الشارع حيث يوجد كشك لبيع السجائر، وفجأة رأيتها أمام متجر ترتدي بنطالاً من الجينز وبلوزة حمراء، وفجأة تذكرت محياها بملابسها السوداء على الرصيف وأمامها صندوق السجائر، وفجأة دعتك للدخول، وفوراً منحتك علبة سجائر، قالت إنها احتفظت بها لك، وإنها هدية بمناسبة افتتاح محلها الجديد للملابس، حدث هذا سريعاً، دون أن تملك فرصة لإبداء دهشة. أفقت من المفاجآت المتوالية كطلقات رصاص ثم انتبهت، وبدأت تستعيد توازنك، ورأيتها وكانت تضع يداً في منتصف جسدها بدلال وتمد يدها الأخرى بعلبة السجائر، وكانت تضحك وكنت تنظر هكذا فقط). ولم يغفل الكاتب عن أن بعض الأحلام يحركها الصراع الوجودي كما في قصة (صورة السيد عبد القادر).

حيث يرصد الكاتب حلم الخلود بشقيّه: خلود الذات في الولد (ولأنه حفيدي الوحيد من ابني الوحيد، كان لا بد من الإسراع بتزويجه... هكذا جرت العادة... أنت تعرف) وخلود الذات في الصورة (بعد انتهاء اللقطة حاول المصور التسلل ولكن يد العجوز كانت أسرع هذه المرة، فأذعن المصور، وبدا أن خيوط العنكبوت كانت ملتصقة بجلده هذه المرة ونافذة إلى أبعد عروقه الداخلية فخدرته، وأخيراً مضى مع الجد مستسلماً). وكما يتضح من (حاول المصور التسلل) أن هذه المحاولة الناجحة من الجد لالتقاط صورة كانت ناتجة عن عدة محاولات فاشلة دار فيها الصراع بينه وبين المصور.. وكما تولد الأحلام من الذات مباشرة وتصارع من أجل التحقق، فالصراع البشري الأيدولوجي، والسياسي، والطبقي، يفجر الأحلام ويرعاها، يبدو هذا جلياً في قصة (لم أكن هناك.. لأنه).

تبدو هذه القصة كملحمة رغم حجمها الصغير، يتفجر فيها الصراع على مستويين: المستوى الشكلي، والمستوى المعنوي.. ويفتح الكاتب فيها جبهتين: جبهة فيها طابع عام مفتوح على الخاص... وأخرى ذات طابع خاص مفتوح على طابع عام، حيث الصراع بين كاتب مغمور لا يقدر فنه أحد، ورياضي تملأ أخباره وصوره الجرائد، وتاجر غني جاهل وزوجته التي لا قيمة لها غير أنها تحمل جنسية استعمارية، حيث ظنون القيمة لمجرد طوارئ الأحداث... (ويا للصدف العجيبة يا "عبده"، ففي هذه الأيام قامت زوجة الحاج التركية المهووسة بترتيب الأشياء، بفرد صفحة جريدة - تحمل إنجازك العظيم وصورتك المهيبة- على الرف الخشبي أسفل كتابي، لذا فقد أمكننا أن نلتقي، أنتَ في جريدة تُستخدم كغطاء -ليس إلا– لرف خشبي، وأنا فوقك تماماً) ولكن في مجتمع جاهل شكلاني، هل ثمة قيمة لإنجاز أو لصاحبه؟ يموت التاجر، ويبيع ابن التركية المكتبة؛ ليشتري البطل السابق الذي صار بائعاً للطعمية كتاب المبدع من بائع متجول، كتاب كان خبر وفاة صاحبه ملفتاً في أحد قراطيس الطعمية! أما حلم الأحلام الحرية فانتشر في أكثر من قصة أبرزهم: (المتظاهر وبجوارك بينما تمطر)، حيث حلم الخلاص من الضغوط الخارجية أو التي في داخل نفس الإنسان، تلك الضغوط التي تقيد الإنسان وتشل حركته الطبيعية..

بوجه عام؛ إن الحلم هو قضية هذه المجموعة، فلا توجد قصة خلت من حلم للبطل يسعى إليه، بل إن كلمة الحلم بذاتها أو بمعانيها يمكن رصدها في كل النصوص حتى في العناوين، وردت بلفظها أحياناً وبمدلولاتها أحياناً مثل (المتجول في الأحلام وحياة الأحلام)، ولا يوجد نص يخلو من الصراع، والحركة التي غالباً ما تأخذ اتجاهاً درامياً متصاعداً.. غير أن الملاحظ أن معظم الأحلام تتكسر على صفحة الواقع فهي مدهوسة بالقمع السياسي كما في المتظاهر، أو بالقمع الاقتصادي والنفسي كما في بجوارك بينما تمطر، والمتجول في الأحلام، أو بغياب القيم واندثار المعاني وتفشي الجهل كما (في شارع، وهناك يا صاحبي، ولم أكن هناك لأنه، والجد يقرأ القرآن...).

وحتى الحلم الذي يتحقق.. هو لا يتحقق كاملاً، فقد صار كل من الكاتب والسباح نجمين، والمحصلة: أحدهما /السباح صار بائع طعمية، وكتب الكاتب قراطيسه...! واستطاع الجد في فرح حفيده التقاط صورة خالدة له قبل موته بيوم واحد ولكنها ظلت مجرد عمل فني محاط بالمجاهيل (وبعد سلسلة أخرى من عمليات البيع المتواصلة للصورة، وصلت خلالها إلى أشخاص عديدين، وعرضت بمتاحف عديدة في أماكن متفرقة من العالم، إلا أنها ظلت محملة دائماً بذات التعليق الموجز أسفلها: هذه صورة مصري عجوز لا يُعرف عنه سوى أن اسمه "عبد القادر"، التقطها له مصور مغمور يدعى "حنا"، وبطريقة غير مفهومة التقط المصور صورة عظيمة لعجوز تبعث عيناه رغبة غامضة ومفهومة، وغير محددة في القول بيقين: "كنت حياً في يوم من الأيام".

والإفادة الأكثر إدهاشاً، أن صورة الخلفية لخديوى مصر في منتصف القرن التاسع عشر، وبصورة دقيقة عيني هذا الحاكم كانتا تبعثان ذات الرغبة في القول: "كنت حياً في يوم من الأيام". وكما عرضت المجموعة للقارئ حياة موضوعية، حملت في قصصها من اللمحات الفنية ما يلفت النظر.

كانت أهم هذه اللمحات هي عدم وقوف الكاتب عند طريقة واحدة في بناء قصصه، أو أستخدام أسلوب سردي أو حكائي محدد، وهو ما يمكن أن نسميه حسن التوظيف ففي رأيي أن المبدع إذا امتلك خبرة ثقافية ومعرفية بالإضافة إلى احتواء لتاريخ النقد لفنه الذي يمارسه؛ هذا ينمي ذائقته المبدعة أصلاً ولا يجعله مجرد كاتب ينقاد للموضة أو العصبيات المدرسية في الفن والإبداع.

في قصة الجَدّ يقرأ القرآن يستعين الكاتب بتكنيك القص العادي المتنامي وقد يلجأ للفلاش باك... ولكنه (في شارع) يستخدم ما يمكن أن نسميه التجاور السردي مستعيراً تقنية الأصوات المتعددة من الرواية للقصة القصيرة، وموظفاً معلوماته عن التخاطر الحسي، فالقصة تبدأ بشاب ضائع يحدث نفسه عن نفسه ولأهمية اختيار وجهته، وفجأة ينقلب المتحدث لفتاة نزلت للشارع، أول أيام عملها تحدث نفسها عن هلاوس أمها الخائفة من نزولها إلى الشارع تلتقي أعينهم فيرى كل منهما نفسه في عين الآخر، ويقص هذه الرؤية بأحلامها وأوهامها وهما يظنان تبادل المشاعر والأفكار حتى يحدث حادث عارض للفتاة، فتكتشف عدم اهتمامه وأنها لم تكن شيئاً له، وتحدق فيه فيظن أنها تتهمه بتدبير الحادث ويواري نفسه منها في الزحام وقد كان اختيار المبدع للسرد بالأصوات أثراً في تعميق رؤيته لدى المتلقي... فلو صنع الكاتب من نفسه راوياً وقص القصة كان سيتوقف فيها عند الشكل الخارجي للأحداث... ولو روى ما يدور في داخل الأبطال لصار مجرد ظن منه ورؤيا ذاتية، لكن اختياره أن يقص كل بطل من أبطاله قصته جعل الدراما أكثر وقعاً وصدقاً، ورغم أنها في كل الأحوال رؤية المبدع، لكن اختيار المبدع لهذا التكنيك يجعلها أكثر توكيداً وجمالاً... وفي قصة (لم أكن هناك لأنه) يستخدم المشاهد المتراكمة المنفصلة المتصلة، وهذا يتناسب تماماً مع قصة قصيرة تزحف نحو غاية واحدة بأبطال كثيرين.. ومتنوعي الميول، ولكنه في هناك يا صاحبي يستخدم طريقة القص المعاد، أو السرد المكمل، وكأن القصة صارت تحقيقاً أمام القارئ القاضي فلا يكتفي بقص الحكاية من وجهة نظر بطل واحد، ولكن يعيد القص أو يكمله بالطرف الثاني؛ وقد أدى استخدام تقنيات مختلفة للقص إلى توليد لغات متعددة في قصص المجموعة تناسب أجواءها مما صنع تكاملاً جميلاً؛ فأحياناً ما يمكن أن نسميه بلغة الحلم والواعية السحرية التي تذكرك "ببدرو بارما" (واسترحتُ في قبري وتذكرتك باعتزاز لأنك تذكرتني، ولكنك نسيت ملحق الجريدة الذي يحمل صوري فغفرت لك نسيانك لأنني كنتُ قد نسيتك أيضاً. وفي اليوم التالي عنفتَ الصبي الذي يعمل لديك لأنه التقط الملحق ولفه بهيئة قراطيس وبدأ يرص فيها...). أو (وعندما اقترب عميل لتوقع على شيكه بقبول الصرف رأيتها ترسم على الشيك قلباً يخترقه سهم، وما أثار دهشتك أن العميل شكرها، وأن شباك الصرف في ردهة البنك صرف الشيك ببديهية).

لو دققنا سنجد الكاتب في النموذج الأول يكتب عن حاله مع آخر بعد موته وهو مالا يكون إلا في حلم، وأما النموذج الثاني فيتحدث عن نفسه)، وفي قصة أخرى سنجد اللغة يمكن أن نصفها أنها لغة الصدمة (وفي الساعة الرابعة وخمس دقائق، وبينما كنتَ تصنع ثقباً رابعاً في حزامك ليحمل بنطالي المتهدل عليك، وأنت شارد الذهن في أحلام يقظة بالهاتف يرن، وبأنك "هناك" في حجرة مجاورة لحجرة الرجل اللطيف.. بينما كل هذا يتشيد بصورة متخيلة بالنسبة إليك، رنّ هاتفي المحمول في الواقع يحمل تهنئة رسمية من "هناك". كيف لي أن أشرح لك يا صاحبي بأنني –أيضاً- كانت لي أوراق "هناك" داخل حجرة الرجل اللطيف.. وأنه بطريقة أو بأخرى لم يكن مهماً أبداً حضوري أية مقابلات تعسة... وأن هذا المطلوب الوحيد "هناك" هو أنا قبل أي شيء. وهل لي القدرة على أن أشرح لك –بكل بساطة– أن الأمور تجري هكذا ودائماً على هذا النحو).

وهكذا يبتكر الكاتب لكل قصة، بل لكل مشهد لغة خاصة به ومن السمات الفنية البارزة/ الاعتماد على عنصري التشويق والمفاجآت من الأشياء التي تجعل قراءة المجموعة شيقة ومحببة للقارئ، فرغم أن الكاتب يدخلك دائماً في القصة دون مقدمات وبلغة بسيطة غير منفرة، غير أنه لا يفض ما في القرطاس كله مرة واحدة وستكتشف في آخر القصة دائماً مفاجأة ما... كما في قصة الشاب الذي يخشى مفارقة التليفون، ويكافح في هذا ومن قبله كفاحاً مريراً للحصول على عمل، وفي النهاية سنكتشف أن صديقه الذي ساعده للوصول للمسابقة وأقرضه اللباس هو من ظفر بالوظيفة.

ولو رجعت لبعض العناوين التي أوردناها في الدراسة ستجد بعض العناوين جملة ناقصة، أو فيها إشارة دون تصريح.. ولا شك أن لهذا دلالته... كما حرص المبدع على توضيح الصراع الدرامي وتناميه في القصص مستعيناً بقراءة التفاصيل الصغيرة الجوانية للأشخاص، ومستعيناً بالجمل المتلاحقة القصيرة في لغة بنيته القصصية، وقد منح هذا القصص حيوية وحركة وتدفقاً يجعلها تسحب القارئ وراءها دائماً.. وكأن المبدع يخرج القصص لممثل على الورق لا مجرد قاص يسرد أو يحكي (مضى المصور إلى حفل الزفاف، بينما انخرط الجد في البحث عن مكان مناسب لالتقاط صورة، ورغم الصخب والزحام فقد استطاع أن يختار مكاناً رآه جيداً، وبدأ يشير للمصور دون جدوى. لذا فقد بدأ في التحرك بصعوبة بين الأجساد للاقتراب منه، بينما كان المصور يتفلت منه في محاولات مستمرة وغير مجدية للتخلص من تلك الخيوط اللامرئية التي ربطت كل تحركاته بعيني الجد. الجد الذي كان يسير منحنياً ويرى بصعوبة ظل يطارده في غضب؛ إذ ساءه ألا ينجح في العثور على المصور بعد أن وجد مكاناً جيداً يصلح لالتقاط صورة، فأخذ يدور ببطء في أرجاء القاعة: هل رأيتم هذا المصور)؟!

نعم؛ رأينا المصور المبدع محمد عبد المنعم زهران وهو يلتقط بحرفية، ومن زوايا جميلة وإنسانية لا تنفصل عن الواقع أجمل القصص ليهديه إلينا.

 

 

صورة الغلاف:  الهيئة المصرية العامه للكتاب ©

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها