المَيتُ والحيّ

محمد عباس علي داود

انتبهت على صوته يسألني من أنت، الصوت أعرفه جيداً فهو صوت صديقي سمير، لكن ما الذي أتى به هنا، الحجرة مغلقة ليس بها سواي، والنافذة لا يبدو منها إلا شيش مغلق وزجاج شديد الإحكام.

تلفت حولي، كل شيء هادئ وفي مكانه، بينما تحول الصوت إلى نبرة غضب عاتية يسألني:
– من أنت؟

حاولت التماسك وأنا ألتمس الطريق نحو الباب محاولا رسم خطة هرب سريعة إذا لزم الأمر.
– أنا محمود، وأنت سمير، أعرفك.

هكذا خرجت الحروف مهتزة نوعا ما، لكنها مفهومة على كل حال.
– من سمح لك بالدخول؟

– هذه حجرتي.

– أنت ميت، ليس لك مكان بالوجود.

ازداد قلبي ارتجافاً وغضباً في ذات الوقت، كيف أكون ميتاً وأنا أسمع وأعقل وأناقش؟

الموت جمود، صمت، سكون، بلا خوف، بلا قلق، بلا حيرة مثل الآن.

رفة جفن عيني اليمنى ضايقتني.

يحدث هذا حينما أجدني مجبراً على فعل شيء.

تحركت نحو الباب الذي فتح فجأة ورأيت بسمة أمي تقتحم المكان:
– الغذاء جاهز.

نظرت إليها متسع العينين ولم أنبس بحرف، ولم أنتبه لها وهي تستدير عني إلى المائدة وسط الصالة، فقد كانت عيناي تريان شيئاً آخر، وكأنني أمام فيديو سجل بدقة وحذق ما جرى منذ لحظات، رأيتني وسمير نسير بالطريق عائدين من العمل، سمير يعتصره الحزن للجزاء الذي وقع عليه، يشكو من اضطهاد مديرنا في العمل، تكرار الجزاء والخصم من الراتب لأسباب واهية، ينظر نحوي بعينين تقولان الكثير، أولاده والمدارس وتكاليف الحياة وبخاصة هذه الأيام، هو يعرف أنني قريب للمدير، يستمع لي، ويسألني الرأي في كثير الأمور، لو تدخلت سيسمع لي، مؤكد أستطيع التدخل.

لكنني تغاضيت عن قراءة نظرات سمير، هذه عادتي على كل حال، ما لي أنا ومشاكل الخلق، ثم إن تلك مشكلة سمير وليست مشكلتي، وعليه وحده أن يبحث عن حل لها.

علاقتي بالمدير يجب ألا تشوبها شائبة، أنا أعرفه لا يقبل المساس بقراراته ولا يحب التدخل في شؤونه، يحدثني متى شاء وأنا أسمع وأبدي وجهة النظر التي أعرف أنها سترضيه، وفي ذات الوقت لن تعرضني لغضب قد يكلفني صلتي به، فلماذا أتدخل في هذا الأمر وما الذي سأجنيه منه، ممكن جداً يواجهني بقوله:
– ومالك أنت بالموضوع؟

فماذا أقول لحظتها وبماذا أرد، ولماذا لا يتكلم سمير نفسه ويدافع عن نفسه أو يشرح ما لديه؟

استدرت قاصداً مغادرة الحجرة، لاحقني صوت تحمل نبراته سمات أسف وحزن ظاهرين، لا أعرف لحظتها كيف لم أتعرف عليه، لم يكن صوت سمير، كان صوتاً آخر، صوتاً أعرفه جيداً يقول ويكرر:

– أنت ميت.

– ميت.

– ميت.

أخذت هذه العبارة تتشكل أمامي بأشكال عدة، وجدتني مكمّم الفم مفتوح العينين أشير بيدي والوجوه حولي تضحك هازئة وتشير إلي بلوم، ووجدتني راقداً مقيد الأطراف مفتوح العينين أنظر وأسمع ولا أمتلك الحركة بينما الخلق حولي يتحركون، ورأيتني تمثالاً يقف وسط الطريق يعوق حركة الخلق دون أن يفعل شيئاً، ووجدتني حجراً ثقيلاً يجثم على قلب فتحة في جدار يمنع إنقاذ المحجوزين بالداخل.

كان باب الحجرة مفتوحاً، مائدة الطعام على البعد تدعوني، وأبي وأمي ينتظران قدومي، بينما الصوت يلاحقني: أنت ميت لا مكان لك بالوجود.

تحركت نحو المائدة، علا الصوت، شعرت به يملأ المكان، يرتد عن الجدران بصدى عال ورنين كبير.

الغريب أن والديّ لم يلحظاه.

توقفت مكاني وإذا بي في لحظة عودة وعي لا أدري كيف أنتبه أنه صوتي أنا، الصوت يهزني، يتردد عالياً في صدري، يصب حروفه في أذني: أنت ميت، ميت، ميت.

هرولت عائداً إلى الداخل من جديد محاولاً إثبات أنني حي، أعيش، أتحرك، أفعل ولست حجراً يجثم على قلب فتحة في جدار يمنع إنقاذ المحجوزين بالداخل، فتحت الهاتف، اتصلت بالمدير.

الشيء الجدير بالذكر أن الصوت التزم الصمت.

كنت واثقاً أنه ينصت لحديثي مع المدير عن سمير.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها