الرحل الرقميون في العـالم العربـي

من الفرص المُهدَرة إلى آفاق التجديد

د. أنور بنيعيش


عرف إيقاع الحياة في ظل التسارع الكبير الذي يشهده العالم بفضل التكنولوجيا الرقمية تغيرات مهمة، امتدت على مختلف مناحي الوجود البشري، وقلبت الكثير من المفاهيم التي ظلت ثابتة حول الصداقات والعلاقات الاجتماعية، وبنيات التعارف والانفتاح المتبادل، وآليات التخاطب والتواصل وغيرها من المجالات. إلا أن أحد أهم التغييرات التي برزت في الآونة الأخيرة، ومنحت تصورات جديدة للدوام اليومي والعمل، والالتزام المهني، والمحيط الإنتاجي بشكل عام، هي التي مست جانب العمل في حد ذاته خاصة بعد الرجة الكبرى التي أحدثتها شهور الحجر المنزلي والتباعد الاجتماعي الصارم أثناء تفشي موجة كوفيد 19. فقد مثلت التكنولوجيا الرقمية عموماً والإنترنت خصوصاً الملاذَ الآمن لإنقاذ بيئات العمل الحكومي والخاص من الانهيار، وضمان استمرار المرفق حتى وإن اقتضى الأمر البقاء عند الحدود الدنيا من الاستفادة، بدل التضحية بصحة المواطنين، والتعرض لخطر موجة وبائية تأكل الأخضر واليابس في طريقها.


ولهذا تنامت ظاهرة العمل المنزلي، وفرض توقف حركة الطيران المفاجئ اضطرار عديد الطاقات التي كانت خارج نطاق بلدها الأصلي، أو بلد المؤسسة المشغِّلة أن تعمل من بعيد بشكل استثنائي ريثما تتحسن الأمور. وهذا ما أدى إلى تعزيز ظاهرة "الرحل الرقميين"، وازدياد أعداد من يمارسون هذا النوع من العمل، ويخبرونه عبر تجارب حقيقية لها طبيعتها الاجتماعية والنفسية، وإيقاعها المهني الخاص.

الرحل الرقميون بين الاضطرار والاختيار

ورغم أن هذه الظاهرة سبقت موجة الوباء العالمي الأخير بفترة ليست بالهينة، وجرَّبها البعض بنسبة من النجاح، جعلتهم يزاوجون بين حرية التنقل والسفر، وبين ممارسة أعمال مُدِرَّة للدخل لشركات غالباً ما تكون كبرى وذات صيت عالميٍّ؛ فإنَّ الظرف الوبائي زاد من انتشارها، وعرَّف بها وبأهميتها في الاقتصادات المحلية والوطنية والدولية، ونبَّه إلى الحاجة إليها كمُكمِّلة للوظائف العادية أحياناً، ومعوضة لها في بعض الحالات التي تستدعي حظر التنقل بسبب الخوف من انتشار العدوى، أو في مناطق الصراعات المسلحة، أو حتى في فضاءات بعيدة جغرافياً شأن المناطق المعزولة كأقصى الشمال، وأقصى الجنوب بجوار الدائرتين القطبيتين، والشركات العابرة للدول والقارات في حال وجود مستخدميها في أماكن قصية تجعل تنقلهم إلى المكاتب أمراً مكلفاً جسدياً ومادياً. أي أنها تضحي، في ظروف بعينها، حلا اضطرارياً يضمن تحقيق إنتاجية معقولة، واستمرارها في فترات عصيبة يكون الإيقاع العادي للعمل مستحيلاً، أو شديد الصعوبة، مما يضع المسؤولين والمسيِّرين تحت ضغط إيجاد البدائل الكفيلة باستمرار تدفق الإنتاجية.

لكن في المقابل، يكون اللجوء إلى هذا النوع من العمل قراراً اختياراً لفئة من الأشخاص، تسعى لتحقيق امتيازات عديدة في آن واحد، ولا يشكل بالنسبة إليها الاستقرار في مكان واحد لمدة طويلة هاجساً ولا يغريها نظام الحياة التقليدي كالمسكن، والعائلة، والالتزامات الاجتماعية المباشرة، مثل مجالسة الأصدقاء ومقاسمتهم أهم لحظاتهم الحياتية بأفراحها وأتراحها. ومن ثمة، تضحي الظاهرة جزءاً من عالم جديد ما يزال في طور التشكل بفضل التقدم السريع في التكنولوجيا الرقمية، والإمكانات اللامحدودة للسفر إلى أماكن مختلفة من العالم، وعيش مغامرة التجديد المكان والترحال الدائم مع ضمان تمويل مستمر بسبب أداء مهام، أو تقديم خدمات رقمية معينة قد تُدِرُّ أحياناً أضعافاً مضاعفة من المداخيل مقارنة بالانخراط الكلي في بيئة العمل التقليدي بما فيه من تقييدات زمانية (الدوام المنتظم)، ومكانية (العمل في مكان محدد والسكن بالقرب منه، وعدم القدرة على السفر أو الابتعاد إلا أثناء فترة العطل).

الرحل الرقميون وبيئات العمل في المجتمعات العربية

لم تحل الإكراهات الجمة التي تعرفها الدول العربية على مستوى البنيات التحتية، وضعف انخراط المقاولات في الموجة الرقمية، وسيادة بيئات العمل التقليدية تسييراً وتنفيذاً دون أن تزدهر -بالتدريج- فكرة العمل عن بعد، والرغبة في تحقيق الازدواجية بين الاستمتاع بالسفر والحرية، وبين الحصول على مدخول ماديّ مُريح، خاصة أن معظم هذه الدول تتوفر على عناصر مهمة تتماشى مع هذه الموجة الجديدة وتغذيها من أهمها الشباب، وتجدد المفاهيم والقيم، وتجارب الهجرة، والانفتاح على الثقافات واللغات الأجنبية...

وبذلك عرفت ظاهرة "الرحل الرقميون" إقبالاً واستحساناً بفضل احتلال الفئة الشابة قاعدة الهرم السكاني، حيث بلغ عدد الشباب العرب حسب إحصاءات وردت في تقرير مركز الشباب العربي أكثر من 146 مليوناً ونصف المليون. الشيء الذي يشي بسيادة مظاهر الرغبة في التجديد، وخوض المغامرة، وتكسير الأنماط التقليدية السائدة بما فيها مفاهيم العمل والدوام، ونقاش المردودية وساعات الدوام، فهؤلاء الشباب أكثر جرأة على تكسير المنظومات التقليدية، وأكثر استيعاباً لمتطلبات المجتمع الرقمي، وفهماً لقواعد اللعبة الاقتصادية، وفق المنظور الجديد.

كما ساهم في ازدهار موجة الجمع بين متعة السفر والعمل انفتاحُ المجتمعات العربية على البلدان والأقطار الأخرى عن طريق الهجرة، والسفر، ودراسة اللغات الأجنبية (تشير بعض المواقع الموثوقة إلى أن هناك أكثر من 50 مليوناً مهاجراً عربياً في العالم)، وهذا من شأنه أن يُمِدُّ الشباب واليافعين بأفكار ابتكارية للهجرة والسفر، ومواجهة الثقافات الأخرى بِنِديَّةٍ تقوم على التلاقح والتفاهم، والسعي إلى تحسين الأوضاع الاجتماعية، ولو تطلب الأمر السفر إلى أقاصي الأرض.

يضاف إلى ذلك الرجَّة المفاهيمية والثقافية التي تعرفها هذه المجتمعات الفتية سكانِياً، والمتوقِّدة حماساً لكل أشكال التغيير في السياسة والاقتصاد والطقوس والتقاليد، وهي رجَّة تنتشر بين شباب العالم انتشار النار في الهشيم بفضل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، والتوافق في لغات رديفة للغات الطبيعية كلغات البرمجة، وإشاريات التواصل الرقمي.

الديمقراطية الرقمية والسهولة التي يصل بها المتصفحون إلى المعلومات، والسهولة التي يعبرون بها عن آرائهم، مما جعل أثر الموجات الثقافية والمفاهيمية، ونظم الحياة والاختيارات المبتكرة يتوسع مدى تأثيرها، وتجد صدى واسعاً لدى الشباب العربي المتعطش لمعرفة الجديد وتجربته في بيئاته الخاصة، وبمنظوراته الخاصة.
 

                  

وهكذا زاد نجاح بعض الشباب الرائد في هذا المجال عبر "اليوتيوب" بالخصوص، في التطلع إلى فهم هذا التوجه الجديد، حيث ظهر العديد من صناع المحتوى الرقمي الذين يزاوجون بين السفر والمتعة وبين العمل عن بعد عبر قنوات حصدت الملايين من المشاهدات وجلبت أعداداً هائلة من المنخرطين؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر برز بعض الشباب الذين جعلوا من السفر مصدر دخلهم من قبيل: الشاب الأردني الأصل "جو حطاب" بعشرة ملايين منخرط في قناته، والمصري حجاجوفيتش 396 ألف منخرط، وهناك من مزج بين السفر وموضوع آخر اختص به كالأردني باسل الحاج، الذي اختص بالتعريف بالأكلات المحلية في مختلف دول العالم، واستطاع أن يستقطب بهذا المحتوى أكثر من ثلاثة ملايين و220000 منخرط على قناته... وغيرهم كثير.

لكن الظروف المشجعة للاتجاه إلى هذا النوع من العمل لدى البعض، ممن يستهويهم السفر والتحرر من أماكن العمل في بلداننا العربية لم تُقابل بتجديد حقيقي لقوانين الشغل، واستقطابٍ فعليٍّ لمثل هذه المستجدات، فقد ظل الأمر مقتصراً على مجهوداتٍ فردية فيها تحدٍّ ومغامرة، أكثر منها تشجيع نوع مبتكر من العمل قد يوفر على الهئيات والمؤسسات المُشغِّلة، حكومية كانت أم خاصة ميزانيات ضخمة، مخصصة لتجهيز فضاءات العمل، وإنشاء بنايات مكتبية ومرافق مُكلِّفة من حيث البناء والتسيير معاً. ففي حين لجأت الكثير من الدول المتقدمة إلى الاعتراف بهذه الظاهرة وتقنينها، والتشجيع عليها سواء من طرف المؤسسات الحكومية، أو الشركات الكبرى كشركة "غوغل"، و"أمازون" أعفت الكثير من عمالها من ذوي "الياقات البيضاء" من الالتحاق بمقرات عملهم، وطلبت منهم العمل عن بعد واضعةً المردودية والنتائج فوق كل اعتبار، بعدما حققت أرباحاً هائلة أثناء فترة الحجر الصحي الطويلة. 

غير أنَّ الأمر في البلدان العربية لا يسير بالإيقاع نفسه على المستوى الرسمي؛ إذ لم تشفع للبعض نجاحاتهم في التألق في العمل عن بعد، والمزاوجة بين جودة الأداء والتحرر من قيد المكان والزمان، في التفكير بشكل عقلاني في إدماج هذه الفئة في المنظومات الرسمية للشغل، ودراسة سبل التمكين لها في الوضعيات التي تكون هي الأجدر على تقديم الصيغة الناجعة للأداء الكفؤ ذي المردودية العالية. وهذا يقتضي فلسفة عمل جديدة لا تربط الممارسة المهنية بعدد ساعات التواجد في أماكن العمل بقدر بما تربطها بالنتائج وتحقيق الغايات الاقتصادية المتطلَّع إليها تحت أية مظلة كانت، بعيداً عن الآفاق المحدودة بقوانين وأنظمة كلاسيكية مُتصَلِّبة، تحُدُّ من الابتكار والإبداع، وتحول دون استدماج آليات العمل المنفتح الخلَّاق خارج دائرة الدوام اليوميِّ الروتيني.


وختاماً؛ فإنَّ الرحل الرقميين أضحوا يشكلون ظاهرة عالمية جديدة بحكم الواقع الفعليِّ، وهي إن لم يكن قد تمَّ التخطيط لها بشكل مسبق في مختلف البلدان، فقد بدأ التعامل معها في إطار المستجدات التي عرفها العالم بفضل تطور التكنولوجيا الرقمية، وطارئ الوباء بجدية كبرى، وحماسٍ شديدٍ بوصفها إحدى البدائل الواعدة والمربحة للعمل المكتبي القارِّ لذوي "الياقات البيضاء"، والقادرة على استقطاب فئات واسعة من المبدعين والمتخصصين في مجالات رقمية دقيقة، بتقليص هامش الهوة بين الخيارات الشخصية والكفاءة العملية. وهذا ما يفرض على بلدان العالم العربي أن تعيد النظر في منظومات وقوانين العمل في مؤسساتها وشركاتها، بحيث تستطيع استيعاب هذه الفئة، والتقنين للاستفادة من خدماتها بسلاسة وذكاء، مما يؤهل العالم العربي للحاق بالركب الدولي في الاقتصاديات الحديثة، وعدم إهدار فرص الاستفادة من طاقات متميزة تتعرض لإغراءات الاستقطاب من دول ومؤسسات أجنبية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها